نوستالجيا إلى زمن الحماية.. لماذا يتذكر السوريون بيوتهم بعد الحرب؟

لم تعد البيوت بيوتاً، إما دمّرت أو هجرها أصحابها. لماذا يتذكّر السوريون بيوتهم الأولى؟ وما علاقة فعل تذكّرهم وحنينهم بالسعادة؟

«البيت، يا ضوء المساء

أنت قريبٌ منا للغاية، تعانقنا ونعانقك»

ريلكه

**

بأيّ شيء يمكن للسوريّ أن يعرّف بيته؟ إنه ذاكرته، وعزلته الآمنة ما قبل الوباء. ليس البيت، بالنسبة للسوريين والفلسطينيين السوريين، شيئاً أو غرضاً أو إكسسواراً حياتياً، ولا ورقة موقّعة أو صكاً. إنما هو توكيد، عن طريق التذكّر، أنه كانت لهم حياة، وسقف، وأنه كان ثمة ما قبل وباء الحرب، ووباء ما بعد الحرب، أمان لا يخترقه شيء. 

البيت إذن هو كلّ تلك الإحساسات بالسعادة المدفونة بالصدر، والآن، بعد أن انقشع شيء من ضباب الرؤية، وفي مرحلة ما من مراحل وباء ما بعد الحرب، يظهر البيت مجدداً، لا كحجارة واقفة، إنما كفلسفة. لقد انتقل، واقفاً كان أم مدمّراً، بكل ثقله، بأعمدته وحديده وخشبه وإسمنته وكل الأطنان التي فيه، وربض على الصدر.

شهر رمضان، يعني لملايين السوريين، الذاكرة. كانت ثمة أوقات تتحلّق فيها العائلات في البيت، سُفَر آهلة، وضحكات، وأصوات آمنة. لم يكن هناك وباء بعد. حين يقول روبرت فروست، مثلاً، إن "البيت" يعني الوطن، كذلك يعني للسوريين. والبيت أيضاً، هو ذلك المكان، واقفاً كان في هذه اللحظة أو مسوّى بالأرض، الذي يحفظ الذكريات من الضياع.

السوريون والحنين المستمر للبيت

  • صورة من حلب بعد زالزال العام 2023
    صورة من حلب بعد زالزال العام 2023

في مختلف الدراسات أُغفِل المكان فترة طويلة على حساب الزمان. واعتُبر أنّ للزمان أفضلية. إذ يتوغل في مستويات فلسفية وعلمية أبعد لا يطولها المكان. لذا صار له أفضلية وتقدّم عليه. وقد ظلّت نظرة إيمانويل كانط سائدة، في أنّ المكان هو شكل تجربتنا الخارجية، فيما الزمان هو شكل تجربتنا الداخلية.

أما المفكر الإيطالي إيمانويله كوتشيا، وهو آخر من وقف على دراسة المكان، ولا سيما البيت في الفلسفة، فيقول في كتابه "فلسفة البيت"، إنّ الفلسفة كانت على الدوام تعير أهمية قليلة للبيت، وإنّ نسيان البيت كان وسيلة الفلسفة لكي تنسى نفسها.

نعرف أنّ الزمان طغى على الدراسات قبل نشأة العلم الحديث بقرون، وأخذ موقع الصدارة في الدراسات الفلسفية، فيما المكان، ممثّلاً بالبيت، قد يكون أول من فلسفه هو مارتن هايدغر في كتابه "الكينونة والزمان"، ومن بعده إيمانويل ليفيناس في كتابه "الكلية واللاتناهي"، فيما رأى جورج لوكاتش أن الفلسفة برمتها هي "الحنين المستمر للبيت".

تنسحب فكرة لوكاتش على حياة السوريين. فهي ليست إلا "الحنين المستمر للبيت"، ومثلهم مثل فروست، فإنهم حين يقولون البيت فإنهم يعنون به الوطن، ويعنون أيضاً البيت، بيتهم القديم. ولعل أكثر ما تغيّر في حياة معظم السوريين بعد هذه السنوات، هو أكثر شيء جوهريّ بالنسبة للإنسان: البيت. كانت لهم بيوت، من ثم لم تعد كذلك. 

ذلك أن النزوح، مرة ومرتين وربما أكثر، هو سمة طبعت السنوات الأخيرة في الحالة السورية، لا في الحرب وحدها، بل وما صنعه الزلزال في العام 2023 أيضاً. هذه الحالة من عدم الاستقرار والضياع وعدم الثبات في المكان والتأرجح، وكذلك الصدمة النفسية وما بعدها، تُنسي، مهما كان هذا النسيان قصيراً، أنّ ثمة بيتاً موجوداً لهذه العائلة التي نزحت.

في ما بعد، حين تُستعاد هذه الحقيقة بعد أن ينقشع الضباب، لن تكون طبيعية ولا عادية على الإطلاق. إنها استعادة معنى، واستعادة حياة عن طريق التذكّر، يتمسك الإنسان بها ويحاول أن يقبض عليها أطول مدة ممكنة، فيظلّ يكرّرها، داخلياً وخارجياً.

البيت إذن يصبح لا ضديد العالَم، بل فسحة ضدّ ما فيه من قبح. فما بعد الحرب في الشارع السوري، هو الوباء. أكان ذلك سمعياً أم بصرياً، كما هو تغيّر بطبيعة المكان كلّه. فلا الشارع بقي نفسه، ولا الأماكن العامة، ولا المدن. البيت يصبح هو العزلة، كما كان من قبل. لكنه هنا ليس - في الغالب - بيت صاحبه. إنه في أغلب الأحيان بيتٌ مأجور، يشبه المنفى. ما يعني أنّ الوباء سيصل إليه، فيجعله بيتاً من دون عزلة، بيتاً مشاعاً، للأصوات والأضواء وكل ما شابهها، مما يبثّه الوباء.

بيت الطفولة السوري أو تثبيتات السعادة  

  • لقطة من المسلسل السوري
    لقطة من المسلسل السوري "الفصول الأربعة" في جزئه الأول عام 1999

يرى غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان" أنّ البيت ظاهرة نفسية. وباعتبار البيت مكاناً أليفاً، فإن باشلار يعترض على الفكرة الوجودية القائلة إننا حين نولد نُلقى في عالمٍ مُعادٍ، نولد منفيين. فهو يرى أننا نُلقى، في البداية، في هناءة بيت الطفولة.

وبيت الطفولة هذا بالنسبة للسوريين، هو بيت ما قبل الحالة الراهنة، البيت الأول قبل النزوح. وفي حديثه عن بيت الطفولة يقول باشلار أيضاً إننا إذا طالعنا بألفة، فسيبدو أيأس بيت جميلاً. 

النقطة الأساسية التي ينطلق منها باشلار هي أنّ البيت القديم، بيت الطفولة، هو مكان الألفة ومركز تكييف الخيال، وعندما نبتعد عنه (في الحالة السورية: قسراً) نظلّ دائماً نستعيد ذكراه، ونُسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية ذلك الإحساس بالحماية والأمن اللذين كان يوفّرهما لنا البيت، أو أنّ البيت، كما يصفه باشلار، "يركّز الوجود داخل حدود تمنح الحماية". من هنا تصبح كل الأمكنة المأهولة حقاً تحمل جوهر فكرة البيت. 

وعليه، فإن المكان الأليف بالنسبة للسوريين هو البيت الأول، البيت البعيد عن الوباء زمنياً ومكانياً. ما يعني أنّ الحديث في جوهره هو حديثٌ عن البيت السوري قبل الأزمة ومآسيها، بوصفه أرضاً للطفولة. أي السكون والسكنى، وقد تحدّث الشاعر اللبناني شوقي بزيع عن هذا الارتباط من قبل، لافتاً إلى أنه ليس مصادفة الارتباط بين البيت بصفته سكناً وبين السكون في اللغة العربية.

من هنا يصبح مفهوماً لماذا تُسمى معظم المطاعم والأمكنة التجارية أو العامة اليوم بـ"البيت"، من قبيل: بيت ستي، بيت جدي، البيت الدمشقي، بيت الـ... إلخ. 

لا ريب أنّ الحالة اليوم مختلفة، فلا البيت السوري بقي بيتاً، ولا السكون ظلّ. من هذا المنطلق يمكن أن يتمثل الوباء سمعياً، في الأصوات، أو استعادتها: أصوات الحرب، النزوح، الهرب. وكذلك يتمثل في الراهن من أصوات الضجيج، والكثافة، والأغاني السائدة، وكل ما شابه. أما بصرياً، ففي كل ما يمكن رؤيته من ملوّثات الحرب.

وفقاً لإيمانويله كوتشيا في "فلسفة البيت"، أن تسكن لا يعني أن تكون محاطاً بأشياء، ولا أن تكون لك حصة من الفضاء الأرضي لتشغله. فالأمر يعني نسج علاقة قوية ومكثفة مع بعض الأشخاص والأشياء إلى حد جعل سعادتنا وأنفاسنا غير منفصلتين. وكل بيت بالنسبة له، هو واقع أخلاقي بحت. فنحن نبني البيوت لاستقبال، وبشكلٍ حميمي، جزء من العالم، مؤلف من أشخاص وأشياء وحيوانات ونباتات وأحداث وصور وذكريات، يجعل سعادتنا نفسها ممكنة.

البيت القديم، أو بيت الطفولة السوري، بيت ما قبل الحرب، هو جزء راسخ من تثبيتات السعادة التي يتحدث عنها باشلار. وهي، وفقاً للتعريف: المرض الذي يثبت فيه الإنسان عند مرحلة من الطفولة لا يستطيع تجاوزها.

في هذا السياق، يبدو مفهوماً ارتباط الجمهور السوري اليوم بأعمال درامية قديمة مثل مسلسل "الفصول الأربعة"، والبحث المستمر عن البيوت التي تمّ تصوير بعض الأعمال الدرامية الخالدة فيها، إلى حدّ أنه تقريباً، على المدى اليومي، تعج وسائل التواصل الاجتماعي بفعل التذكّر هذا. 

كما تصبح مقولة "يصبح أيأس بيت جملاً" لباشلار واضحة، ففي التذكر والاستعادة، ليس ثمّة فرق بين بيت مالك بك الجوربار وبيت نجيب، عدوه البروليتاري في "الفصول الأربعة". فـــ "البيت" هنا هو نقطة التركيز الأولى والأخيرة، بما فيها من نوستالجيا إلى زمن الحماية. فتثبيتات السعادة، هي الراحة عبر معايشة، مرة أخرى، ذكريات الحماية.

ويتحقّق ذلك في ما يقوله باشلار: "إنّ البيوت المتعاقبة التي سكنّاها جعلت إيماءاتنا عادية، ولكننا نندهش حين نعود إلى البيت القديم بعد تجوال سنين عديدة، أن نجد أدق الإيماءات وأقدمها تعود للحياة. إذا ما انتقلنا إلى الصور التي ترغمنا على تذكّر ماضينا، فعندها يجب أن نتعلّم دروساً من الشعراء، فبأيّ قوة يقدّمون لنا البرهان على أنّ البيوت التي فقدناها إلى الأبد تظل حية في داخلنا، وهي تلح علينا لأنها تعاود الحياة وكأنها تتوقّع منا أن نمنحها تكملة لما ينقصها من حياة".

مما يؤسف له، أنّ بيوتاً سورية عديدة فُقِدت إلى الأبد، ومن المستحيل منحها ما ينقصها من حياة. لذا، تثبت حياة صاحبها فيها عندما كانت واقفة.