نيكوس كازانتزاكي: صراع الشرق مع الغرب

الموتى يحكمون، ويبدو أنهم آباء حقيقيون فيما الأحياء منهم ينجبون أجساداً ويزرعون أرواح الأجداد فيها.

  • رواية
    رواية "حديقة الصخور" بترجمة خالد الجبيلي

يُبحرُ الكاتب اليونانيّ نيكوس كازانتزاكي (1883-1957) نحو الشرق؛ إلى اليابان والصين، ويرصد عبر روايته "حديقة الصخور" (دار نينوى 2022) بترجمة خالد الجبيلي، التغيّرات الثقافية الهائلة في البلدين، والأحوال التي دفعتهما لمحاربة سطوة الهيمنة الغربية في مرحلة تصاعد الخلاف بينهما. بروحٍ تواقة إلى الأبدية، وجسدٍ مستعدٍ للتماهي، يحمل بطل الحكاية  كل الأسئلة والتناقضات ويبحر نحو الشرق القديم، بكل ما فيه من غرائبية ونكران لعالم المادة، ما يجعل النص يبدو وكأننا بصدد قراءة رواية، إلا أننا نكتشف كتاباً ينتمي إلى أدب الرحلات في بعض أجزائه. ولربما يُوسمُ بكونه دليلَ سفرٍ منسجم مع انعكاسهِ الفلسفي والفني على حياة الكاتب ذاته. تجري الأحداث عام 1936، حين زار الكاتب الشرق بالفعل، وفي فترة اندلعت خلالها حرب بين اليابان والصين، واستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن ذلك لم يرجح الكفة لصالح طغيان الحدث السياسي على تفاصيل الرحلة، ويصح ألا تنسَبَ الرواية إلى مدوّنة الحرب. بل على النقيض من ذلك، يبرهن الكاتب على قدرته الشعرية في استعراض المقتلة، ميالاً إلى توظيف كشوفات عميقة لما خفي من فلسفة البلدين المؤثرة في شخوص الرواية. 

"أن تتحرر من التقاليد القديمة وتدع الأموات يتعفنون في قبورهم، وأن تقر بأن للأحياء الحق في الحياة". يسافر البطل الراوي في طريقه لملاقاة صديقه الصيني (لي تي)، ويسترجع في أثناء رحلته ذكريات الدراسة معا في أوكسفورد. ومعها تتسلل إليه ذكريات حب صديقه لإمرأة يابانية مثيرة. تجري الأحداث ويصدفها الكاتب على متن السفينة في طريقه إلى اليابان، وبُعيد اندلاع الحرب، يُفاجَأ بالجميلة (جوشيرو) تعملُ جاسوسة لبلادها. ويدرك حقيقة كونها عدوّاً حقيقياً لصديقه وحبيبها في آن معاً، ما يجعل من قصة الحب تلك معركةً حاقدة بعد انخراط (لي تي) في الحركة الشيوعية الصينية. 

هكذا نكتشف من خلالهما صراع المرء الأبدي بين نفسه وبين العالم الخارجي، إذ تشكل قصة حبهما دعامة لتأسيس النص على فكرة الواجب المقدس، ونبذ الذات وبذلها في سبيل فكرة وجدانية عميقة لدى ثقافتين صارمتين، وفي بلدين تقوم الحياة فيهما على تهذيب النفس، ومنحها الصلابة لصالح تقديس الواجب في معركته مع الرغبة. 

يتعدى الكشف مناطق محظورة من الثقافتين، ويسبرُ شخصيات غامضة وصامتة. يناقش عنفاً تمارسهُ قوى أزلية تضغط على مصائر الشخوص حتى تطال الكاتب ذاته. هكذا في فضاء لا يعلو فيه صوتٌ فوق صوت الواجب، يسيطر اعتقاد مطلق بإيمانيات متشعبة، ويُجبَرُ الجميع على بذل كل ما يمكنه أن يعيق حريتهم ويدفعهم إلى القيام بما يجب القيام به لا أكثر. إنها حرب العرق الأصفر بثقافته المنضبطة ونبذه الأزلي لحياة العرق الأبيض وحرياته الشائكة.

هي صراع الشرق مع الغرب، ذلك ما يتضح للكاتب بعد مغادرته اليابان متجهاً إلى أصدقائه في الصين. واكتشافهِ انقلاب صديقه وتحوله إلى شخص آخر. فالأحداث تفضي إلى سيطرة تلك القوى على مصيرهِ، ذلك أنه وعلى غير المتوقع يقع في أثناء إقامته في منزل صديقه بحبّ أخته (سيو لان)، وهنا يعود الحب ليعقد الأمور مرة أخرى. نمسي بصدد صراع مجنون وقد يكون غير مقنع في بعض أجزائه. إذ ينزعُ الكاتب في بادئ الأمر نحو رغبة جارفة لضم الفتاة إلى قائمة نسائهِ، لكنه ومع انخراطه في نمط الحياة الصينية يكتشف في داخله شغفاً جديداً. وكأنه غارق في الحب! هكذا بعيداً عن فتوحاته الجنسية، وغرامياته المؤقتة يُفاجئ نفسه كرجلٍ خرج لينقذَ روحه، فغرق معها في منطقة بعيدة غير مأمونة العواقب. إنها منطقة الحب المحظورة في فضاءٍ يقصي المشاعر ويردمها. 

"لو تمكنتُ من اختراق أسرارها أكون قد اخترقتُ الصين السحيقة في الزمن.." من نقطة الانغماس تلك، وتحت ستار حرب الكراهية الصامتة بين البلدين، تظهر عواقب فلسفاتٍ متناحرة، ويُحوّلُ الحبُّ البطلَ إلى باحث دؤوبٍ عن الحقيقة، وكأنه طالبُ علم جاد، ينبذ إرث الأسلاف، ويغوص عميقاً في نقد المحرمات. يمتلك شجاعة لمواجهة مشاعره، ومملوءاً بالسخط حيال نساء أتلف الحب عالمهنّ.

هكذا بقلوب مستكينة واستعبادٍ جماعي عام، نكتشف عبر علاقته الصامتة بسيو لان حال البلاد الشبيه بحال نسائها. فالموتى يحكمون، ويبدو أنهم آباء حقيقيون فيما الأحياء منهم ينجبون أجساداً ويزرعون أرواح الأجداد فيها. نقرأ هنا صوتاً يمسك بيد الحرية، ويدعو إلى التحرر من تقاليدٍ ميتة. ينبذ بمحاوراتٍ صارمة ما زرعه الأموات في نفوس من حوله، ويقرّ بحق الأجيال في الحياة. لكن الحب يصر على مفاجأته مرة أخرى حين يتحول إلى رغبة بالقتل، إذ تُؤسَرُ (جوشيرو) في أثناء محاولتها إفساد جنرالات صينيين، ويفيض قلب (لي تي) حيالها بالحقد، وَيذعن إلى نبذ مشاعره والتخلي عنها لصالح واجبه الأسمى في حب الوطن كأقصى ما يمكن للمرء أن يؤمن به. "غادرتُ البيت حزين القلب وتهتُ في ذلك المشهد الذي يسببُ شعوراً بالهلوسة في بكين كأنك حشرة نهمة ضاعت في متاهة نبتة سحلبية كبيرة وكلما انبثقت خرجت مذهولة ومتعبة."