هايكة فيبر تحتفي بفن التطريز الكنعاني

رغم اتكاء الألمانية فيبر مع السيدات السوريات اللواتي شاركنها شغفها في فن التطريز، على استلهام القُطَبْ والغرزات والزخارف النباتية والهندسية من التراث السوري، إلا أنهن خرجن بمنتجات معاصرة، مُنْعِشاتٍ الفن بجمالياته الوظيفية.

"لأننا نحتاج الأمل والألوان"، بهذه العبارة صدَّرت الألمانية هايكة فيبر معرضها المُقام في صالة زوايا الدمشقية بعنوان "عناة"، والمتضمِّن لوحات مشغولة بتقنية خاصة من التطريز، إلى جانب مجموعة من المشغولات اليدوية كمفارش الطاولات وأغطية الوسائد والألبسة والحقائب والأحذية، وكلها تتضمن عناصر فنية وجمالية ترجع جذورها إلى المطرزات القديمة التي اشتهرت بها بلاد الشام منذ أيام الكنعانيين 1500 قبل الميلاد.

ورغم اتكاء الألمانية فيبر مع السيدات السوريات اللواتي شاركنها شغفها في فن التطريز، على استلهام القُطَبْ والغرزات والزخارف النباتية والهندسية من التراث السوري، إلا أنهن خرجن بمنتجات معاصرة، مُنْعِشاتٍ الفن بجمالياته الوظيفية، بحيث أن كل ما عُرِضَ لا يكتفي بمكانته كلوحة فنية مكتملة الأركان، وإنما يتعدَّاه إلى دوره في الحياة وتعزيز ألوانها وبهجتها، وكأنهن في ذلك يحيين الآلهة عناة "يمامة الأمم" ويُطلقن جناحيها من جديد في مواجهة سوداوية المآسي التي نعيشها.

الأمل الذي بدأت فيبر بزراعته منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي ما زال مستمراً، رغم أن الحرب أوقفت توسُّع نشاطاتها إلى جميع القرى والمدن السورية، فبعد تعاونها مع نساء جبل الحص في جنوب حلب، وأخريات من السويداء وإدلب ودمشق، ومن ثم مشغلها في منطقة التضامن وما ضمَّه من سوريات وفلسطينيات، ومحلَّها في باب شرقي الذي تم سلبه منها مؤخراً، كل ذلك لم يوهن عزيمتها، بل زادها إصراراً على العمل ونشر الجمال وإحياء التراث.

والمتمعّن في المعروضات، سيتيقَّن مقدار الدِّقة في الشغل، سواء اللوحات بألوانها المفرحة والتي جاءت من خيالات النساء كتعويض لرماديات الواقع الذي يعشنه، أو المشغولات اليدوية وما تحويه من قُطَب بتقاطعات صغيرة وغرزات ملونة لها مرجعياتها ودلالاتها وهو ما وثَّقته هايكة في كتابها باللغة الإنجليزية "عناة وبطلها بعل.. لغة أسلوب التطريز في بلاد الشام" (ANAT and her hero BAAL.. The Embroidery Pattern Language of the Levant).

فمثلاً السلالم الملونة المُطرَّزة على ياقة مثلثة الشكل هي النزول نحو الموت ثم الصعود مجدداً نحو الحياة، بينما القطبة المتصالبة التي تحوي خطاً أفقياً هو الموت يقطعه خط عمودي يعني الحياة، أما الملابس التي تتضمن قطعاً قماشية متنوعة محاكة إلى جانب بعضها البعض، فتهدف إلى أن تضيع فيها الروح الشريرة لئلا تقترب ممن يرتديها، والأشكال الثلاثية ترمز للولادة والحياة والموت، كما هي فصول السنة حسب التقويم الزراعي، ووجود الشكل الذي يشير للقمر ضمن المطرزات، ينبغي أن يكون دوماً في المنتصف فهو المنظم الأساسي للزمن، وهكذا.

وهناك بعض المعروضات تستلهم لوحات أبو صبحي التيناوي وخاصةً رسوماته لعنتر وعبلة، وكنزات ومعاطف مشغولة بأقمشة البروكار الموشاة بخيوط الحرير والذهب والفضة، وأخرى تستخدم تقنية تطريز الآغباني الدمشقي مشكِّلةً نماذج باذخة الرهافة من الألبسة وأغطية الطاولات، ويزيدها بهاءً بعض المقاطع الشعرية من مثل العباءة التي كُتِبَ عليها مقاطع من قصيدة نزار قباني "أحب دمشق هواي الأرقَ أحبّ جوار بلادي".

وعلى كنزة وبخيوط مُطرَّزة على شكل خريطة فلسطين نقرأ شعراً مخصصاً للربة عناة، سبق أن غنَّته الراحلة ريم البنا ومنه نقتبس "عناة يا أمي.. يا مرجة الأقحوان.. ألا قولي لي من علَّمك لحن النشيد.. أسمعيني صدى صوتي.. يركض فوق قمح الحصيد.. صوتي الصاعد إلى حرمون المنحدِرِ.. عناة يا أمي.. رُدِّي إليّ صوتي المبعثر فوق حصى الوديان.. ردِّدي معي لحن النشيد.. على الجبل المقدس.. أوقدي الشعلة الممتدة من روحي إلى فضاءات القصيد.. فأنا أسمع صوته الآتي من البعيد.. بعلو النشيد".

وهناك جزادين مطرزة بزخارف نباتية وحقائب وفساتين طفولة تُقارب كونها لوحات متنقلة، وشالات وإكسسوارات للزينة، ومنها قلادة مكتوب عليها المقولة النزارية "لا أستطيع أن أكتب عن دمشق دون أن يعرش الياسمين على أصابعي"، وهناك مفارش طاولة ومحارم طعام تؤطرها بخط كوفي جميل بضعة آيات من سورة البقرة "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان".

هذا فضلاً عن اللوحات التي تُمثِّل سهولاً ومروجاً وجبالاً ومنازل بقباب ملونة، وأخرى تسعى لتصوير مشاهد من ممارسات الإرهابيين في القرى السورية، فنرى اللون الأسود يستأثر بمساحة أكبر وكأنه يجثم على بقية الألوان، ويشكل مع رايات تنظيم داعش ما يُخلخِل البهجة الكامنة في بقية اللوحات بألوانها الماتيسية (نسبة إلى ماتيس) وجرأتها في التجاور، والحيوية العالية في تراكب الأشكال من بيوت وأشجار وحيوانات أليفة وغير ذلك.

كل ذلك يجعل من معرض عناة في صالة زوايا، إضافة إلى كونه مفعم بالبهاء والإتقان، فإنه يحمل رسالة جمالية تنقل مفردات التراث بخصوصيتها العائدة إلى منطقة منشؤه، وتثبِّته في الأذهان كعنصر تشكيلي جذاب، يتماهى مع مستلزمات الحياة المعاصرة بأزيائها ومستلزمات منازلها.