هدنة
يريد الغزي هدنة ليؤمّن طعامه، لأن هذا بات ترفاً لا يملكه خلال الحرب.
يبشروننا بقرب التوصل إلى اتفاق "هدنة" بيننا وبين الاحتلال الإسرائيلي. الكل هنا فرحون لأن كربة غزة ستفرج وتزاح الغمة. الحمد لله الذي سيأذن بتيسير أمور هذا الاتفاق حتى يصبح واقعاً. وكفرد من قطاع غزة، فإني أنتظر الهدنة، أي هدنة، على أحر من الجمر.
لكن هناك أموراً كثيرة لا بد من توضيحها، لتكون أمامكم الصورة الحقيقية العميقة، لا السطحية.
إن الهدنة ليست حلاً جذرياً للفلسطينين، أو على الأقل للمواطن الغزي، بل هي حل مؤقت يقتصر على 60 يوماً! ولا ندري إلى أين ستأخذنا هذه المدة. إلى اتفاق شامل أم ستعيدنا إلى الحرب؟
هذا ما يتخوف منه الغزي، أن تستكمل القنوات الإخبارية تعداد أيام حرب "طوفان الأقصى" وشهدائها. الهدنة ستوقف زيادة تعداد الشهداء، ولن يكون هناك قصف، لكن هذا لا يعني أن سماء قطاع غزة ستخلو من طائرات الاستطلاع الصهيونية، بل ستبقى، وتجدد بنك أهدافها!
في الهدنة، سيودع الغزي 4 شهور من الجوع، لأن المساعدات الإنسانية ستدخل، ووتيرة تدفقها إلى القطاع هي التي ستحدد نسبة انخفاض أسعار السوق.
وربما إن دخل غاز الطهو، سيودع الغزي معاناة النار، ويرتاح صدره من دخانها، وينخفض سعر الأخشاب.
أما خبر حصيلة الشهداء اليومية فسيفارق الأخبار العاجلة، تعلمون هذا جيداً، وكل ما ذكر يشعر ضميركم بنوع من الراحة، لكن لا تنسوا ولا تتناسوا أن الهدنة ستكشف قصص الراحلين، ومعاناة الباقين، والتي يكمن الاختلاف فيها عن معاناة الحرب التي تضج بها القنوات الإخبارية، فقط بأن الغزي لن يستيقظ على قصف، لن يستيقظ ليركض نحو المستشفى كالمجنون ليودع شهيده.
ستخف صعوبة جلب الطعام والشراب، لكن، ستبقى الخيمة تلاحق ابن غزة بحرّها وبردها، فلا بيت سلم من هذه الحرب.
ستبقى الحشرات تقرصهم وتشوه منظر جلدهم، وطوابير التكايا وسقيا المياه لن تنتهي، ربما يخف عدد المنتظرين، لكن الهدنة لن تجعل زمن طوابير التكايا وسقيا المياه ماضياً، لا.
فالحرب رفعت نسبة البطالة، وتعجز الهدنة عن خفضها في يوم وليلة. والهدنة عاجزة عن أن تعيد النبض للأحلام وطموحات الناجين. فماذا ترك لهم القصف الهمجي الذي لا يرحم مباني التعليم؟
القصف لم يرحم لا مسجداً، ولا مدارس، ولا منازل. ولكي تكونوا أقرب إلى صورة الدمار الذي أقصده، سأشير إلى أن نسبة دمار مدينة رفح تتجاوز 90%، فكم يا ترى ستكون مدة الإعمار؟
ولأزيدكم علماً، فإن الهدنة لا تؤكد منح سكان مدينة رفح حقهم في العودة، حتى أن الاحتلال التهمها بأخذه محوري فيلادلفيا وميراج، وهذا ما يجعلني أظن أن رفح أصبحت أرضاً محتلة مجدداً. إن مسحت رفح عن الخريطة، فماذا سيتبقى من قطاع غزة؟
بعد كل هذا، ربما تتساءل: لماذا يريد الإنسان الغزي الهدنة؟ اسمح لي بأن أجيب، بعد أن أذكرك بأن هناك كثيراً من الأيتام، فنحن نتحدث عن نسبة تقريبية بنحو 5% من الشهداء في قطاع غزة. برأيك، أي هدنة ستنفعهم؟
الباقون في غزة، الناجون، هل ستتعافى أرواحهم؟ هل ستجبر كسورهم؟ الهدنة تعجز عن مداواة المدن.
يريد الغزي هدنة ليؤمّن طعامه، لأن هذا بات ترفاً لا يملكه خلال الحرب.
الآن، يخطر ببالي قول لمحمود درويش: "ولنا أحلامنا الكبرى، كأن نصحو معافين من الخيبة".
لو تدري يا محمود دويش أن التعافي من الخيبة حلم لن يتحقق! لأنه كابوس يلاحقنا، فقد صارت جزءاً منا، متجسداً في كل شيء... حتى مسكننا صار خيمة.