هَزَم نابليون.. هل هناك علاقة بين "الحشيش" والإبداع؟

حظره نابليون و"ألهم" أدباء فرنسا الكبار. تعاطاه بعض المتصوّفين، ولنجيب محفوظ رأي فيه. هل يلهمنا "الحشيش" ويسكّن آلامنا فعلاً؟

كان للحملة الفرنسية على مصر أثر ثقافي كبير على البلاد، ابتداء من فك رموز حجر رشيد، وبداية لما عرف بعلم المصريات، ثم إعادة قراءة الحضارة الفرعونية واكتشاف أسرارها، مروراً بإدخال أول مطبعة بحروف عربية، وكتابة موسوعة "وصف مصر" التي تعد أهم ما نشر عن الموروث الثقافي والعلمي واللغوي والتاريخي المصري في الفترة بين 1798-1801.

بدورها، تركت مصر أيضاً أثرها على فرنسا، عبر مواطنيها وعساكرها الذين أتوا مع الحملة الفرنسية، ولم يرجعوا إلى بلادهم كما جاءوا. بل خرجوا حاملين موروثاً ثقافياً ومنجزاً علمياً، والكثير من كنوز مصر وآثارها. أما أبسط ما خبّأه الفرنسيون في حقائبهم أثناء عودتهم من مصر، فكان قطعاً صغيرة بنية اللون، زعم مبدعو باريس بعد ذلك، أنها "ألهمتهم" أعظم أعمالهم الأدبية والفنية. إنها "الحشيش المصري" (القنّب) الذي كانت له معركة مع نابليون بونابرت انتهت بهزيمة الإمبراطور الفرنسي.

نابليون يصدر أول قانون بحظر "الحشيش" في العالم

  • نابليون في مصر، زيت على لوح لجان ليون جيروم، 1863.
    نابليون في مصر، زيت على لوح لجان ليون جيروم، 1863.

بدأت الحكاية حين وجد نابليون بونابرت، خلال حملته على مصر عام 1798، عدواً غير متوقّع لا يمكن محاربته بالسلاح، وهو مخدّر "الحشيش" الذي سرعان ما سقط الجنود الفرنسيون تحت تأثيره، فبدأوا يرفضون الانصياع إلى قرارات نابليون. الأمر الذي دفع الإمبراطور الفرنسي إلى إصدار قانون، هو الأول من نوعه بما يخص "الحشيش"، منع بموجه إنتاج وحيازة وتعاطي هذا المخدّر تحت طائلة السجن.

لكن على الرغم من ذلك، ظل الجنود الفرنسيون يتعاطون "الحشيش" سراً وإن بنسبة أقل ممّا كانوا عليه سابقاً. كما أن شغفهم بالمخدّر المصري لم ينتهِ هنا. إذ حملوا "الحشيش" في حقائبهم إلى باريس مع جلاء الحملة الفرنسية عن مصر. 

في تقرير مصوّر، يذكر التلفزيون الفرنسي أن وصول "الحشيش" إلى باريس أصبح ظاهرة واكتسب شعبية غير مسبوقة بدعم "علمي" لا يصدّق. فقد نشر علماء فرنسيون حينها، دراسات تؤكد فوائد "الحشيش" المقبل من مصر، وربما جاء بعضها تحت وطأة ما تفتقت عنه مخيّلتهم حول الشرق و"سحره". كما جرّب طبيبان فرنسيان "الحشيش" ونشرا بحماسة بحثين أكدا فيهما "الفوائد الطبية المهمّة للحشيش".

وفي الوقت الذي يتغنّى الفرنسيون بالعلوم والثقافة التي نقلوها إلى مصر، بدأ آخرون التغنّي بــ "نعمة الحشيش" التي جلبتها مصر إلى فرنسا، ومن أجل إيصال هذه "النعمة" إلى الجمهور، أنشأ الطبيبان المذكوران "نادي المحششين" داخل أحد فنادق باريس.

سرعان ما تحوّل هذا النادي إلى قِبلة لكبار الفنانين والأدباء الفرنسيين، حيث يتشاركون مصدر "إلهامهم" لكتابة روائعهم مثل شارل بودلير وفيكتور هوغو وبلزاك وغيرهم. ومنح هؤلاء سهراتهم "الإلهامية" اسم "فانتازيا"، حيث تعاطوا "الحشيش" المصري على شكل مستخلصات دهنية مخلوطة بالزبدة، وأنواع أخرى من التوابل والأعشاب.

هكذا قضى هوغو وبلزاك وبودلير وغيرهم الليالي وهم يحلمون وينتظرون "الإلهام" الذي سيمنحهم إياه "الحشيش" من أجل الكتابة والرسم، إذ يسهل عليهم بلوغ "الشرق الخيالي والأسطوري".

الفقراء يهربون به من مأساتهم والصوفية يتقرّبون به إلى الله

  • ضريح لال شهباز قلندر (محمد عثمان المروندي) في سيهون جنوبي باكستان (فاروق سومرو)
    ضريح لال شهباز قلندر  (محمد عثمان المروندي) في سيهون جنوبي باكستان (فاروق سومرو)

بدأ رصد تعاطي "الحشيش" المصري وتأثيره على الناس مبكراً. فقد جاء في كتاب "الخطط والآثار" للمقريزي، الذي عاش في القرن الــ 8 الهجري، شيوع تعاطي هذا المخدّر بين الطبقات الدنيا في مصر، وقد أسماه "حشيشة الفقراء"، مشيراً إلى أن من يتعاطى "الحشيش" هم "أراذل الناس". 

وقبل قرن تقريباً من إشارة المقريزي تلك، لاحظ الظاهر بيبرس حالة الانهزام التي أصابت الناس، وتكاسلهم في الأزقة تحت تأثير "الحشيش"، فأمر بمحاربته ومعاقبة من يتعاطاه، لعلهم يستيقظون لمواجهة خطر الصليبيين والتتار الذي كان يهدّد البلاد آنذاك.

ولإقبال المصريين على "الحشيش" دون غيره نسقَين، أحدهما اجتماعي والآخر ديني، حيث رأى أديب نوبل نجيب محفوظ أن رواج "الحشيش" سببه الأوضاع السياسية السيئة، وشعور الناس بالظلم والقهر، وذكر رجاء النقاش في كتابه "في حبّ نجيب محفوظ" على لسان أديب نوبل، قوله إن "الحشيش خفّف عن الناس المرارة التي يعيشونها في نهارهم، وكان بمثابة المسكّن للأوجاع في الليل".

أما النسق الآخر الذي ساعد على رواج "الحشيش" بين الطبقات الدنيا دون غيره من المخدرات أو المسكرات، فهو النسق الديني، حيث إن أبناء الطبقات الفقيرة، بحسب قول محفوظ،  لا ينظرون إليه نظرة التحريم التي يرونها في الخمر، "فالإنسان المصري لديه استعداد لأن يدخن الحشيش ولكنه لا يشرب البيرة مثلاً، رغم أنها أخفّ أنواع الخمور، وذلك لاعتقاده أنه لا يوجد نص ديني قاطع يحرّم الحشيش بالتحديد".

ولعل أحد أسباب انتشار "الحشيش" بين عامة الناس، الاعتقاد الذي ساد عند بعض الفرق الدينية المتصوّفة كأداة تعبّدية تسمو بالروح، ولا سيما في القرن الــ 7 الهجري، حيث ظهر بين الدراويش على يد شخص يدعى الشيخ حيدر، وكان أول من اكتشفه وطلب من أصحابه كتمان سرّ هذا النبات، إلا عن الفقراء.

ويظهر، كما يتفق علماء المصريات، أن نبتة "الحشيش" (القنب)، استخدمت من قبل المصريين القدماء في إنتاج الحبال والسفن والقوارب الشراعية والأقمشة وكذلك الاستفادة منها طبياً. لكن شيوع استخدام الحشيش حديثاً بين الناس لم يزد عن كونه مخدراً يتعاطونه، وإن اختلف المقصد من وراء ذلك بحسب كل شخص، سواء "الهروب" من الأوضاع السيئة عند الفقراء، أو الوصول إلى "السمو الروحي" لدى بعض المتصوفة، أو تعاطي بعض الأدباء له بوصفه جالباً لـــ "الإلهام".


بين العلم والوهم.. هل يساعد "الحشيش" في الوصول إلى الإلهام؟

  • بين الحقيقة والوهم.. هل أثّر
     استفاد المصريون القدماء من نبتة "الحشيش" (القنّب) في الصناعة والطب 

لكن يبقى السؤال الذي نحن بصدده؛ هل هناك علاقة بين الإبداع وتعاطي "الحشيش"؟ الطريف أن العلم أثبت أن ثمة علاقة بينهما، لكنها علاقة سلبية لا إيجابية، أي أن تعاطيه قد يعوق الإبداع ويضر بالدماغ البشرية، وليس جالباً للوحي والإلهام، كما توهّم بودلير وهوغو وباقي رفاق "نادي المحششين".

ولكي يثبت العلم أوهام أعضاء "نادي المحششين" بوصولهم ذروة خيالهم الأدبي، في إثر تعاطيهم القنّب، كان عليه اقتطاع مدة زمنية مقدارها 200 عام تقريباً، وتحديداً في شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 2014، حيث أجرى باحثون في معهد علم النفس في جامعة ليدن الهولندية، دراسة نشروا تفاصيلها في دورية "علم الأدوية النفسية"، والتي أثبتت أن "القنّب بأنواعه وعلى رأسها الحشيش يؤثّر على المزاج والإدراك وغيرها من الوظائف المعرفية للإنسان، وليس كما يعتقد البعض بأنه يحسّن الإبداع".

حاول الباحثون الهولنديون اختبار مدى تأثير مادة "التترا هيدرو كنابينول" (THC) الأكثر ضرراً، والموجودة في "الحشيش"، على التفكير الإبداعي. هكذا أجروا اختباراً على 59 شخصاً يتعاطون "الحشيش" بشكل منتظم (52 ذكراً و7 إناث)، وقسّموهم إلى 3 مجموعات، الأولى أعطوها جرعات مرتفعة، والثانية منخفضة من الحشيش، فيما أعطوا الثالثة جرعات وهمية من الحشيش.

بعدها طُلب من المشاركين استكمال سلسلة من المهام المعرفية التي تقيس شكلين من التفكير الإبداعي، هما التفكير التباعدي، وهو ابتكار أكثر من حل للسؤال المطروح، والتفكير التقاربي وهو اختبار الجواب الصحيح الوحيد على السؤال من الأجوبة الخاطئة، فكانت النتيجة أن وجد الباحثون أن الحشيش الذي يحتوي على نسب مرتفعة من مادة "التترا هيدرو كنابينول"، أثّر بشكل كبير على التفكير والطلاقة والمرونة في الأجوبة عن الأسئلة، بالمقارنة مع المشاركين الذين أخذوا جرعات وهمية.

كما وجد الباحثون أن الذين تعاطوا "الحشيش" الذي يحتوي على جرعات منخفضة من مادة "التترا هيدرو كنابينول"، لم يتفوّقوا في التفكير الإبداعي على من تعاطوا الجرعات الوهمية، وفي الأخير استخلص الباحثون نتيجتهم بأن "تحسّن الإبداع نتيجة تعاطي الحشيش مجرّد وهم".