هكذا تحدث الطيب الصالح عن آثار الاستعمار

شكلت رواية"موسم الهجرة إلى الشمال" لدى العديد من الباحثين والنقاد الأوروبيين مدخلاً لدراسة آثار الاستعمار على الصعيدين الاجتماعي والثقافي.

  • الطيب الصالح يتحدث عن صراع الحضارات
    الطيب الصالح يتحدث عن صراع الحضارات

تحل الذكرى الـ24 لرحيل الروائي السوداني الطيب صالح، الذي يعد من أشهر الأدباء العرب في القرن العشرين على الرغم من أنه أقل الروائيين العرب إنتاجاً. فالطيب لم يكتب إلا خمس روايات صغيرة الحجم، ولا يزيد أي منها على 200 صفحة من الحجم الصغير.

اشتُهر الطيب برائعته "موسم الهجرة إلى الشمال"، التي تعتبر من أهم الروايات في الأدب العربي، والتي صدرت في بيروت عام 1966. فهي رواية صغيرة إلا أن معينها لا ينضب، فلا يشبع القارئ من قراءتها، وكلما عاد إليها استخلص منها أفكاراً جديدة لم تخطر على باله من قبل.

أهمية رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"

يصف الناقد الألماني هانز بيتر كونش رواية "موسم الهجرة إلى الشمال": بأنها "رواية كلاسيكية لأدب ما بعد الكولونيالية تكتشف من جديد. فمنذ نشرها لأول مرة في منتصف الستينيات توطدت "ككتاب مقدّس" في أوساط المثقفين وهي الآن في مصاف الأدب العالمي،لفترة طويلة. وقبل أن يصدر صاموئيل هانتنغتن كتابه "صراع الحضارات"، تطرق الطيب صالح إلى هذا الموضوع الذي يثار في عالم اليوم والذي طبع تاريخ المنطقة والبلد الذي ينتمي إليه.

لقد شكلت رواية"موسم الهجرة إلى الشمال" لدى العديد من الباحثين والنقاد الأوروبيين مدخلاً لدراسة آثار الاستعمار على الصعيد الاجتماعي والثقافي التي ما زالت تربط بين البلدان الأوروبية وشعوب مُستعمراتها رغم الاستقلال السياسي لتلك البلدان المُستعمرة.

ويؤكد الناقد الألماني لودفيغ أمان بأن "الطيب من خلال روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، استبق بعقد من الزمان كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، فإدوارد سعيد لم يرَ في الاستشراق سوى تحقير الشرق غافلاً عن تمجيد المستشرقين للشرق ومتجاهلاً حركة الاستغراب، الاستشراق معكوساً، وصالح لا يأبه لمراعاة المحظورات ولا يلجأ للمراوغة، ومارس آنذاك النقد الذاتي متعرضاً للفساد والرشوة في أنظمة ما بعد الكولونيالية".

واضح جداً أن التناص أدّى دوره في تشكيل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" فالرواية تعالج الفكرة أو القضية نفسها التي عالجها عدد من الروائيين العرب، وهي علاقة الجنوب مع الشمال أو صراع الغرب ضد الشرق  وعلى رأسهم: 

توفيق الحكيم في روايتـه " عصفور من الشـرق" التي صدرت عام 1946، فقد عاد ببطله محسن إلى الشرق ليبدأ البداية الصحيحـة.

  • رواية قنديل أم هاشم
    رواية قنديل أم هاشم

وهذا ما رآه يحيى حقي في روايته "قنديل أم هاشم" التي كتبها بين عامَي 1939 و1940 لبطله "إسماعيل" . فإسماعيل الطبيب المتخرج من الغرب وبكل علمه لا يمكن أن يقدم لوطنه شيئاً إلا إذا بدأ من السيدة زينب وتزوج من فاطمة الزهراء إبنة هذا الحي الشعبي .. فالذين يتعالون على واقعهم الأصلي، أو ينفصلون عنه ، لا يمكن لهم أبداً أن يؤثروا على هذا الواقع أو يغيّروا فيه أي شيء. 

وعبر عنهـا الروائي اللبناني سهيـل إدريـس في روايته "الحي اللاتيني " التي صدرت عام 1953. من خلال سيرة الشاب العربي القادم من لبنان إلى فرنسا والعلاقة الجدلية بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب.

ولا بد هنا أن نبدي ملاحظة بأن الفرق بين الطيب الصالح في روايته "موسم الهجرة" الذي لم يبدِ أي محاولة لتطوير بلاده لتواكب الغرب وتطوره على الرغم من صور الرواية الفنية عن قريته البسيطة الرائعة وما فيها من الجمال، ما لم يرَه في أجمل الوجوه في الغرب. وبين رواية "قنديل أم هاشم" التي تعلن، أن البداية لا بد أن تكون من الواقع، من النبع الأصلي، من القرية، من السيدة زينب.

ومن يقرأ رواية "موسم الهجرة" ويتابع المسار الذي اتبعه بطلها مصطفى سعيد سيخرج بانطباع بأنها رواية تعالج قضية مركزية للأدب العربي وهي الصدام مع الغرب أو تحديه.

وإلا ما معنى أن يقول الطيب على لسان بطله مصطفى سعيد الذي كان يحاكم في لندن: 

"إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل "اللنبي" وهي تطأ أرض القدس . البواخر مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أُنشئت أصلاً لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل، جرثومة مرض فتاك أصابهم أكثر من ألف عام: نعم يا سادتي إنني جئتكـم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيـلاً".

فشخصية البطل الروائي مصطفى سعيد تتمحور في انفصاميتها ما بين الحقد على الاستعمار والرغبة في الانتقام منه. لقد فقد نفسه أي هويته ووحدة شخصيته للأبد تحت تأثير ثقافة المستعمرِين أثناء دراسته في بريطانيا، كما أن انتقامه من الاستعمار عن طريق "غزواته الجنسية باغتصاب النساء الإنكليزيات" ودفعهن إلى الانتحار لا يغيّر من واقعه شيئاً، إنه انتقام العاجز، وحتى عودته إلى الوطن ومحاولة بناء حياة جديدة مستفيداً مما اكتسبه من معرفة من دون أن يتمكن من الخلاص من آثار الماضي مما أدى إلى فشله من جديد وأن تنتهي حياته بشكل مأساوي. وبذلك يبقى هو أخيراً ضحية الوضع التاريخي بصورته الإجمالية.

ومن هنا نلاحظ مدى تأثر موضوع رواية الطيب صالح بهذه العلاقة الانفصامية، لعدد كبير من المثقفين في أفريقيا والعالم العربي مع الغرب بين مشاركتهم في النضال السياسي لبلادهم بهدف الاستقلال عن الهيمنة الأوروبية ومن جهة أخرى اعترافهم وتعلّقهم بسيادة الثقافة الغربية.

والسبب يعود إلى أن اهتمام الأدب العربي انصبّ من نهاية القرن التاسع عشر في الحديث على ما تقدمه الحضارة الغربية: بين الانبهار بالثقافة الغربية من جهة والشعور بالإذلال على المستوى السياسي في ظل هيمنة الاستعمار والإمبريالية من جهة أخرى.

ومن هنا تشكّل محاولات الطيب في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" وقصصه الأخرى، إلى جانب أدب توفيق الحكيم  وسهيل إدريس ويحيى حقي، لتخطي هذه العقدة والقفز نحو مسار جديد من رواياتهم العربية التي فيها الكثير من نقد الغرب/ الشمال. 

ويؤكد الطيب: نحن نقرأ أيضاً الأدب الألماني: توماس مان، هرمان هسه، غونتر غراس. وإذا أردنا أن نفهم بعضنا، فيجب على الأوروبيين أن يخرجوا من عزلتهم القائمة على الغطرسة، فالأوروبيّون لا يزالون يعتقدون أنهم الأكثر تحضراً في العالم وليس هناك ما يتعلمونه من الآخرين. فإن مجتمعاً فقيراً على المستوى الاقتصادي يمكن أن يكون ثميناً على المستوى الثقافي، فالسودان يتكئ على حضارة تعود إلى خمسة آلاف سنة، فلدينا ما نقوله للأوروبيين.

ويقول الطيب: "الصراع بين الشمال والجنوب لا يزال مستمراً وإن تغيرت الأشكال، فهي اليوم بين الجنوب المتخلف والشمال المتقدم. فقد تحول الجنوب إلى سوق استهلاكية لا إرادة لها ولا وعي".

ويصف هذه العلاقة بقوله: "نحن ما زلنا لا نقبل بعضنا البعض كآدميين تملأهم المشاعر والآمال الإنسانية الصادقة.

كتب الطيب قصته الأولى والقصيرة "نخلة على الجندول" في العام نفسه الذي هاجر فيه عام 1953، وعبّر فيها عن حنينه الجارف إلى النهر وعالم قريته "كرمكول"، فكانت تعبيراً عن فقده وحنينه إلى الديار، الجنوب الذي لم يعد كهفاً كما كان يراه بل بدا في الغربة منبعاً للحب وللحياة والدفء.

فقد كان للبيئة الريفية السودانية موقع الصدارة في كل روايات الطيب، ويرجع ذلك إلى أسباب ثلاثة: الأولى الذكريات التي التصقت بذاكرة الطيب، والثانية تجربته التي تعمقت في ذاته من خلال الالتصاق الحميم في بيئته، والثالثة غربته التي منحته فرصة النظر عن بعد، لاستقراء دقائق الحياة في بيئته.

صحيح أن الطيب كتب عن "موسم الهجرة إلى الشمال"، إلا أن المنبع لأدبه كان الجنوب وهذا ما تؤكد قصصه ورواياته. ويقول عن روايته موسم الهجرة "بأنها رواية  قضية بمعنى ما..  وليست رواية أفكار. إنها تطرح الصلة بالغرب على نحو شديد من الالتباس".

يقول الناقد المصري الكبير رجاء النقاش: "بفضل "موسم الهجرة" تُوّج الطيب صالح بلقب "عبقري الرواية العربية"، حيث حققت الرواية شهرة عريضة فكانت بمثابة بيضة الديك بالنسبة إليه، وترجمت إلى كثير من اللغات بما فيها الألمانية والصينية". 

لا يمكن للباحث في تراث الطيب الصالح إلا أن يعترف بأن شخصية الطيب ورائعته "موسم الهجرة إلى الشمال" هما وجهان لعملة واحدة. ولا نبالغ إن قلنا بأن قضيته  وشخصيته ومشروعه تعبر عنها وتختصرها روايته "موسم الهجرة إلى الشمال".

وهذه حال الأدباء فعادة ما يشكون من حصر إنتاجهم برواية واحدة تطغى على أخواتها من الروايات. فيحيى حقي كثيراً ما كان يشكو من أن اسمه مرتبط بقصته "قنديل أم هاشم"، على الرغم من أن له قصصاً أخرى. وقد صرّح بذلك في حوار أجري معه سنة 1964، قال فيه: "إن اسمي لا يكاد يُذكر إلا ويذكر معه "قنديل أم هاشم"، كأنّني لم أكتب غيرها". وتوفيق الحكيم له روايات ومسرحيات عديدة إلا أن اسمه ارتبط برائعته "عودة الروح"، وكذلك حال نجيب محفوظ الذي له أكثر من 40 رواية وقصة، إلا أن اسمه بقي مرتبطاً بثلاثيته.

 ترجمت روايات الطيب وقصصه إلى ما يزيد عن عشر لغات. فأطلق عليه النقاد لقب "عبقري الرواية العربية". وفي عام 2001 تم الاعتراف بكتابه من قبل الأكاديمية العربية في دمشق على أنه صاحب "الرواية العربية الأفضل في القرن العشرين".

يكشف دينيس جونسون مترجم أعمال الطيب الصالح في لندن،أن الطيب تم استبعاده من الفوز بجائزة نوبل بسبب "موسم الهجرة إلى الشمال" لتذهب الجائزة إلى نجيب محفوظ.

ورغم مضي 47 عاماً على ذيوع رواية صالح إلّا أن تأثيرها سيبقى طاغياً وستبقى في الدرجة نفسها التي تقف عليها أهم روائع الأدب العالمي. 

وُلِد الطيب في إقليم مروي شمالي السودان بقرية كَرْمَكوْل بالقرب من قرية دبة الفقراء وهي إحدى قرى قبيلة الركابية التي ينتسب إليها، ووافته المنية  في إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية لندن التي أقام فيها في 18 شباط/فبراير 2009.