هل الموت عمل شاق حقاً؟

حين تأكدت من صدق الخبر إلتقطت صورته وتمعنت بها لأستعيد معها لقاءاتنا السرية من خلف سطور رواياته. أختبر الفراق من دون لقاء للمرة الاولى.

كل من نعاك ناداك بالخال، وأنا، التي لم أعرفك  إلا من خلال رواياتك، هل يحق لي أن أقول لك: "الى اللقاء ياخال؟".

أتى صباح الاول من تشرين الأول/اكتوبر كئيباً، يحمل بين سحبه الرمادية رائحة الموت، يمطرنا بالحزن قطرات خجولة، يصفعنا بخسارة جديدة في بلادنا التي اعتادت الهزائم. ينعى إلينا الأديب والروائي السوري خالد خليفة!

عند تصدّر خبر رحيله وسائل التواصل الاجتماعي، ضربت المفاجآة أدمغة الجميع، صعقتهم حين أكدت لهم أن: "الموت قاب قوسين من أرواحهم"، واختلط الرثاء بتكذيب للخبر.

كثيرون شلت الصدمة أيديهم، فلم تخط أناملهم المبدعة عادةً الا جملة يتيمة: "خالد مات؟ قولوا مش مزبوط".

أما أنا فمن خلف هاتفي شعرت بخيبة الامل تجتاحني، كيف يموت قبل لقائي به؟ وحين تأكدت من صدق الخبر إلتقطت صورته وتمعنت بها لأستعيد معها لقاءاتنا السرية من خلف سطور رواياته. أختبر الفراق من دون لقاء للمرة الاولى. أحدق في شيب رأسه المشتعل بياضاً حزناً على بلاده المنكوبة، التي سقطت صريعة الدمار في أحضانه ذات نهار خريفي فلملم شتاتها، ودثر عريها بكلماته الانيقة، ورمم ندوبها بقبلاته الرطبة، وسقاها من فؤاده نبضات الامل رغم كل الالم الذي يحتويه.

حملها في جعبته ليال طوال، تدثر بها في غربته كي يعود إليها مشتاقاً والدمع مختنق في مقلتيه. دوّنها في مقالات ومرثيات. أنتجها في أفلام وكتبها سيناريوهات لعله يوقظها من غيبوبة التيه. صنعها أيقونته، تقلدها في رقبته ليحميها من شرور العالم، من نيران الاوبئة التي تجتاحه كل زكام. غلفها بجلده حتى تقمصته فمات شهيد الخذلان جراء نوبة قلبية. لقد خانه قلبه كما خانته أرصفة الطرقات حين لفظته. هل صودف أنك بكيت شخصاً لا تعرفه إلا من أغلفة رواياته؟

أنا فعلت ذلك حين استحضرت خالد خليفة أمامي وأتخذنا من ناصية الطريق مقعداً ندردش عنده عن آخر ما قد يكتب، فوجدته ينضح بالحياة، يبتسم من خلف شاربيه الكثيفين ويمسد لحيته بين الحين والآخر. يمسح دمعة اخترقت رجولته. يتبرأ من المديح بحق أنامله. يعتنق الحب كقشة ستنقذه في مهب الكراهية التي ولدنا بها، ربما لذلك قضى 13 سنة في كتابة رواية "مديح الكراهية".

حدثني بعينيه الناعستين عن مسقط رأسه، عن أورم الصغرى القابعة بصمت قرب حلب، عن اللحظات الاولى لولادته، عن رغيف الخبز الساخن في الصباحات الباردة، حدثني عن طفولته ومراهقته وصباه، عن محاولات الحب المتعثرة وراء جدران جامعة حلب، عن شهادة الليسانس بالقانون التي لم يعمل بها، وعن تجربته الاولى حين أسس مع أصدقائه مجلة "الالف"، وعن الكتابة التي أنجبت روايته الاولى "حارس الخديعة"، وعن محاربة قلمه لأنه تخطى المألوف.

كشف لي عن صدره وتلمس بأصابعه المرتجفة جرحاً غائراً وهمس بعتب: "إنها سوريا. وضعتها هنا في قلبي، غذيتها من نياط قلبي، لكنني لم أكن حاملاً أميناً للأمانة، أصابوها بسهام الحقد، فأردوها جريحة تصارع أنفاسها بين شرايين قلبي، لكنني لن أستسلم لو قدر لي الفداء بروحي، لكي تبقى حية سأهبها فؤادي واندثر".

سألته عن حياته، عن أولاده، عن أهله، فهز رأسه وشرد: "توقفت حياتي منذ اجتاح الهلاك أرواحنا، حين هزمنا في ثورتنا، حين حاربنا الذل فرضخنا للقتل، أما أولادي فكثيرون ومنتشرون في المخيمات ينتظرون الفناء في الحين الذي "لم يصلّ عليهم أحد"، وأهلي ودّعتهم، ولسان أمي ما زال يلهج بالدعاء".

 ربتت كتفه أعاتبه: "هل حقاً الموت عمل شاق؟"، قهقه، نفض عنه غبار الزمن العابر وقال: "لقد ظلمت الموت حين اعتبرته شاقاً، ربما قد يكون هو الرحيم في ظل الضغائن التي نحياها، قد يكون خلاصنا حين نتسمم بالغربة فتصبح ملجأ لخيباتنا اللامتناهية. ربما "الموت عمل شاق" حين نحيا في بلاد يسودها العدل والوئام، لا نقرأ أخبار القتل الا عبر الروايات، ولا نسمع عن الظلم الا في الحكايات، قد يكون "الموت عمل شاق" حين نستيقظ على صباحات تغرد بألف عصفور لا ألف قنبلة، حين نتمشى عصراً في دروب معبدة بالامان لا الخوف، حين نحتسي الحب مع كل قطرة نلثمها من شفاه عشيقاتنا، قد يكون "الموت عمل شاق" حين نغفو على أسطح منازلنا نلتحف القمر، ونغازل النجوم، لا حين نختبئ في الملاجئ. لكنني أيقنت أن الموت هو راحة لأجسادنا لذلك أطلب منه الغفران، أن يسامحني على كلماتي المروية، قد يريحني حين يأتيني صامتاً ساكناً".

في 30 أيلول/سبتمبر أصابته نوبة قلبية استجابة لأمنيته السرية، فتوقف زمناً لا يحصى قد نلتقي من بعده أو لا نلتقي، لكنني متيقنة أنه ذهب عن عمر صغير أمامه الكثير كي يكتبه، فقد ودع مكتبه وسريره وصفحات مسوداته على أمل أن يعود ولم يعد.

في النهار الاخير من شهر الغربة ودعنا خالد خليفة وترك لنا إرثاً لا ينضب. روايات ترجمت لأكثر من لغة تحمل بين صفحاتها إبداعاً وتألقاً، وسيناريوهات وأفلام ومسلسلات، ومحاولات شعرية لشاعر لم ينجب أي ديوان بل حبل بالشعر حباً أثيرياً لا ميعاد لولادته.

رافقته القصيدة في عزلته وحيداً ينازع سكرات الموت بمحاذاته هاتف يرن للإطمئنان عن صحته، لكن صحته أرخت عزائمها ربما على بلاط شقته في الشام، أو فوق ملاءات سريره.

يستذكر في لحظاته الاخيرة أورم الصغرى بدروبها وزيزفونها، يفتح ذراعيه للإحتضان السرمدي، عاش خالداً في حبه للبلاد التي تنبض بين مساماته.