هل يعقوب صنوع هو رائد المسرح العربي فعلاً؟

بعد أكثر من 180 عاماً على ولادته يتجدد السؤال: هل كان يعقوب صنوع الرائد الحقيقي للمسرح العربي، أم هو سليم النقاش؟ وماذا قال باحثون ومؤرخون في ذلك؟

  • تمّ الحديث عن ريادة صنوع المسرحية بالاعتماد بشكل رئيسي على مذكراته من دون وجود مصادر أخرى
    تمّ الحديث عن ريادة صنوع المسرحية بالاعتماد بشكل رئيسي على مذكراته من دون وجود مصادر أخرى

"ليس من السهل أن أروي قصة مسرحي، ذلك المسرح الذي كان في الواقع يستدرّ من عينيَّ دموع الفرح، ممزوجة في الغالب بآلام لا توصف". هكذا وصف يعقوب صنوع (1839-1912) عمله المسرحي، في حديث لإحدى الجرائد الفرنسية، بينما يواجه اليوم، بعد مرور أكثر من 180 عاماً على مولده، اتهامات تصفه بادّعاء الريادة، وبأنّه ألّف عدة حكايات لا أصل لها لينسب إلى نفسه هذه الريادة.

يعقوب صنوع وبدايات المسرح

  • كان صنوع يشترك في التمثيليات التي تؤديها فرقة فرنسية وأخرى إيطالية
    كان صنوع يشترك في التمثيليات التي تؤديها فرقة فرنسية وأخرى إيطالية

يقول صنوع في الحديث ذاته: "وُلِدَ هذا المسرح على "ممثل"، وهو مقهى كبير كانت تُعزف فيه الموسيقى في الهواء الطلق، وذلك وسط حديقتنا الجميلة الأزبكية". 

كانت هناك فرقتان في ذلك الحين بالفعل، إحداهما فرنسية والأخرى إيطالية، تقومان بتسلية الجاليات الأوروبية في القاهرة، وكان صنوع يشترك في التمثيليات التي تقدمها الفرقتان، إذ كانت يتكلم اللغتين الفرنسية والإيطالية، ودرس كبار كتّابهما المسرحيين. 

وكان صنوع دوماً يؤكد أن الهزليات والكوميديات والغنائيات والتمثليات العصرية التي قدمت على ذلك المقهى، هي التي فجرت الحماس في داخله لإنشاء مسرحه العربي. يقول: "ولقد منّ الله عليّ إذ ساعدني في هذا السبيل. وقبل أن أقدم على تأسيس مسرحي المتواضع، قمت بدراسة جدية للكتاب المسرحيين الأوروبيين، وبخاصة غولدوني وموليير وشريدان في لغاتهم الأصلية".

هل صنوع بالفعل رائد المسرح المصري؟

  • قدّم الباحث سيد علي إسماعيل بحثاً مناقضاً لادّعاء صنوع بريادة المسرح العربي
    قدّم الباحث سيد علي إسماعيل بحثاً مناقضاً لادّعاء صنوع بريادة المسرح العربي

إذن؛ لم يتوقف صنوع عن إثبات ريادته للمسرح، وعلى الرغم من كثرة الكتابات العربية التي تناولته كمسرحي، إلا أنّها لم تتطرّق في معظمها إلى تاريخه المسرحي من خلال صحفه، بل من خلال مذكراته فقط، مع أنّ هذه المذكرات ما هي إلا تفصيل لما أورده صنوع بنفسه في صحفه. 

لكن الباحث سيد علي إسماعيل يرى غير ذلك تماماً، حيث فنَّد معظم ما جاء على لسان يعقوب صنوع، ابتداء من أول إشارة كتبها في صحفه عن نشاطه المسرحي، والتي تعود إلى الـ17 من نيسان/أبريل سنة 1878، خلال أحد الحوارات، عندما قال أبو خليل لأبي نظارة: "وأسست لنا تياترو عربي، وصنفت لك مقدار 30 كوميدية من قريحتك، نثر وأشعار، وحرقت فيها دم قلبك وعلمت أبناء الوطن التشخيص بكل مهارة في التياترو".

ويشير الباحث في كتابه، "تاريخ المسرح في العالم العربي: القرن التاسع عشر"، إلى أنّ هذه المعلومات معروفة للجميع، وتكرّرت عند جميع من كتبوا عن صنوع، ورغم ذلك فإن مصدرها الوحيد هو صنوع نفسه، ولم يُقرّه فيها أي ناقد أو كاتب ممّن عاصروه، بل يؤكد الباحث أن هذه الإشارة مصدرها إحدى المحاورات، أي أنّ من الممكن اعتبارها نوعاً من الهزل، تبعاً لأقوال صنوع في محاوراته عموماً.

ومهما يكن من أمر اعتبار هذه الإشارة، سواء كانت جدّاً أو هزلاً، إلا أنّ أهميتها الكبرى تتمثل في نشرها في صحف صنوع في مصر، لا في باريس، والتي كان عددها تجاوز الـ15 وقتها، وهذا يعني أن يعقوب صنوع كتبها وهو مطمئن إلى صحتها، بل إن من يقرؤها لا يظن مطلقاً أنّها معلومات خاطئة. والدليل على ذلك أنّ صنوع نشر في عدد جريدته الصادرة في باريس بتاريخ 21 تشرين الأول/أكتوبر 1889، مخاطبة كان قد نشرها في عدد من أعداد صحيفته الأولى في مصر، أرسلها له أحد أصدقاءه في مصر، وقد فرح بها لندرة وجود هذه الأعداد وصعوبة حصوله على أية نسخة منها. 

ويتساءل إسماعيل لماذا وصلت إلينا جميع صحف صنوع الصادرة في باريس بصورتها المطبوعة، ولم تصلنا أعداد صحيفته الصادرة في مصر في نفس الصورة المطبوعة لا المخطوطة؟! الاحتمال الأرجح أن يعقوب صنوع حصل على هذه الأعداد بصورة من الصور بعد العام 1889، ووجد أن فيها أشياء تناقض ما قاله بعد ذلك، فأراد أن يغير موقفه بتغيير ما جاء في هذه الأعداد النادرة.

ويؤكد الباحث أنّنا إذا تتبّعنا مجلة "وادي النيل"، التي تعتبر أول دورية اهتمت بالنشاط المسرحي في مصر منذ العام 1870، أي منذ بداية نشاط صنوع المسرحي، سنجدها تتحدث عن تفاصيل دقيقة لهذا الفن، منها على سبيل المثال مقال للناقد محمد أنسي، نشرته المجلة في شباط/فبراير 1870، عن عرض مسرحية "سميراميس" في "الأوبرا الخديوية"، من دون أن تتضمّن أي ذِكر ليعقوب صنوع. 

وهنا أيضاً بنى الباحث شكّه في وجود صنوع كمسرحي في هذا الوقت على أساس جديد، وذلك لأنّ الناقد محمد أنسي، هو ابن أبي السعود أفندي مُعرّب "أوبرا عايدة"، من المهتمين بالكتابة والترجمة المسرحية، عندما مارسها في جريدة "روضة الأخبار" في عام 1878، أي أنّ هذا الناقد المسرحي لا يستطيع إنكار يعقوب صنوع كمسرحي سابق عليه، بل إن يعقوب صنوع نفسه كان على علاقة بمحمد أنسي، بدليل أنه كتب عنه في صحفه.

يعقوب صنوع أم سليم النقاش؟

  • هناك مقتطفات من مصادر عدة تشير إلى أن سليم النقاش هو مؤسس المسرح في مصر
    هناك مقتطفات من مصادر عدة تشير إلى أن سليم النقاش هو مؤسس المسرح في مصر

وفي المقابل، فإن الباحث سيد علي إسماعيل يثبت الريادة في مصر للمسرحي اللبناني سليم خليل النقاش، ويذكر ما كتبه النقاش في العام 1875 في مقدمة مسرحيته "مي": "لما كانت ديار مصر مستوية على عرش التقدم بين الأمصار، اتّخذتُ مع الملتجئين إلى بابها نعم سبيل… أفندينا الخديوي المعظم ولي النعم إسماعيل… بأن أخدم عظمته بإدخال فن الروايات في اللغة العربية إلى الأقطار المصرية… فأنعم عليَّ بالقبول".

وفي تموز/يوليو 1875، قالت مجلة "الجنان" تحت عنوان "الروايات العربية المصرية" إنّ "الحضرة الخديوية السنية قد اهتمت بإنشاء روايات عربية في مصر القاهرة؛ لذلك صممت على إنشاء الروايات العربية، فصدرت إرادتها السنية بأن يقوم جناب سليم أفندي نقاش بترتيب روايات عربية وتنظيمها على نسق موافق للنسق الأوروبي...".

وبعد ذلك بشهر، كتب سليم النقاش، تحت عنوان "فوائد الروايات أو التياترات" عن الخديو توفيق: "وهكذا بلغت فوق ما تمنيت من أفضال جنابه العالي وأحسن إليَّ بقبول طلبي؛ وذلك بأن أدخل فن الروايات باللغة العربية إلى الأقطار المصرية، فعدت إذ ذاك لأجهِّز في بيروت جماعة للتشخيص، وألَّفت بعض الروايات".

وهذه المقتطفات أدلة قوية على أن سليم خليل النقاش، هو أول من أدخل فن المسرح العربي في مصر، لا صنوع. وإذا كان لصنوع أي نشاط مسرحي، لكانت هذه المقتطفات أشارت إليه، لِما يتمتع به في هذا الوقت من مكانة مرموقة عند الخديوي، الذي لجأ إليه سليم كي يقوم بمهمة إدخال الفن المسرحي باللغة العربية لأول مرة في مصر.

هذا بالإضافة إلى أن سليم النقاش في ذلك الوقت كان يطرق كل باب حتى يصل إلى مراده بالدخول إلى مصر لإقامة المسرح العربي بها، فمن غير المعقول أن ينكر الرائد الوحيد في مجال الفن نفسه الذي يريد إدخاله إلى مصر، وهذا ينطبق أيضاً على الصحف التي أكدت ريادة سليم النقاش وأنكرت ريادة يعقوب صنوع، تلك الصحف التي كان من المفروض عليها أن تمهد السبيل لدخول سليم إلى مصر تمهيداً طبيعيًّا، بأن تذكر جهود الرائد الأول يعقوب صنوع، لكنها سلكت الطريق المعاكس بأن لم تذكر دور ليعقوب صنوع، وأثبتت أن سليم النقاش هو أول من أدخل الفن المسرحي العربي إلى مصر.