وضاح سلامة "يؤنسن" الحديد
عوالم فانتازية فيها كثير من السوريالية المندغمة مع الأسطرة حملتها أعمال سلامة في معرضه "عندما يتنفّس الحديد". ماذا في التفاصيل؟
-
من معرض "عندما يتنفّس الحديد"لوضّاح سلامة
في معرضه "عندما يتنفّس الحديد"، في حي ساروجة الدمشقي، نتلمّس عند النحات السوري، وضّاح سلامة، بحثاً وجودياً في ماهية المادة وميكانيزمات تَشَكُّلِها وقدرتها على مناهضة الزمن، بحيث لا يتحدّد الموضوع بصياغات الشكل واحتمالاته فقط. بل في المعنى المُدْرَك والغامض لكينونته، والفلسفة المُضمَّنة لنَباهَة وجوده والسَّبر الحاصل في طبقاته العميقة، إلى درجة تندغم فيها حيوية المادة، سواء أكانت حديداً أم عظاماً، وتتفاعل مع أسطورتها الخاصة، لتُنتج في اندغامهما ميثولوجيا معاصرة قوامها التفكير في جوهر الحياة وامتداداته الزمنية.
16 منحوتة احتضنتها باحة وغُرف "البيت الأزرق"، وضعتنا في حالة من الدهشة والانتباه، أن كيف بإمكان الفن أن يُخلخل فضاء المكان، ويحيله إلى زمن أسطوري في ذاكرة المتلقّي، خاصةً عندما تفرد البومة جناحيها أثناء عملية الافتراس، أو عندما يُطلِق الحصان أرجله للريح، بينما القطة الوادعة تلعب بكبكوبة الصوف الحمراء الملفوفة على جمجمة.
في أعمال المعرض ليس ثمة محاربة لطواحين الهواء على الطريقة الدونكيشوتية، وإنما التباسات واقعية جعلت من سانشو امرأة تركب على الحمار ذاته. والحمامة لا تَدُلُّنا إلى اليابسة بغصن زيتون في فمها، كما في قصة نوح، بل هي تفكّر بأبنائها بعدما التقطت لهم دودة طويلة. في حين أنّ الديك ينفش ريشه بعد أن وقف على بيضة كبيرة من غير المعقول أن تكون باضتها إحدى دجاجاته، وإلى جواره غزال تشعَّبت قرونه كثيراً، لكنها لا تصلح للقتال رغم قسوتها، بينما الكلب يحرس فكرته المهشّمة عن الوفاء بعدما تسلَّخ رأسه وبانت عظام جمجمته، ليبقى سؤال الأصالة الدرويشي "لماذا تركت الحصان وحيداً؟"، مجسّداً برأس حصان يتوسّط إحدى الغرف، لكنه مُبهر جمالاً وحيوية وتكويناً وعنايةً بالتفاصيل.
أما الإنسان فله نصيبه من الأعمال المعروضة. إذ إنّ الرجل مُحاصر بِغِيِّه الوجودي في ممرّ ضيّق، وبزيِّه ذي ربطة العنق الخضراء وحِزامه وحذائه باللون ذاته، لكنه بلا ملامح وجه، حيث انطمست كينونته كلّها في عناده، وفي عنجهية أنثاه وتكبُّرها حتى برزت لها قرون في رأسها المرفوع إلى الأعلى، رغم أناقتها ورسميّتها التي أوحت إليها الربطة الحمراء المتدلّية على صدرها وبطنها المنتفخ قليلاً.
بين القسوة والهشاشة
-
من معرض "عندما يتنفّس الحديد" لوضّاح سلامة
عوالم فانتازية فيها كثير من السوريالية المندغمة مع الأسطرة، حملتها أعمال سلامة الذي أوضح في حديث مع "الميادين الثقافية"، أنه قبل دخوله إلى كلية الفنون الجميلة عام 1994 كان يعمل في الحدادة، ولذا فهو متمكّن من هذه الحرفة، وعندما اختص في النحت فكّر كيف بإمكانه أن يُطوّع المعدن كخامة فنية، بعيداً عن رؤيته له كشباك أو درابزين أو باب، وحينها اختار الطريق الصعب، ساعياً لأن يتعامل مع المعدن كصلصال تكون قراءته جميلة للمتلقّي.
أما عن مزاوجة المعدن مع العظم فقال سلامة: "كانت صدفة بحتة، ففي منطقة بقريتي عثرت على عظام وجماجم حيوانية، وضعتها في مشغلي وبقيت 6 أشهر أفكّر كيف سأستخدمها في أعمالي، وبدأت عام 2022 بعمل واحد، وبعدها تابعت الاشتغال بالتقنية ذاتها، ولوّنت العظام ليكون ثمة حداثة ومعاصرة، وأحسست أن الهشاشة الموجودة بالعظام مع قساوة المعدن صاغت مفارقة فظيعة، ثم تخلّلتها بعض الرمزية وتكاثرت القصص والأسئلة في رأسي، حتى استطعت في النهاية أن أُأَنسِن الحيوانات والبشر وأعطيتهم حياة رغم صعوبة التعامل مع المعدن".
وأضاف: "الحديد وقساوته خرج من تحت الأرض متحوّلاً من مادة سائلة إلى صلبة، وتأمّلت كيف سأخاطبه وأعيش معه وأبثّ فيه الروح، فكانت الخطوة سوريالية. أما العظم فكان لكائن فيه روح، وانتقل ليدخل ضمن عمل عليه أن يحوي روحاً مختلفة، حالة سوريالية ومغامرة لأنّ الطرح ممكن ألا يتقبّله الناس".
-
من معرض "عندما يتنفّس الحديد" لوضّاح سلامة
أما عن مرجعياته الميثولوجية فأوضح سلامة أنه تأثّر بدراسته للحضارات السورية القديمة، وخاصةً بالحضارة السومرية التي تهتم بالحيوانات الجارحة وقوّتها الرمزية، واستفاد من كيفية تلخيصهم الشكلي لتلك الحيوانات، لكنه نحا نحو المعاصرة وأدخل أعماله في إطار الحداثة، لأنه استفاد من الأسطورة ليس بالشكل الحرفي لكن عبر إضافات كثيرة بعدما منحه المعدن حرية أكبر، وأشعره أنه بإمكانه أن يطير أكثر ويوزّع عناصره في العمل، "لذلك بالغت في الريش وعناصر والافتراس".
وعن رسالته من معرض "حين يتنفّس الحديد" قال: إنّ "ثمّة رسالتين، الأولى ذاتية وهي كم استطعت أن أوصل ما أريده وأحبّه؟ وماذا بإمكاني أن أصنع بعد ذلك، والثانية رسالة للفن السوري أنه بحاجة إلى تعب وإصرار ولو أخذ من وقتك وروحك وجسدك، فإنه من الضروري أن نستمر في العمل والتفكير".
همس المادة
-
وضّاح سلامة
مدير غاليري "البيت الأزرق"، سامر العيد، كتب عن المعرض: "في عالم يتآكل فيه المعنى تحت وطأة السرعة والتسطيح، يعود هذا المعرض إلى الجذور العميقة للوجود، حيث تهمس المادة بأسرارها القديمة، حيث يلتقي العظم والمعدن، جسدان نقيضان يشتركان في سردية واحدة: حكاية الحياة والموت والتحوّل الأبدي".
ويتابع "الحديد في ثقله وامتداده، ليس صامتاً كما نظن، بل يحتفظ بأنفاس الزمن داخله، بكلّ ما في الزمن من عنف وصبر، والعظم بعروقه الدقيقة وهشاشته الظاهرة لا يروي حكاية الفناء فقط، بل يعلن عن استمرار الأثر حين يغيب الجسد".
وأضاف: "بين قسوة الحديد وهشاشة العظم يولد توازن خفي تشي به هذه المنحوتات فتبدو كأنها لحظة مجمّدة بين شهيق وزفير، بين بداية لا تنتهي ونهاية لا تكتمل. هنا لا يصنع الفنان أشكالاً، بل يحرّر أرواحاً حبيسة داخل المادة، يحفر في صمت العظم، ويطرق على صلابة الحديد، حتى تستيقظ الذاكرة الغائرة فيهما، كلّ قطعة هي سؤال مفتوح: هل نحن أشدّ صلابة أم هشاشة؟ هل في داخلنا ما يشبه صبر المعدن أم انكسار العظم؟ وهل كلّ ما نبنيه مصيره أن يتآكل، أم أنّ بعض الأنفاس تبقى معلّقة في هواء الأزمنة القادمة؟ هذا المعرض وقفة بين عالمين: بين المادة كما نعرفها، والمادة كما نحلم أن تكون، بين أن نكون صدى خاملاً، أو أن نصير نفساً يتردّد في قلب الحديد والعظم معاً".