آليات التشويه والاستقطاب في المجتمع المقهور سياسياً

تأتي أهمية كتاب "سيكولوجية الصراع السياسي .. نقد آليات التشويه والاستقطاب" للدكتور حاتم الجوهري من كونه يرصد ظاهرة "الاستقطاب والتصارع السياسي"، تلك الأزمة المحورية وما يصحبها من آليات تستخدم طرق التشويه والاستقطاب النفسي والحيل للتأثير على العقول والرأي العام.

كتاب "سيكولوجية الصراع السياسي"
 


- اسم الكتاب: سيكولوجية الصراع السياسي 

- المؤلف: د.  حاتم الجوهري

-  الناشر : دار العين  للنشر -  القاهرة - 2017.

مراجعة: السيد الزرقاني

 

وقع اختياري على موضوع هذا الكتاب لتزايد الاهتمام في هذه الفترة التاريخية المرتبكة؛ بالحديث عن مستقبل البلاد ومصير حلمها الوليد بالتغيير ومآله، في ظل تدافع شديد بين أبنية قديمة متجذرة وراسخة، وأبنية جديدة حالمة لم تستقر بعد.

يفتتح الجوهري كتابه بإهداء للثوار والحالمين ودعاة التغيير أينما كانوا “ليس عن الحاضر، وليس عن المستقبل، إنما عن شق الطريق من هنا إلى هناك، إلى الأرواح الطيبة الحالمة، هذه بعض علامات الطريق صقلتها التجربة، والبحث في طريق العلم والحياة". ويشير الكاتب إلى أن هذه الدراسة تأتي بعد إزاحة أنظمة سياسية عدة بطرق لم يعتدها المشهد المصري، اعتمدت غالبا على خلق "استقطاب حدي" يقسّم المجتمع إلى كتلتين: إما مع أو ضد، ولا يترك مساحة لرأي ثالث، حتى ولو كان أقرب إلى التغيير وفكرة الثورة.

وعادة ما يكون الاستقطاب المعلن منذ اندلاع الثورة المصرية عام 2011 حول أحد مستويات الهوية الإنسانية الكبرى: الدين، الوطنية، الانتماءات السياسية، إلخ. لكن الأزمة أضفت إلى لجوء المتصارعين إلى آليات التشويه وغياب المعايير والموضوعية، فظهرت داخل المجتمع حالة من الأزمة والكآبة واللامبالاة والرفض للمشاركة المجتمعية. وهي تتزايد كل مرة، لتستمر دوامة انتقال البلاد وإشغالها من "استقطاب" إلى "استقطاب" جديد، من دون مواجهة مشاكل البلاد الحقيقية.

وقد يقول البعض إن الغرض الأساس من هذه الاستقطابات المتتالية هو الهروب من مطالب التغيير؛ عبر توظيف "البنية السياسية" الرسمية لكتل سياسية متصارعة لا ترى سوى أسفل قدميها، ولا تملك مقدرة الخروج عن سياقها التاريخي الضيق وأزماتها الذاتية.

يحتوي الكتاب على سبعة فصول تجمع بين علم السياسة وعلم النفس، وترصد العلاقة والتدافع البشري وآلياته في المجتمع، بين الانتهازيين دعاة تغليب المصلحة الشخصية والفردية، وبين الموضوعيين أو دعاة المصلحة الجماعية وتغليب المعايير العادلة.

يعتمد الكاتب في بحثه على المنهج الاستقرائي القائم على الوصف والتحليل والاستنتاج الذي يبدأ بالجزئيات وملاحظتها ورصد تفاصيلها ووصفها ومتابعتها والاهتمام بها وتسجيلها ودراستها، ليصل تدريجيا إلى النتائج.

وفي هذا السياق يقول الكاتب: "تنشأ لدى الشعوب التي تتعرض للقهر والاستبداد لفترات ممتدة من الزمن؛ منظومة قيم سلوكية وسيكولوجية تقوم على التكيّف والانتهازية، والتنميط الإنساني والاتباع والتقليد لـ"النمط السائد" أيا كان هذا النمط وشكله، وتحضر الفردية و"المصلحة الشخصية" والانتهازية وتغيب الجماعة والاهتمام بـ"المصلحة العامة" والمعايير الموضوعية، ويكتسب الفرد لا مبالاة شديدة تجاه المصلحة العامة وفكرة الأخلاق والمثل العليا والمعايير الموضوعية والعلمية".

في الفصل الأول من الكتاب، يقدم الجوهري قراءة وتحليلاً لمجموعة من الأفكار والسلوكيات والانحيازات الحاكمة للحراك المجتمعي، ويلخّصها في ثماني نقاط، يتمحور حولها الصراع السياسي والاجتماعي وهي: "الإمكانيات والتطلعات، والتنظيم السياسي ومعيار الفرز والانتقاء، والنظرية والتنظيم، وجدل الثورية والإصلاحية، والسياسة والحزبية، وبين حملة الدعوة والمؤيدين للدعوة، وتحول المبادئ والمثل لبدائل سياسية، واستدعاء مستويات الهوية الإنسانية".

ويشير الباحث إلى مجموعة من الإشكاليات المتجذرة في العمل السياسي المصري منذ سبعنيات القرن العشرين حين قرر الرئيس المصري أنور السادات عودة الأحزاب (المنابر) السياسية. ومن أبرز هذه الإشكاليات:

أولاً: تكيّف وتماهي الأحزاب مع السلطة الحاكمة، وحتى المعارضة منها لم تكن معبّرة بصدق عن أزمات المجتمع وتطلعاته، بل كانت تتحرك في الهامش الذي تركه لها النظام قابلة بقواعده السياسية والاستبدادية. وبالتالي فقد حاول المجتمع إنتاج تجمعات وحركات شعبية بديلة للأحزاب السياسية.

ثانياً: علاقة النظرية بالتنظيم، فالعمل السياسي يقوم على مزيج بين الأفكار الأيديولوجية من جهة، والعمل التنظيمي من جهة أخرى. ويشير الجوهري إلى أن العمل السياسي في مصر يعاني من صراع بين هذين المكونين اللذين من المفترض أن يتكاملا حيث يسعى كل طرف إلى فرض هيمنته على الطرف الآخر، وينتج عن هذا الصراع نمطان من الشخصيات المنتشرة بصورة كبيرة في الحياة السياسية في مصر، وهما الشخصية "البارانوية" بكل ما تحمله من شك وتوجس وإحساس مفرط بالتعرض للاضطهاد والمؤامرة، والشخصية النرجسية بكل ما تحمله من أنانية وتعالي وغرور وادعاء للمعرفة.

 

الاستقطاب والتشويه

في الفصول التالية، يشير الجوهري إلى واحدة من أبرز الآليات التي يتبعها النظام السلطوي في تعامله مع القوى السياسية، وهى ثنائية "الاستقطاب والتشويه"، فالأولى تقوم على تقديم مجموعة من المصالح والمكتسبات الشخصية لمجموعة من الشخصيات الثورية من أجل استقطابها وجعلها داعمة للنظام. والثانية تعتمد على التشويه النفسي والمعنوي للشخصيات الثورية التي لم يستطع النظام شراءها، فيعمل على تدميرها معنويًا وماديًا عن طريق الإشاعات، وتلفيق التهم والقضايا، وغيرها من الآليات والأساليب التي عايشناها على مدار السنوات الماضية.

وفي هذا السياق يقول الكاتب: "كيف يتفوق الأقل موهبة على الأكثر موهبة في ظل ظروف عادلة؟، عند هذه اللحظة سينشأ الصراع الإنساني الأشد خطورة حتى الآن؛ وهو آليات التشويه والاستقطاب وقدرة الانتهازي على خلق حالة جماعية ومفتعلة وظروف ضاغطة، تجعل الشخص الموضوعي ينهزم أو ينسحب!".

ويطرح الجوهري مجموعة من النقاط الأساسية التي يمكن من خلالها للقوى الثورية مواجهة محاولات التشويه المعنوي، وهي:

أولًا - تجاهل حملات التشويه.

ثانيًا- تحديد أهدافها جيدًا والإستمرار في العمل عليها بكل قوة ويقين.

ثالثًا- عدم التورط في مواقف سجالية مع ممثلي النظام، لأنها تهدر طاقتها وتخلق حالة من التشويش وتجعل القوى الثورية في موضع رد الفعل.

رابعًا- الحسم والاقتضاب والهدوء في التعبير عن مواقفها السياسية والاجتماعية.

خامسًا - المبادرة والثبات على المبادىء الرئيسية وعدم الإنجراف والتسرّع في الحصول على مكاسب سياسية على حساب مواقفها الأخلاقية.

سادسًا- تبني سياسة الخطة المضادة، وهي مرحلة أخيرة واستثائية يتم التحول إلى موقف رد الفعل عن طريق وضع خطة للرد على التشويه والكذب، ويراعي عدم الدخول في صدام مباشر مع مروجي الإشاعات، والاكتفاء بتصحيح الأفكار المغلوطة واكتساب المزيد من الأرض، بعيدًا عن دوائر السلطة الانتهازية، ليتم في النهاية حصار السلطة ورجالها داخل دائرة صغيرة وغير قادرة على النفاذ إلى الكتلة المجتمعية الأكبر.


في خاتمة الكتاب يشير الكاتب إلى أنه برغم كل ما يعيشه المصريون من ظروف قاسية، إلا أن هناك حالة من الوعي المجتمعي المتنامي والتغيير المستمر في بنية المجتمع الساعي نحو التحرر، مؤكدًا على أن "أزمة المجتمع المقهور والمتكيف والمستبد به حقيقة، هو نجاح الاستبداد في الترسيخ لفكرة التنميط وتشويه المغاير، والتأكيد على فكرة التشوه النفسي وتصدير القهر للغير، وصنع أنماط اجتماعية منتجة للتشوه، أهمها فكرة تمييع القيم في حد ذاتها ومحاولة المساواة بين معيار الحق والعدل ومعيار الباطل والهوى، والتأكيد على الوجود الفردي فقط والمصلحة الشخصية غير المعيارية في علاقتها مع الجماعة وأهدافها".

ويوضح الجوهري أن هناك مجموعة من المراحل التي يمر بها الفرد والمجتمع في رحلة تحرره. ومن أبرز هذه المراحل:

أولًا - إكتشاف الذات، عند طريق التحرر من منظومة قيم القهر والتكيّف والانتهازية، وهنا يبدأ الإنسان في التعرّف على ميولها وطبائعها التى كانت مكبوتة ومُنمطة.

ثانيًا - الإنتقال إلى مرحلة الموضوعية أو المعيارية عبر التعامل مع الذات في ظل علاقتها بمنظومة المجتمع الجديد ووفق قدراتها الحقيقية والواقعية، من خلال الإنتقال من رؤية الذات باعتبارها محوراً للحدث والوجود، إلى تبني منظومة قيم أشمل تقوم على العدل والحرية والمساواة.

ثالثًا - العمل على تطبيق هذه المنظومة الأخلاقية والمعرفية في المجتمع عبر تكوين مجموعات ضغط وأحزاب سياسية تعبّر عن هذه الأفكار والمبادىء.

وفي هذا السياق يقول الكاتب: "هناك أوقات حاسمة في حياة الشعوب؛ تكون فيها الظروف مواتية لتغيير منظومة القيم التاريخية التي تحكمها، ويحدث الصدام والتدافع بين منظومة القيم القديمة المشوهة، ومنظومة القيم الجديدة الآملة والحالمة، وفي البداية سيكون الانتصار المرحلي لصالح منظومة القيم القديمة، بما تملكه من خبرات وحيل ملتوية تمارسها بكل حنكة، وسيقع في حبالها بعض دعاة منظومة القيم الجديدة لأنهم يفترضون حسن النية والبراءة".

ويشير الجوعري إلى أن لحظة التحول التاريخية في الصدام بين المنظومتين القيميتين، ستكون عندما يمتلك دعاة منظومة القيم الجديدة الخبرة والمهارة والقدرة على التنظيم بالإضافة إلى الإخلاص والمعرفة المتراكمة وحينها ستنتصر منظومة القيم الجديدة وتحقق الثورة أهدافها من عدل وحرية ومساواة.

السيد الزرقاني كاتب مصري.