كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة؟

كان شوبنهاور يعتقد أنَّ "أسعد إنسان هو من استطاع احترام نفسه بإخلاص، مهما حدث"

كتاب "عزاءات الفلسفة – كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة؟"

 قال أبيقور يوماً: "كما لا يكون للطبِّ أيُّ نفع عندما لا يتخلّص من العلة الجسدية، ستكون الفلسفة غير ذات نفع إن لم تتخلَّص من معاناة العقل". كان الفيلسوف اليوناني يعدنا دوماً بأنَّ الفلسفة سترشدنا إلى السعادة الحقّة، وستقدّم علاجات لعللنا، ذلك أنَّ من واجبها مساعدتنا على تأويل نوبات اليأس التي تعترينا، وبالتالي إنقاذنا من النماذج الخاطئة للسّعادة. كان شأنه في ذلك شأن الكثير من الفلاسفة الذين وجدوا في الفلسفة العزاء في مواضع الوهن والعجز والضّعف.

في كتابه "عزاءات الفلسفة" (نقله إلى العربية يزن الحاج)، يتدرَّج بنا الكاتب البريطاني السويسري آلان دو بوتون في حقبات تاريخيَّة متلاحقة، يستعرض خلالها حيوات فلاسفةٍ شكّلت الفلسفة منهجاً ركنوا إليه في وجه الصّعاب، فكانت عزاءهم في كلّ ما مروا به من إحباط، وخيبات، وانكسارات في القلب، وافتقار في المال، وحتى الموت.

 

العزاء بشأن مخالفة الأفكار السائدة

يعود بنا دو بوتون إلى العام 399 قبل الميلاد، عندما حكم على سقراط بالموت بتهمة الامتناع عن عبادة آلهة اليونان، واختلاق بدع دينية، وإفساد النسيج الاجتماعي لأثينا. ثلاثة مواطنين وجّهوا تلك التهم إليه، وطالبوا بإعدامه. في يوم المحاكمة، كان 500 مواطن في هيئة المحلفين يستعدّون لاتخاذ القرار. 280 منهم قرر أنه مذنب، فقضى الحكم الصادر بإعدامه بسمِّ الشوكران.

كان لليونانيين آنذاك الكثير من المعتقدات السائدة. كانوا يشعرون بالتفاؤل بسبب امتلاكهم العبيد. وكي يعتبر المرء رجلاً حقيقياً كان عليه أن يتقن كيفية حزّ رؤوس الأعداء، وكانت النساء خاضعات كلياً لسلطة أزواجهن وآبائهن، وكنَّ محرومات من الميراث ومن امتلاك المال. يُظهر لنا المؤلف، من خلال نقاشات سقراط مع سكان أثينا في ساحاتها العامة، كيف كان يتقرَّب من الأثينيين، ليطرح عليهم الأسئلة، ويفسّر لهم سبب اعتناقهم تلك المعتقدات، وما يعتبرونه مغزى حياتهم، وليحدّد ما إذا كان السائد يحمل أيّ مغزى أساساً.

يخبرنا دو بوتون أن سقراط لم يتبرأ من فلسفته في المحكمة، واختار الوقوف مع ما كان يؤمن بأنه صحيح، بل الوقوف مع ما كان يؤمن بأنه سيكون سائداً. لم يهتزّ معتقده، ولم يتنازل عن أفكاره، بل "كانت ثقته نابعة من مصدر أشد عمقاً من العناد أو التهور. لقد كانت متجذرة في الفلسفة، إذ منحته قناعات مكّنته من امتلاك ثقة مبنية على العقل".

من الممكن، بالطبع، التوصّل إلى الحقائق من دون تفلسف، يستدرك، ولكن قد نجازف في الوقوع في جهل كيفية الرد على الأشخاص الذين نخالفهم الرأي لو لم نعمد بداية إلى التدقيق في الاعتراضات التي قد تعتري موقفنا على نحو منطقي... وعند الافتقار إلى الحجج المضادة التي تمنحنا القوة، لا بد من أن نشعر بالضعف أو التردد في تأكيد صحة مواقفنا، عدا عجزنا عن تفسير سبب ذلك.

وبذلك، يشرح دو بوتون، يمنحنا المنهج السقراطي للتفكير طريقة لتطوير الآراء التي يمكن لنا اعتناقها بثقة فعلية، حتى لو واجهتنا العواصف. بإمكاننا المبادرة وخوض تجربة شبيهة بما كان يقوم به سقراط، ولكنَّ قلة من تؤمن فعلاً بهذا الأسلوب، أو تمتلك الشّجاعة على المضي به. أحد الأسباب التي تمنعنا من مساءلة الوضع القائم هو عدائية الآخرين، يقول، إذ قد يتم إضعاف إرادة التشكيك الخاصة بنا على نحو كبير بفعل إحساس داخلي أن المعتقدات المجتمعية تمتلك أساساً منطقياً حتماً، حتى لو لم نكن واثقين تماماً من ماهيته، لأنها نقلت إلينا عبر عدد كبير جداً من البشر خلال زمن طويل. ويوضح: "سيبدو من غير المعقول أن يكون مجتمعنا مخطئاً على نحو فادح في معتقداته، وأن نكون نحن - في الوقت ذاته - الوحيدين الذين أدركوا الحقيقة. إننا نخمد شكوكنا ونتبع القطيع لأننا عاجزون عن اعتبار أنفسنا رواداً في اكتشاف حقائق لا تزال صعبة ومجهولة حتى الآن".

على خطى أرسطو، فإنَّ ما ينبغي أن يقلقنا ليس عدد الناس الذين يعارضوننا، بل مدى قوة الأسباب التي تدفعهم إلى المعارضة، فمدى "منطقية منهج تفكيرهم هو الذي ينبغي أن يحدد القيمة التي سنسبغها على معارضتهم لرأينا، واستحقاق الاحترام الفعلي لا ينبع من إرادة الأغلبية، بل من المنطق الملائم".

بالطبع، حاول الفيلسوف اليوناني الرد على الاتهامات الموجهة إليه، وفسَّر أن الدافع إلى سعيه نحو الفلسفة مجرد رغبة بسيطة بتحسين حياة الأثينيين، وكان يمكن له التراجع عن فلسفته وإنقاذ حياته، ولكنه أضاع الفرصة بسبب العناد، يقول دو بوتون. وفي رأيه، لا ينبغي أن نلجأ إلى سقراط لينصحنا بشأن التملّص من حكم الإعدام، بل علينا أن نعتبره مثالاً متطرفاً عن كيفية الاحتفاظ بالثقة في موقف فكري يواجه معارضة لا منطقية، أن يدرك كلّ فرد منا كيف يصبح "حكيماً من خلال الفلسفة".

 

العزاء بشأن الافتقار إلى المال

هنا، سنعود إلى أبيقور؛ الفيلسوف الذي اقترن اسمه بالسعي وراء اللذة الحسية، وكان يرى أن "اللذة هي منطلق وغاية الحياة السعيدة". أسَّس أبيقور مدرسة فلسفية تشجّع على عيش اللذة ودراستها معاً، بدعم من بعض الأثرياء. نُقل الكثير من الشائعات عن النشاطات التي كانت تحدث بين المحاضرات، فقيل إنه كان يتقيأ مرتين يومياً بسبب نهمه للطعام. ثم نشر أحد الرواقيين خمسين رسالة خليعة ادعى أن أبيقور كتبها بعد أن كان مخموراً، ولكن الواقع كان خلاف الشائع. كان الطعام في المدرسة بسيطاً، وكان يشرب الماء لا الخمر، ويتناول الخبز والخضار على العشاء.

 توصَّل أبيقور إلى خلاصات عدة بشأن ما يجعل الحياة ممتعة، وقد بدا أن العناصر الجوهرية للذة لم تكن باهظة جداً، بصرف النظر عن ماهيتها. كانت الصداقة أحد هذه العناصر. أوصى بأنَّ على المرء أن يحاول أن لا يأكل بمفرده أبداً، وأكَّد أن مجموعة صغيرة من الأصدقاء الحقيقيين قد تمنحنا الحب والاحترام اللذين قد تعجز الثروة عن منحهما، فالأصدقاء الحقيقيون، في رأيه، لا يقومون بتقييمنا تبعاً لمعايير دنيوية، بل إن جوهر الذات هو ما يهتمون به.

تتدرج في لائحة أبيقور عناوين أخرى رئيسية. تأتي فيها مثلاً "الحرية". وليحقق هذه الغاية، اشترى حديقة وزرع فيها مع أصدقائه أصنافاً عديدة من الطعام، كي لا يضطروا إلى العمل عند أناس لا يستسيغونهم ومواجهة نزوات مهينة محتملة. كان "التفكير" أيضاً إحدى أبرز الأولويات لديه. كان مهتماً بأن يتعلَّم مع أصدقائه تحليل حالات قلقهم بشأن المال والمرض والموت، وكان يرى أن التحليل الواعي يهدئ الذهن، ويساعد على مواجهة الملمّات، كما أنّ تحليلنا لكثير من المشاعر التي تنتابنا يساعدنا على فهمها، وبالتالي التكيّف معها بشكل أكثر مرونة.

بالطبع، لن يتسبّب الثروة ببؤس أحد، يعقب المؤلف، ولكن لبّ محاججة أبيقور هو أننا لو امتلكنا مالاً من دون أصدقاء أو حرية أو حياة منظمة، لن نكون سعداء فعلاً. ولو امتلكنا هذه العناصر مع الافتقار إلى الثروة لن نكون تعساء أبداً. فقد تكون السعادة صعبة التحقّق، ولكن العقبات ليست مالية على نحو أساسي.

ولتوضيح ما هو جوهري في الحياة، قسَّم أبيقور حاجاتنا إلى ثلاثة أصناف: الأول طبيعي ولازم (الطعام، الملبس...)، والثاني طبيعي وغير لازم (خدم، ولائم...)، والصنف الثالث ليس طبيعياً ولا لازماً (الشهرة، السلطة...). ودعا إلى تطبيق التساؤل الآتي على جميع الرغبات: ما الذي سيحدث لي لو تحقق ما كنت أرغب به؟ وما الذي سيحدث لو لم يتحقق؟

يشير أبيقور إلى أن السعادة معتمدة على بعض الأمور السيكولوجية المعقدة، ولكنها مستقلّة نسبياً عن الأمور المادية، باستثناء الوسائل اللازمة لشراء بعض الملابس الدافئة وتأمين مكان للعيش. ويؤكّد أن إحساسنا بالسعادة لن يقل مع الإنفاق الأكبر، ولكننا لن نتخطى مستويات السعادة المتوفرة أساساً للذين يتقاضون دخلاً محدوداً، وسنجد أنَّ قدرة المال على تحقيق السعادة حاضرة أساساً في الرواتب الصغيرة.

 

العزاء بشأن الإحباط

عزاؤنا في الإحباط كان الفيلسوف الرواقي سينيكا، الذي عدَّ الفلسفة منهجاً تعليمياً يساعد البشر على تجاوز التباينات بين أمنياتهم والواقع. عاش سينيكا مآسي جمة خلال حياته، ويخبرنا دو بوتون أنَّ الفلسفة كانت سبب قدرته على الصمود أمام المحن. "أدين بحياتي للفلسفة، وهذا أقل التزاماتي حيالها"، كان يردّد دوماً.

البنية الأساسية في قلب كلّ إحباط، يقول سينيكا، هو تعارض أمنية مع واقعٍ قاسٍ، وسنتمكَّن من بلوغ الحكمة حين نتمكَّن من أن لا نفاقم استعصاء العالم أمامنا من خلال ردود أفعالنا ونوبات الغضب ورثاء الذات والقلق والسخرية المريرة.

يقول دو بوتون إنَّ ثمة فكرة واحدة تتكرَّر في أعمال سينيكا: من الأفضل تحمّل الإحباطات التي هيأنا أنفسنا لها، ومحاولة فهم معظم تلك التي فاجأتنا من دون أن نتمكَّن من استيعابها. يجب أن توفّق الفلسفة بيننا وبين الأبعاد الفعلية للواقع. وبذلك، ستعيننا على الأقل على درء الإحباط المكوّن من العواطف الخبيثة المرافقة، إن لم تجنّبنا الإحباط بذاته.

وفي رأيه، إنَّ الغضب لا ينجم عن انفجار جامح للمشاعر بل عن خطأ بسيط وقابل للتصحيح في التفكير، وهو "لا يندرج تحت تصنيف الحركة الجسدية اللاإرادية، إذ إنه لا ينطلق إلا على إثر أفكار محددة متبنّاة عقلياً، ولن نغيّر نزوعنا إلى الغضب ما لم نغيّر هذه الأفكار".

عندما كان يُسأل عن كيفية ضبط إحباطاتنا، كان جوابه حاضراً ومباشراً: عبر فهم ما يمكن أن نتوقعه من العالم، وعبر خبرتنا بالنتائج الطبيعية لتوقعاتنا، فلا بد من تطويع أنفسنا مع اللااكتمالية المتلازمة مع الوجود. يراهن سينيكا على أننا حالما نتعامل بعقلانية مع ما سيحدث لو لم تتحقق رغباتنا، سندرك على نحو كبير أن المشكلات الضمنية أصغر من حالات القلق التي تولّدها.

يشير دو بوتون إلى أنّ تجارب الفيلسوف الرواقي سينيكا لقّنته قاموساً شاملاً من الإحباط، ولقّنه عقله سلسلة من الاستجابات لها، كما هيأته السنوات التي قضاها في الفلسفة لليوم الذي سيطرق فيه ضابط نيرون باب منزله، ويأمره بأن يقتل نفسه، بعد أن كشفت مؤامرة للإطاحة به.. رغم عدم وجود دليل يربط سينيكا بالمؤامرة.

ظلَّ سينيكا هادئاً، حتى بعد بدأت عملية الانتحار بالتعثّر. لم يجرِ الدّم بسرعة كافية في جسده الهرم حتى بعد أن مزَّق شرايين كاحليه ومؤخرتي ركبتيه.. فطلب تحضير سم الشوكران، ولكن لم يكن له أدنى تأثير. وبعد محاولتين فاشلتين، طلب وضعه في حمام بخار كي يختنق حتى الموت ببطء.

برغم اصطدام أمنياته بتعارض صارم ومفاجئ مع الواقع، لم يرضخ للحظات الضعف والهشاشة المعتادة، إذ واجه المطالب الصادمة بكرامة. "وعبر موته، أسهم سينيكا في خلق رابط دائم مع مفكرين رواقيين آخرين، بين جوهر كلمة "فلسفي" ومقاربة هادئة معتدلة للكارثة"، يقول المؤلف.

 

العزاء بشأن العجز

بشأن العجز بشتى صوره، ستكون وجهتنا مونتين. كان فيلسوفاً فرنسياً يؤمن، كما أبيقور، بأنَّ الصداقة مكوّن جوهري للسعادة، وكانت القراءة تشكّل مصدر الراحة في حياته: "الالتجاء إلى الكتب هو كل ما أحتاج إليه كي أطرد الأفكار الكئيبة".

في مواجهته العجز الجسديّ، دعا مونتين إلى تعزيز تصالحنا مع ذواتنا الجسدية، وكان شديد التأكيد على أنَّ كلّ ما يحدث للبشر لا يمكن أن يكون غير بشري. عزا مشكلاتنا مع جسدنا – جزئياً – إلى غياب النقاش الصريح بشأنها في الدوائر المهذبة، وكان يعيب على تصوّراتنا المحافظة أنها تتجاهل قدراً كبيراً من ماهيتنا.

 يرى دو بوتون أنَّ ما سعى إليه مونتين ليس اعتبار أنَّ الحكمة مستحيلة، بل تحديد ظلال المعنى في تعريف الحكمة بذاته، فلا بدّ من أن تتضمّن الحكمة تعايشاً مع ذواتنا الدنيا، ولا بدّ من أن تتمنى رؤية متواضعة بشأن الدور الذي يمكن أن يلعبه الفكر والثقافة العالية في أية حياة، وأن تقبل المتطلبات العاجلة، واللاتنويرية أحياناً، لإطارنا الدنيوي.

كان مونتين يعتبر أن عزاءنا عندما يَسمنا أحد ما بالغرابة هو الصداقة، باعتبار "أن الصديق من بين أمور أخرى، هو شخص طيب بما يكفي لاعتبار أن معظم ما فينا طبيعي أكثر مما يعتبره معظم الناس". وقد آمن بأن الصداقة مميّزة، بحيث إنها لا تحدث إلا مرة كلّ 300 عام.

كذلك، وجَّهنا مونتين أيضاً إلى كيفية تخطي العجز الفكري، فميَّز بين التعلّم والحكمة. عدّ المنطق، التأثيل، القواعد، اللغة اللاتينية... ضمن تصنيف "التعلّم". وتحت تصنيف الحكمة، "أدرج ضرباً من ضروب المعرفة اتسم بكونه أشد اتساعاً واطلاعاً وقيمة، وكل شيء يمكن أن يعين الإنسان على العيش الهانئ، ولو كان الإنسان حكيماً، فإنه سيخمن القيمة الحقيقية لأي شيء عبر مدى نفعه وملاءمته لحياته".

كان مونتين يعتقد أنَّ الحكمة لا تستلزم مفردات أو علم نحو تخصصياً، ولا يستفيد الجمهور من تضجيره، وليس ثمة أسباب موجبة كي تكون كتب الإنسانيات صعبة أو مملة، ولا بد من أخذ الكتب بجدية حي تكون لغتها بسيطة وأفكارها واضحة، فما يهم فيها هو النفع والملاءمة فيما يخص الحياة. ودعانا كذلك إلى أن نمتنع عن اعتبار أنفسنا حمقى – بفعل الفقر في الميزانية أو التعليم - لو كانت ثيابنا بسيطة ومفرداتنا ليست أعظم من مفردات بائع في السوق، "فالحياة الفاضلة العادية الساعية إلى الحكمة من دون أن تكون بعيدة عن الحماقة، هي إنجاز كافٍ بذاته".

 

العزاء بشأن انكسارات القلب

بشأن انكسارات قلوبنا، يحيلنا دو بوتون إلى شوبنهاور، باعتباره قد يكون الأفضل بين الفلاسفة في هذا المجال. ترك له والده بعد انتحاره ثروة كبيرة، ولكنه لم يشعر بالسعادة إزاءها. عرف كأبرز أعظم التشاؤميين في تاريخ الفلسفة، وكانت أمّه تتذمّر من ولع ابنها "بالتفكر بالبؤس البشري". كان يرى أنَّ "هذا العالم لا يمكن أن يكون نتاجاً لكائن محب، بل كائن شرير، أوجد الخلق كي يبتهج لمرأى معاناتهم".

يقول دو بوتون إن شوبنهاور كان قليل الأصدقاء، وكان يدخل في الحوارات من دون سقف توقعات عالٍ. سافر وزار بلداناً كثيرة، والتقى عدداً من الفتيات اللواتي رفضنه. كان يبدي اهتماماً برعاية الحيوانات، ويتبع روتيناً يومياً صارماً.

يتطرَّق الكاتب إلى سلسلة من المفارقات التي طبعت سيرة الفيلسوف الألماني. حاول أن يحصل على منصب جامعي في قسم الفلسفة في برلين، فألقى محاضرات عدة، بحضور بضعة طلاب، فيما كان منافسه هيغل يحاضر في بناء مجاور في جمهور يبلغ الثلاثمئة. بعد إخفاقه كأكاديمي حاول أن يصبح مترجماً، ولكن الناشرين رفضوا عروضه لترجمة كانط إلى الإنكليزية. وأعرب في رسالة عن رغبة كئيبة باحتلال "موقع في الحياة البرجوازية"، ولكنه لم يحقق أمنيته أيضاً. ولكن الأمور كلها تغيّرت بعد سنوات من التجارب المخيّبة، فاتسعت شهرته في أوروبا، وكانت المحاضرات تلقى عن فلسفته في الجامعات، ويتلقّى الكثير من الرسائل من المعجبين.

كان شوبنهاور يعتقد أنَّ "أسعد إنسان هو من استطاع احترام نفسه بإخلاص، مهما حدث". كان يتَّفق مع رأي مونتين بأن عقولنا خاضعة لأجسادنا، ويتحدث عما أسماه "إرادة العيش" التي تعرف بكونها دافعاً كامناً داخل البشر لإبقائهم أحياء وقادرين على التناسل، وكان يرى أنها تتفوق على العقل. كذلك كان يطلب منا ألا نفاجأ بالبؤس، وأن لا نبحث عن مغزى من حياتنا بالزواج أو إنجاب الأطفال. وعند حالات الرفض أو الخيبة، يجب أن ندرك، كعزاء لنا، أن حالتنا ليست سوى واحدة من بين الآلاف، لتصبح المعاناة أكثر قابلية للفهم، وأقل من أن تكون لعنة فردية.

 

العزاء بشأن المصاعب

يختم دو بوتون مع نيتشه في العزاء بشأن المصاعب. تقوم فلسفته في الحياة على تقبّل الألم والمصاعب، بل والترحيب بها، لتحقيق الإنجازات. كان يقول: "لأولئك البشر ممن أنا معني بهم بهذا القدر أو ذاك، أتمنى المعاناة، والأسى، وسوء المعاملة، والإهانات. أتمنى أن لا يبقوا غريبين عن ازدراء الذات العميق، وعن عذاب الارتياب بالذات وعن بؤس القهر". فتحقيق الإنجاز لا يتم عبر تجنّب الألم، بل عبر تحديد دوره بكونه طبيعياً، وخطوة لا يمكن تجنّبها على الطريق نحو التوصل إلى أي غاية جيدة.

يشير دو بوتون إلى أنَّ نيتشه كان يسعى جاهداً إلى تصحيح الاعتقاد القائل إنَّ على الإنجاز التحقّق بسهولة أو أنه لن يتحقق أبداً. كان يرى أن هذا الاعتقاد ذو تأثيرات هدامة، إذ يقودنا إلى الانسحاب على نحو طفوليّ من التحديات التي كان يمكن تجاوزها لو كنا مهيّئين لمواجهة الوحشية التي تستلزمها جميع الأشياء القيّمة تقريباً.

"لا ينبغي أن نشعر بالحرج بسبب ابتلاءاتنا، إذ عبر إخفاقاتنا فحسب سينمو كلّ ما هو جميل"، أعلن نيتشه فلسفته وبقي ملتزماً بها رغم كلّ ما مر به من وحدة وفقر ومرض وألم.