الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي والمسألة الشرقية

يتناول الكتاب فترة حكم محمد علي باشا ما بين 1805 و1848 الحافلة بالأحداث المهمة والتي أثرت بشدة في صنع تاريخ مصر الحديثة.

كتاب "الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي والمسألة الشرقية (1811 - 1849)"

 ليست قصة حياة محمد علي باشا (1769 -1849)، لكنها بالتحديد فترة حكمه لمصر في الفترة ما بين (1805 إلى 1848) تلك الفترة الحافلة بالأحداث الهامة والتي أثرت بشدة في صنع تاريخ مصر الحديثة، وذلك بداية من أول مذبحة القلعة الشهيرة التي قضى فيها على المماليك إلى هزيمته للإنجليز في موقعة رشيد وغيرها من الأحداث الشيقة التي تمتلىء بها قصة "محمد علي". 

  الكتاب لم يمر على المراحل السالفة وإنما جاء ليدرس المرحلة الأخيرة من مراحل "المسألة الشرقية"، وهي المرحلة التي استحوذت على المشهد السياسي الأوروبي بدءاً من سنة 1831 حتى سنة 1841، "حيث استطاع "محمد علي" بمعاونة ابنه ابراهيم أن يجدد قوى مصر، ويحرز انتصارات باهرة على تركيا (الدولة صاحبة السيادة على مصر) وينتزع منها مساحات شاسعة من الأراضي التي كوّن منها إمبراطورية واسعة الأرجاء بسطت نفوذها على شمال أفريقيا وغرب آسيا.

   جاءت البداية والتمهيد في بداية الكتاب بعرض المؤلف السوربوني، لبدايات تكوين هذه الإمبراطوية، ذلك عندما استطاع محمد علي أن يعتلي عرش مصر عام 1805 بعد أن بايعه أعيان البلاد ليكون والياً عليها، ذلك بعد أن ثار الشعب على سلفه خورشيد باشا، ومكّنه ذكاؤه واستغلاله للظروف المحيطة به من أن يستمر في حكم مصر لكل تلك الفترة، ليكسر بذلك العادة العثمانية التي كانت لا تترك والياً على مصر لأكثر من عامين.

 نحن إذًا أمام الوالي التركي على مصر، محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم آغا القوللي، الملقب بالعزيز أو عزيز مصر، هو مؤسس الأسرة العلوية وحاكم مصر ما بين عامي 1805 و1848، ويشيع وصفه بأنه "مؤسس مصر الحديثة" وهي مقولة كان هو نفسه أول من روّج لها واستمرت بعده بشكل منظم وملفت.  

  كانت البداية كما أسلفنا مع الحملة الانجليزية بقيادة فريزر 1807، كذلك ما حدث في وسط هذه الظروف الصعبة هو أن خاض محمد علي في بداية فترة حكمه حرباً داخلية ضد المماليك والإنجليز، إلى أن خضعت له مصر بالكليّة. تطورت الأحداث وصولًا إلى أن خاض حروباً بالوكالة عن الدولة العثمانية في جزيرة العرب ضد الوهابيين وضد الثوار اليونانيين الثائرين على الحكم العثماني في المورة، كما وسع دولته جنوباً بضمه للسودان. وبعد ذلك انتقل إلى مهاجمة الدولة العثمانية حيث حارب جيوشها في الشام والأناضول، وكاد يُسقط الدولة العثمانية، لكن حكم أسرته سقط لاحقاً في 18 حزيران (يونيو) 1953، بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في مصر، عقب حركة قام بها مجموعة من الضباط الأحرار في مصر في تموز (يوليو) في العام السابق لإلغاء الملكية.

 يعرض الكتاب طرح محمد علي للمسألة الشرقية من خلال رغبته في تسوية موضوع وراثة تركة الدولة العثمانية لصالحه هو، واصطدامه بمصالح أوروبا، ما دفعها للتدخل، وإثارة أزمات متعددة متعددة هددت السلام الأوروبي بدءاً من "حرب المورة" حتى سنة 1841، حيث كانت للقوى الأوروبية العظمى مطامعها الخاصة؛ لكن الصراع حول هذه المطامع والمصالح المعقدة كان يدور تحت غطاء من التعبيرات، أو المصطلحات الدبلوماسية شددية العمومية والغموض، منها مصطلح "الدفاع عن وحدة أراضي الدولة العثمانية".

  الكاتب يصل بعد ذلك إلى الشام بعد المورة حيث مشروع الوحدة العربية، ذلك عندما سعت فرنسا في الشمال الأفريقي نحو بسط النفوذ في العمق الأفريقي، وكان الصدام مع مصر، وهنا فكرت فرنسا في محمد علي، حيث يمكن أن يقوم بدور الوكيل الفرنسي، بدلًا من التنافس، حيث توجد دراسة وضعها البارون (دي كوهورن) الملحق بوزارة الخارجية الفرنسية عنوانها: (نظرة على وضع مصر السياسي في سنتي 1828 و1829)، وفيها يحدد المؤلف وجهة النظر الفرنسية بعد حرب المورة. ووصل  الأمر إلى خوض محمد علي محاربة الشمال الأفريقي نيابة عن فرنسا، ذلك في مقابل عدد من السفن والمدافع، والقروض، وأن تخضع الدول الثلاث في الشمال الأفريقي للباب العالي مثل مصر.  

  بدأ التراجع عن كل هذه الأفكار التوسعية، ذلك مع وصول محمد علي نحو الباب العالي. هنا جاء التدخل الروسي نحو الوالي المتمرد. ومنذ منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر وبعد قرابة عشرين عامًا من تطبيق هذه السياسة التوسعة من محمد علي، بدأت الدول الأوروبية تدرك أن ثمة شيئًا يحدث في مصر لا يتفق مع الإمتيازات التي تتمتع بها تلك الدول في اتحاد الولايات العثمانية، ذلك أن قناصل الدول الأوروبية، وهم تجار بطبيعة الحال ويقومون بدور الوكيل التجاري في مصر، لاحظوا أن محمد علي قد ألغى دورهم فلا أحد يشتري عن طريقهم شيئًا ولا أحد يبيع لهم شيئاً ومن ثم شكوا إلى دولهم من أن محمد علي لا يطبق نظام الإمتيازات.

   قد يكون في وسط هذه الأحداث، أن انجلترا كانت أسبق الدول الأوروبية تضررًا من سياسة محمد علي الاقتصادية فهي دولة صناعية ويمثل الإنتاج الصناعي مصدرًا أساسيًا للدخل العام. ومن ثم فإنها بحاجة شديدة إلى تصريف الإنتاج في السوق الخارجية تحقيقًا لزيادة الموارد من ناحية ولتدوير رأس المال من ناحية أخرى، وكانت السوق المصرية أحد مجالات إنعاش الإنتاج الإنجليزي بهذا المعنى. إلا أن سياسة محمد علي كان من شانها أن تؤدي إلى إصابة شرايين الاقتصاد البريطاني بجلطة دموية تؤثر تدريجيًا على نشاط الدورة الحيوية لرأس المال.

  رغم كل التفاصيل التي جاء بها الباحث، يبقى أن أكثر النظريات السائدة عند المؤرخين وفي الأوساط العامّة، هي تلك التي تقول أن محمد علي هو "والد مصر الحديثة"، كونه كان الحاكم الأول عليها، والذي استطاع تجريد الباب العالي من سلطته الفعليّة على البلاد، منذ الفتح العثماني لمصر عام 1517. وعلى الرغم من أنه فشل في تحقيق الانفصال التام لمصر عن الدولة العثمانية، إلا أنه وضع أسس الدولة المصرية الحديثة، التي تبلورت بعد وفاته.

   نعم كان قد يكون محمد علي صاحب مشروع سياسي نهضوي هدف في المقام الأول إلى بناء قاعدة عسكرية وسياسية حديثة ذات شأن تقي المشرق العربي عدوان الغرب لا عن طريق المواجهة، وإنما عن طريق التزود بأسباب المنعة والقوة، والتي تحقق نوعًا من توازن القوى مع الغرب وتجعل الأخير يتعامل مع الدولة العثمانية معاملة الند للند. لذلك فقد سعى إلى أن يقيم في مصر "دولة نموذجية" حديثة توفر له فرصة إقامة دولة إسلامية قوية من خلال تطبيق نموذج مصر على الدولة العثمانية ذاتها، فقد صرّح يومًا لبعض خلصائه برغبته في الوصول إلى الأستانة، وخلع السلطان وتولية إبنه الصبي، وتنصيب نفسه وصيًا عليه لتتاح له فرصة إصلاح الدولة كلها. وهكذا كانت مصر -عند محمد علي- قاعدة انطلاق لمشروع سياسي إقليمي يعتمد على بناء قوة عسكرية كبيرة حديثة.

  رأى البعض أنه من خلال بنائه لجيش كبير وقوي يُدافع عن بلاده ويوسع رقعتها، أنشأ بيروقراطية مركزية ونظاماً تعليمياً سمح بحصول حراك اجتماعي في المجتمع المصري، وقاعدة اقتصادية واسعة تستند إلى الزراعة والصناعات العسكرية. وقد كان من شأن جهوده وأعماله هذه أن توطّد حكم ذريته لمصر والسودان طيلة 150 عاماً تقريباً، كانت مصر فيها دولة تتمتع باستقلال ذاتي قانوني في ظل الدولة العثمانية، ومن ثم في ظل الحماية البريطانية.

  ورغم أن البعض رأى ذلك دليلاً على أن سياسة محمد علي الاقتصادية كانت السبب في الإيقاع به. فاتفاقية لندن نصّت فيما نصّت عليه على أن محمد علي ملزم بتنفيذ الاتفاقيات التي يعقدها السلطان العثماني مع أي دولة وهي إشارة إلى اتفاقية "بلطة ليمان"، وحاول محمد علي أن يراوغ لعدم تنفيذ المعاهدة بتشجيع من فرنسا إلا انه لم يكن هناك مفر في النهاية من الإذعان ثم تجديد سياساته الاقتصادية وبداية الرجـوع عنها في عهد أولاده.

  الحقيقة التي غابت عن فكر محمد علي هي أن بناء مثل هذه القوة يحتاج إلى موارد مالية ضخمة تقصر دونها خزانة والي مصر التي كانت تعتمد على الخراج والمكوس، ولا يستطيع محمد علي أن ينشد تلك الموارد من مصادر خارجية كالأستانة مثلًا، فقد جعله الحرص على استقلال قراره السياسي ينفر من فكره الاستدانة ويرفضها عندما عرضت عليه في العقد الأخير من حكمه. فكان لا مفر أمامه من أن يدبر الموارد اللازمة لمشروعه السياسي من مصر ذاتها وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا استطاعت "الدولة" أن تضع يدها على موارد البلاد كلها، تديرها وتنمّيها بالقدر الذي يوفّر الأموال اللازمة لبناء القوة العسكرية الحديثة، بما تتطلبه تلك القوة من مؤسسات إنتاجية وخدمية. ومن ثم كانت السياسات الاقتصادية التي نفذها محمد علي -تدريجياً- وانتهت بوضع الاقتصاد تحت إدارة السلطة المركزية وتعبئة الموارد لخدمة المشروع السياسي الإقليمي وإدخال تغييرات هيكلية على النظام الإداري وما ارتبط بذلك من تطور في نظام التعليم وما نتج عنه من صحوة ثقافية.

   هناك قسم  من المؤرخين يرى أن محمد علي لم يكن باني مصر الحديثة، وإنما هو أجنبي غازٍ مثله في ذلك مثل أي محتل آخر لأرض مصر، بدءاً من الفرس في عام 525 ق.م. وحجج أصحاب هذا الرأي تتمثل بعدّة نقاط، منها أن محمد علي لم يتكلم العربية أو يجعلها اللغة الرسمية في بلاطه، وإنما استعاض عنها بالتركية، كما أنه استغل ثروات مصر ومواردها البشرية لتحقيق مآربه الخاصة، وليس لتحقيق مصلحة البلاد وأهلها، وإنه أرهق المصريين بالضرائب وأعمال السخرة والتجنيد الإجباري.  

  يبقى أننا أمام كتاب استمد قوته من كوكبة الإعداد والترجمة والمراجعة لفريق، جاء على رأسه  محمد صبري، الذي حصل على ليسانس التاريخ الحديث من جامعة السوربون بفرنسا سنة 1919، ثم حصل على دكتوراه الدولة مع مرتبة الشرف من السوربون سنة 1924 عن رسالته "نشأة الروح القومية في مصر"، وهو أول مصري يحصل على هذه الدرجة العلمية. له 33 مؤلفًا باللغة العربية والفرنسية عن تاريخ مصر الحديث وعن الأدب العربي.

 وهو كان رائدًا من رواد الدراسات الجامعية الذين جمعوا في دراستهم وتأليفهم وتدريسهم بين التاريخ والأدب وعلوم أخرى، وهو واحد من أبرز المفكرين المصريين المعاصرين الذين جمعوا التفوق في الأدب والتاريخ معًا، كما تميز بقدرات نقدية عالية، وهو أول رئيس لمعهد المكتبات والوثائق في جامعة القاهرة. وبجانب اهتماماته الأدبية كانت له اهتمامات سياسية وتاريخية وقومية خاصة بتاريخ مصر، وقد حظيت دراساته التاريخية ولا تزال تحظى بقيمة كبيرة منذ عمل على مساعدة الوفد المصري في فرساى بكتاباته التي تميزت بالقدرة البيانية، فضلًا عن الإحاطة التاريخية الدقيقة. وقد أصدر باللغة الفرنسية عام 1919 الجزء الأول من كتابه «الثورة المصرية» وأصدر عام1920 كتاب «المسألة المصرية» بالفرنسية، ثم أصدر عام 1921 الجزء الثاني من «الثورة المصرية» بالفرنسية أيضاً، ثم أصدر باللغة العربية كتابه «تاريخ مصر الحديث من عهد محمد على إلى اليوم» عام 1926، ومرجعين ضخمين عن «الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي والمسألة الشرقية»، و«الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل والتدخل الانجليزي الفرنسي»، وقد صدرا بالفرنسية. ونشر كتاباً آخر عن السودان المصري عام 1821 - 1948 وكتابًا عن مصر في أفريقيا الشمالية، وله بالإضافة إلى هذا دراسات تاريخية متميزة منها «تاريخ الحركة الاستقلالية في إيطاليا» وعلى نحو ما أفاد سعد زغلول من موهبة الباحث فقد أفاد منه النقراشي عام 1947 حيث كلفه بوضع دراسة عن السودان.

فى عهد حكم "الضباط الأحرار" وعقب تأميم قناة السويس نشر الباحث السوربوني كتابه «أسرار قضية التدويل واتفاقية 1888» عام 1957 وكتابه «فضيحة السويس» عام 1958، وفي هذين الكتابين التاريخيين اجتمعت الوطنية المتدفقة بالبحث العلمي الأصيل، وظهر نموذج نادر للمؤرخ الوطني الذى يملأ الحماس قلبه مع عقل ذكي، وأسلوب علمي. ويذكر له أن الكاتب تمكن من دراسة وثائق قصر عابدين مستعيناً بأحد أصدقائه الذين يعرفون التركية، كما تفرغ للبحث عن الوثائق التاريخية التى تفيد بحوثه ضمن المجموعات الكثيرة المنتشرة في مكتبات العواصم الأوروبية، وتحفل دراساته الأدبية بتوظيف جيد للتاريخ والدراسات التاريخية، لتوسيع مدارك البحث وضبط أساليبه.