"دولة الإرهاب": كيف قامت "إسرائيل" على الإرهاب؟

رغم أن المؤسسة الصهيونية قد رحبت بوعد "لجنة ييل" الضمني بإنشاء دولة ينفصل فيها العرقان، فإنها رفضت الخطة لأنها لم تعطِهم فلسطين كلها.

كتاب "دولة الإرهاب" للباحث توماس سواريز

كتاب "دولة الإرهاب" هو أحد الكتابات القليلة التي صنفها الكاتب الأميركي توماس سواريز، والتي تتمحور قضيته الرئيسة حول المسألة الفلسطينية، حيث يحاول المؤلف فيه، أن يشرح -بإسهاب-الحوادث والوقائع الإرهابية التي قامت بها المنظمات اليهودية الصهيونية في فلسطين، لإجبار بريطانيا والمجتمع الدولي على الاعتراف بتأسيس دولة الكيان الصهيوني في أرض فلسطين المحتلة.

 

توماس سواريز

مؤلف هذا الكتاب هو الموسيقي والكاتب الأميركي تُوماس سوارِيز وهو مِن مواليد مدينة نيويورك عام 1951، وينحدر مِن أصول إسبانية مِن طرف الأب وإيطالية مِن طرف الأُم.

ورغم ابتعاد مهنة سواريز الأصلية عن التاريخ، إلا أنه قد عُرف بإيمانه الشديد بالقضية الفلسطينية، حيث قام بجولات موسيقية عدة على نفقته الخاصة للعَزف في مخيمات اللاجئين، بالإضافة إلى مشاركته في العزف في عدد من الجامعات الفلسطينية. وبالإضافة إلى ذلك فقد عمل بالتدريس لسنوات عدة في "معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى".

 

فوضى المصطلح

في بداية كتابه يلفت توماس سواريز نظر القارئ إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أن ما يحدث على أرض فلسطين المحتلة منذ بدايات القرن العشرين، قد شهد تداخلاً كبيراً وفوضى هائلة فيما يخص استخدام المصطلحات التي يُقصد بها توصيف مفردات الأحداث والصراع الدائر في تلك المنطقة الملتهبة في العالم، حيث يقول "يصور الصراع الدائر بين إسرائيل والفلسطينيين في العادة بأنه صدام معقد لا حل له بين عدوين تاريخيين. لكن هذا الكتاب يقوم على مقوله تدعمها أدله هائلة، مفادها أن هذا التاريخ المأساوي برمته وصولاً إلى ما تكتبه الصحف في عناوين صفحاتها الأولى ليس سوى قصه واحدة لحركة سياسية تعرف بالصهيونية وتصميمها على الاستيلاء على فلسطين كلها لكي يستوطن فيها شعب اليهود يقوم على فكره الانتماء إلى دم واحد –إلى جنس واحد- وإن ما يقال عن التعقيدات الغيبية ليس سوى سلاح في هذه الحملة يهدف إلى التعمية على السبب الحقيقي للمأساة، وإلى تزييف التفسير المقدم للعجز عن وضع حد لها، وإلى اختطاف الديانة اليهودية والاضطهاد الذي تعرض له اليهود لمصلحة هذا الهدف، ولتقديم القصة الخرافية، وكأنها حقيقة للجماهير الغربية التي تدعم حكوماتها هذا الهدف".

ببساطة تلك هي الحقيقة التي يؤمن بها مؤلف الكتاب، والتي سيحاول من خلال صفحات كتابه أن يوصلها إلى عقل القارئ ووعيه.

ويؤكد سواريز في بداية كتابه أنه لم يأخذ صف الجانب الفلسطيني، ولم يحاول أن يبرئ ساحته، ويقول: "ارتكب الفلسطينيون أعمالاً إرهابية هم أيضاً، ويجب ألا يفسّر تركيز هذا الكتاب على الإرهاب الصهيوني أنه تبرير للعنف الذي مارسه الفلسطينيون ضد المدنيين".

ولكن الباحث يوضح السبب الذي جعل كتابه يمتلئ بأحداث الإرهاب الصهيوني تحديداً، وهو أن إرهاب الصهاينة هو الذي لعب دوراً مؤثراً للغاية في تاريخ فلسطين خصوصاً، وتاريخ منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، بينما كانت أحداث العنف من الجانب الفلسطيني مجرد "رد فعل للهيمنة العرقية الصهيونية وللاستيلاء على الأراضي والمصادر والعمل، ذلك أن أي شعب يُهاجم سيقاوم، وسيكون من بين أي جماعة أناس يقاومون بطرق متطرفة، خاصة عند حرمانهم من أي وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس، ولا يمكن للدولة المعتدية الاستشهاد بالعنف الذي يقاوم عنفها بحجة أنه تهديد لا بد لها من مقاومته –وإلا فإن أنواع العنف جميعها ستجد ما يسوّغ لها عنفها".

 

الهيكل الثالث: الميثولوجيا اليهودية التي قام عليها الكيان الصهيوني

في القسم الأول من كتابه، يعمل المؤلف على توضيح فكرة مهمة، وهي تلك التي تربط ما بين إقامة إسرائيل من جهة والأساطير الدينية التي وردت في كتب اليهود المقدسة من جهة أخرى.

بموجب تلك المزاعم الميثولوجية، روّج قادة الحركة اليهودية الصهيونية قضيتهم بين دول وشعوب أوروبا وأميركا، على كونها قضية عادلة، بل ومقدسة، بحيث صار المضي قدماً في العمل عليها، بمثابة تحقيق لوعد إلهي لا بد من تنفيذه.

ويعدد سواريز التجليات والشواهد التي تؤكد على ذلك الطرح، ومن ذلك عندما أصر زعماء الصهيونية الأوروبية على أنهم لم يكونوا مستوطنين بل (عائدين) إلى فلسطين لإعادة تشكيل "إسرائيل التوراتية".

وما قاله بن غوريون في الكثير من المقابلات "إن الكتاب المقدس هو ما يعطينا الحق في الاستيلاء على فلسطين".

وأيضاً ادعاء بن غوريون أن انتصاره في سنه 1948 قد شكّل الحدث الحاسم الثالث في تاريخ اليهود كله بعد الخروج من مصر، وبعد تلقي موسى الوصايا العشر على جبل سيناء.

ويوضح سواريز أن ذلك الربط ما بين الواقع الإسرائيلي والميثولوجيا التوراتية، لم يتوقف عند حدود العمل السياسي الرامي لإقامة كيان سياسي لليهود، بل أنه تخطى ذلك بمراحل ليصل إلى التأثير في المجتمع اليهودي نفسه، حيث يذكر المؤلف على سبيل المثال قصة الباحث في التلمود جيكن ملنك، والذي تم القبض عليه في تل أبيب في عام 1938، بتهمة الزواج من ثلاث نساء لا تعرف أي منهن شيئاً عن الزوجتين الأخريين. ولكنه نجح في الدفاع عن نفسه أمام المحكمة بقوله إن التوراة التي تخلو من أي نص يحرم تعدد الزوجات، هي الحكم، لكن ممثل الاتهام لجأ هو الآخر إلى النصوص الدينية، واستشهد بتحريم التلمود لتعدد الزوجات. وفي النهاية قامت المحكمة بتبرئته لأنها اعتبرت أن التوراة أرفع وأسمى مكانة من جميع الكتب المقدسة الأخرى.

ويلفت الكاتب النظر إلى أن الصهاينة قد عملوا منذ بداية تأسيس دولتهم، على الاستئثار الكامل لتاريخ الشعب اليهودي، حتى أنهم قد أطلقوا على ما صنعوه اسم "الدولة اليهودية" وليس "دولة يهودية"، وهو ما يعني أن "إسرائيل" هي "المالكة الوحيدة والتبدي الميتافيزيقي الوحيد لليهودية، ولشعبها ولتاريخ هذا الشعب".

وفي محاولة للإبقاء على الخط المقدس الذي يربط الحاضر السياسي بالماضي الميثولوجي، فإن الأصوليين اليهود قد عملوا على الحفاظ على "نقاء الدم"، ولا يزال زواج اليهودي من غير اليهودية جريمة يعاقب عليها القانون في "إسرائيل" حتى يومنا هذا.

 

الصهيونية والانتداب البريطاني حتى عام 1938

بعد ذلك يعمل المؤلف على توضيح الخطوات التي قام بها زعماء اليهود لإقناع بريطانيا بإقامة دولة لهم في فلسطين.

أولى تلك الخطوات تتمثل في المحاولة التي قام بها تيودور هرتزل لشراء فلسطين من العثمانيين لقاء سداد ديونهم الخارجية، وهي المحاولة التي باءت بالفشل نظراً للرفض المتكرر من جانب السلطان عبد الحميد الثاني، أخر سلاطين العثمانيين الأقوياء.

بعد ذلك انتقل هرتزل إلى بريطانيا واقترح على وزير المستعمرات جوزف شيمرلن إنشاء مستوطنة صهيونية في قبرص، ولكن شيمبرلن اقترح أن يجرى ذلك في مكان آخر، ففكر هرتزل في الأرجنتين وأوغندا تمهيداً لمشروعه –لكن أي أرض أخرى غير فلسطين "لم تكن سوى ما دعاه بالاستعمار الثانوي الذي لن يجتذب سوى بضعة آلاف ولن يخدم أي هدف سياسي".

وفي الثاني من تشرين الثاني - نوفمبر 1917، وقعت الخطوة الأكثر أهمية في تاريخ الحركة الصهيونية، عندما وقع آرثر جيمس بلفور بصفته وزيراً للخارجية البريطانية، الوعد الذي يعرف باسمه، والذي يتكون من 67 كلمة يخاطب فيها البارون روتشيلد، وهو الوعد الذي سرعان ما ادعي أنه الأساس القانوني لتحويل فلسطين إلى دولة استيطان صهيونية.

ويؤكد المؤلف أن الجانب البريطاني قد صاغ الوعد بالاستعانة ببعض زعماء الصهيونية، ولاسيما اللورد روتشيلد وحاييم وايزسمان، وأن هؤلاء القادة قد حاولوا كثيراً أن يغيّروا بعض العبارات والجمل المذكورة في الوعد، خدمةً لمساعيهم الاستعمارية المستقبلية، وفي سبيل تحقيق الربط بين الواقع والتاريخ اليهودي المقدس. ومن ذلك أنهم قد رفضوا استخدام كلمة  establishment (إقامة/تأسيس) في عبارة "إقامة وطن قومي للشعب اليهودي"، وأرادوا أن يضعوا محلها كلمة re-establishment (أي إعادة الإقامة أو التأسيس)، وهو ما يصب في مصلحة التأكيد على الحق التاريخي لليهود في فلسطين.

وبدايةً من منتصف نيسان - إبريل 1918، بدأت الجماعات اليهودية الصهيونية في فلسطين، تتخذ من العنف وسيلة، لفرض سياسة الأمر الواقع على كل من الإنجليز والفلسطينيين، حيث أخذ المسؤولون البريطانيون في القدس يحذرون من أن الجنود اليهود يختلقون حوادث يقصد منها استثارة العرب المسلمين، وقد اتخذت هذه الأحداث شكلاً متكرراً اضطر البريطانيون بسببها إلى منع هؤلاء الجنود اليهود من دخول المدينة القديمة في أيام العطل الدينية، فما كان من البعثة الصهيونية إلا اشتكت من الاضطهاد.

ومع ازدياد المزايا التي تمتع بها اليهود ازدادت حدة المقاومة الفلسطينية، ووصلت في أواخر عقد العشرينيات إلى حد العنف ووصل ذلك العنف إلى أشده في حادثة سنة 1929 التي راح ضحيتها 67 يهودياً في مدينة الخليل، والتي كانت شرارتها قد اندلعت بسبب إشاعة كاذبة.

في تلك الفترة تحديداً، كان الصهاينة يعملون بكل قوة، لتسفير أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين، وذلك حتى يتحقق توازن عددي ما بين اليهود والفلسطينيين، وكانت أهم خطوة في سبيل ذلك، تلك التي وقعت في عام 1933 في "اتفاقية هافارا"، عندما اتفق الصهاينة مع الألمان على السماح لليهود بالسفر من ألمانيا إلى فلسطين، في مقابل أن يستخدم اليهود البضائع الألمانية وينقذون الاقتصاد الألماني من حالة الركود والكساد التي كان يمر بها في تلك الفترة.

وفي عام 1937، وقعت خطوة مهمة في مسار الأحداث، عندما قامت "لجنة ييل"، بإصدار تقرير يوافق على ادعاء الصهاينة بأن اليهود ينتسبون إلى قومية قديمة بالدم وأن لهم حقوقاً تمنحها لهم التوراة، حيث اقترحت البعثة تقسيم فلسطين تقسيماً يعطي المستوطنين مساحات شاسعة من الأراضي.

ويذكر الكاتب، أنه ورغم أن المؤسسة الصهيونية قد رحبت بالوعد الضمني الذي جاءت به اللجنة بإنشاء دولة ينفصل فيها العرقان، فإنها رفضت الخطة لأنها لم تعطِهم فلسطين كلها.

وأمام ذلك التواطؤ الرسمي، كان من الطبيعي أن يقوم الفلسطينيون بالإعلان عن رفضهم لتقرير اللجنة، وظهر ذلك في بعض أعمال العنف التي قاموا بها، وكان الرد البريطاني على الشغب الفلسطيني، في صورة عقاب جماعي شمل المدن والقرى على صعيد واسع، على الرغم من أن القرى الفلسطينية لم تكن تشارك في تنظيمات تساند "الإرهابيين" أو تحميه، بحسب تعبير الكاتب.

ويظهر سواريز الفارق بين طبيعة وشكل العمل الفدائي الفلسطيني في تلك الفترة من جهة، والعمل الإرهابي الذي كانت تمارسه العصابات الصهيونية من جهة أخرى، حيث يقول أنه بينما كان الفلسطينيون "مجموعات متفرقة من الفدائيين guerrillas  يعملون في المناطق الريفية، فإن الإرهابيين الصهاينة كانوا ميليشيات منظمة تعمل داخل المدن وتتمتع بحماية السكان".

 

كيف أصبحت القوات البريطانية في فلسطين مجرد "حامية مُحاصرة"؟

بحسب ما يذكر المؤلف، فإن عام 1947، كان هو العام الذي بشّر بمقاومة أشد من قبل، من جانب الوكالة اليهودية تجاه أي دعم لمقاومة الإرهاب الصهيوني، فقد عاد كثيرون ممن كانوا ينتمون إلى اللواء اليهودي إلى فلسطين والتحقوا بالميليشيات، وانخرط بعضهم في عمليات الاغتيال في أوروبا، وساعد بعضهم في عمليات اختطاف الأيتام اليهود من العائلات التي تبّنتهم.

وعندما لجأ البريطانيون مجدداً، إلى القنوات الدبلوماسية لوقف عمليات التبرع لمنظمة الإرغون، أدى تسريب الخبر عن هذه المحاولة إلى نشرها على أنها ضغط بريطاني ضد المنظمات الخيرية اليهودية، وهو الأمر الذي ردت عليه العصابات الصهيونية بمنتهى العنف.

في الثاني من كانون الثاني - يناير 1947، استخدم الإرهابيون قاذفات اللهب ضد الأشخاص والبنايات والسيارات في القدس والخليل وتل أبيب، حيث تبين أن شرطة المستوطنات اليهودية تتعاون مع الإرغون.

أما في إيطاليا، فقد هددت الإرغون بمهاجمة المراكز الحساسة في الحكومة ما لم تساعد الحكومة الإيطالية على تنفيذ المطالب الصهيونية، وهو ما تحقق فعلاً في 10 كانون الثاني - يناير، عندما انفجرت كراسات ملغمة في ثماني مدن إيطالية كبيرة.

أما عملية الاختطاف الأكثر صلفاً فقد حدثت في السابع والعشرين من كانون الثاني - يناير، عندما اختطف ثمانية رجال مسلحين من منظمة الإرغون القاضي رالف وندم من قاعة المحكمة في تل أبيب.

عند هذه النقطة بالذات اعترف المسؤولون البريطانيون بأنه "ليس ثمة من هو في مأمن من الإرهاب الصهيوني في فلسطين، وأنه من الضروري تسفير النساء البريطانيات وأطفالهن والموظفين البريطانيين غير الضروريين، وبالفعل أصدر المندوب السامي أمراً بتنفيذ هذا التسفير". وفي هذا الوقت هددت نشرات الإرغون بإضرام جحيم في العالم كله إلى أن يستجاب إلى مطالبها، واعترف المسؤولون البريطانيون، سراً، بأن الإدارة المدنية في فلسطين كانت بمنزلة "حامية محاصرة"، واستمر كل من موظفي القطاع العام وعائلات الضحايا في الكتابة إلى الحكومة البريطانية؛ للتعبير عن إحباطهم في ضوء وجود قوات بريطانية يبلغ تعدادها مائة ألف فيما تعجز عن مواجهة الإرهاب الصهيوني.

 

كيف زادت حدة الإرهاب الصهيوني بعد النكبة؟

يستمر المؤلف بعد ذلك في شرح الآثار الكارثية التي نجمت عن نكبة عام 1948، حيث يذكر أن بعد هذا العام تحديداً، تم ابعاد ما يقرب من مليون فلسطيني عن بلده بسبب انتمائه العرقي، وأكثر من أربعمائة قرية مُحيت من الوجود، وحطمت حياة من لم يشملهم الاقتلاع المباشر.

ويؤكد المؤلف على أن "إسرائيل" قد ظلت تطبق الأحكام العسكرية على أساس عرقي طوال السنوات الثماني عشرة الأولى من وجودها، رسمياً، وفترة أطول من ذلك في الواقع – مع استثناء اليهود من تلك الأحكام. فعلى سبيل المثال، كان يطلب من غير اليهود أن يحصلوا على أذون  من الحكومة العسكرية لمغادرة قريتهم لأي سبب، وهو الأمر الذي أصاب جوانب الحياة اليومية العادية، المدنية والعائلية والاقتصادية، بالشلل. فقد كان المزارعون أو التجار الممنوعون من الوصول إلى الأسواق؛ لأنهم من غير اليهود، مضطرين إلى بيع منتجاتهم إلى التجار اليهود بأسعار أقل بكثير من أسعارها الحقيقية، وعندما كان الأزواج أو الآباء الفلسطينيون يحصلون على الإذن بترك القرية للعمل؛ فإنهم كانوا يعيشون في خوف دائم مما قد يفعله الجنود أو المستوطنون الإسرائيليون لعائلاتهم بينما هم بعيدون عنها.

وبحسب بعض المراجع التي لجأ إليها توماس سواريز أثناء العمل على تأليف هذا الكتاب، فإن التقدير الرقمي لعدد الفلسطينيين الذين تعرضوا للتطهير العرقي في العام 1948، وهو 750 ألفاً، هو رقم مضلل؛ لأنه أقل بكثير من الرقم الحقيقي (قال إيزنهاور إنه 900 ألف) إذ إنه لا يشمل سوى أولئك الذين دفع بهم إلى ما وراء خط الهدنة، والذين تقع بيوتهم وحقولهم بكاملها في الجانب الإسرائيلي من ذلك الخط.

ويشرح سواريز كيف أن التهجير القسري لم يكن هو الممارسة الإرهابية الوحيدة التي تمت ممارستها ضد الفلسطينيين، حيث استخدم الكثير من هؤلاء المهجرين في العمل الإجباري واضطروا للجوء إلى الأكواخ أو الكهوف ولم يطل الوقت كثيراً بعد حصول "إسرائيل" على عضوية الأمم المتحدة، حتى راح سلاح الجو يقصف اللاجئين في الضفة الغربية؛ ويقتل الرجال والنساء والأطفال والماشية.

وكان اليهود هم أيضاً للعنف الصهيوني، فبحسب وجهة نظر المؤلف، كانت أشد أعمال التطهير الصهيونية فظاعة، تتمثل في تدمير "إسرائيل" للمجتمع اليهودي ذي الأصول القديمة في العراق، حيث شكّل اليهود، حتى وقت التطهير الصهيوني لهم، ثلث سكان بغداد، ولكن بعد الضغوطات التي مارسها الصهاينة عليهم، أخذ العراقيون يتخلون عن موطنهم القديم بعشرات الآلاف؛ ليتحولوا إلى مستوطنين في "إسرائيل".

كذلك توجهت أنظار "إسرائيل" إلى سكان شمال أفريقيا من اليهود لإرواء ظمئها من المستوطنين من ذوي الأصول العرقية الصحيحة، ويذكر سواريز المعاملة المهينة التي لقيها هؤلاء بعد وصولهم إلى فلسطين، "فقد جرى رشهم بمادة ال دي دي تي في ميناء الدخول، ثم حشروا في مخيمات استقبال شديدة البدائية، وأرسلوا للخدمة في الجيش ثلاث سنوات، ووضعوا في المناطق الحدودية لامتصاص أكبر قدر من الأذى الذي قد ينتج من هجمات محتلة عبر خط الهدنة".

وفي نهاية كتابه، يعود سواريز مرة أخرى لتناول واحدة من أهم أحداث الإرهاب الوحشية التي مارسها الصهاينة ضد الفلسطينيين، فيذكر أنه في 22 آب -أغسطس 1949 اختطف الجنود الإسرائيليون فتاة فلسطينية في العاشرة من عمرها، إلى معسكر جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث تم اغتصابها بشكل جماعي على مدى­ ثلاثة أيام، بحيث فقدت الوعي أحياناً، ثم تم التناوب على اغتصابها وعندما انتهوا منها حفروا قبرها على مرأى منها، قبل أن يطلقوا النار عليها.

 

نقد الكتاب

رغم أن الكتاب قد تعرض للكثير من الانتقادات لكون صاحبه لا يحمل درجة علمية أكاديمية تخوّل له الخوض في ذلك الموضوع الجدلي والمعقد، إلا أن الكتاب يعتبر بالفعل واحداً من أهم الكتب التي تناولت تلك الفترة الإشكالية المليئة بالأحداث المتسارعة، حيث استطاع سواريز عن طريق الرجوع إلى عدد ضخم من المراجع المهمة، أن يرسم وصفاً دقيقاً للتوترات التي وقعت ما بين المستوطنين الصهاينة والفلسطينيين قبل علم 1948 تحديداً، وهو الأمر الذي اعترف به واحد من كبار الأكاديميين اليهود، وهو المُؤرِّخ الإسرائيلي "إِيلان پاپِيه" عندما وصف الكتاب بقوله "عَمَلٌ بارع، مَبنيّ على بحثٍ جاد للأرشيفات التاريخية، ينظرُ بِجَسارة في أثر الحركة الصهيونية على أرض فلسطين وسُكانِها بدايات القرن العشرين. يُقدمُ هذا الكتاب أولَ تحليلٍ شاملٍ ومُنظم للعُنف والإرهاب اللذين تم استخدامهما مِن قِبل الحركة الصهيونية، ومن بعدها دولة إسرائيل، ضِدّ الشعب الفلسطيني. بإمكاننا أن نُعلل الكثير مِن المُعاناة التي نشهدُها اليوم، وأن نربطها بتلك الفترة التأسيسية التي تمّت تغطيتها بالتفصيل في هذا الكتاب."