"ميراث الغائب": قراءة في فلسفة جاك دريدا

تتعارض فلسفة بادو من حيث المحتوى مع فلسفة دريدا، التي اتهمها الكثيرون من المناهضين لها بأنها تعزز الشعور بالعدمية، وعدم وجود معنى محدد للأشياء والظواهر واللغة.

في التاسع من تشرين الأول - أكتوبر من عام 2004 توفي الفيلسوف الفرنسي الشهير جاك دريدا. وقبل ذلك بنحو أربعين يوماً، أي في التاسع عشر من آب - أغسطس نشرت جريدة لوموند الفرنسية الحوار الصحافي الذي أجراه معه جان برنباوم، وهكذا أصبح هذا الحوار هو الحوار الصحافي الأخير معه.

الكتاب يتضمن ثلاثة فصول وملحقاً. الفصل الأول منه عبارة عن قراءة للمؤلف في الحوار الصحافي الأخير مع جاك دريدا، والفصل الثاني بحث في الترجمات العربية لأهم مصطلحات جاك دريدا. أما الفصل الثالث فتضمن نبذة عن فلسفة الفيلسوف المعاصر الشهير آلان باديو، والتناقض بينها وبين فلسفة دريدا.  ويختتم الكتاب بملحق هو ترجمة لنص الحوار الصحافي الأخير مع  دريدا.

يبدأ نصير فليح كتابه هذا بتساؤل: تُرى ما الذي يمكن أن يقوله فيلسوف ومفكر، مثل جاك دريدا وهو يقترب من حافة الموت؟ موضحاً لنا أن هذا السؤال هو الذي دفعه إلى كتابة هذا الكتاب الذي لا تتجاوز عدد صفحاته ال 104 لكنه غني بما تضمنه من قراءة للحوار الأخير ل دريدا، وتسليط الضوء على فلسفته.

أُجري الحوار الصحفي الأخير وقد كان مرض السرطان الذي أصاب دريدا في مراحل متقدمة، وقد تضمن جوانب مختلفة مثل الفلسفة والسياسية والجوانب الشخصية وأسئلة الهوية والحياة والموت.

عندما يتردد الصحافي في الإشارة إلى مرض السرطان عند دريدا في بداية الحوار يستدرك دريدا عليه قائلاً:      "بوسعك أن تقولها، مريض جداً، ومارّ بعلاج عدواني جداً، لكن لندع هذا جانباً، إذا سمحت، نحن لسنا هنا لنصدر تقريراً طبياً سواء أكان عامّاً أو سرياً...".

 يتحول عندها الصحافي إلى أسئلة تتعلق بالحياة والموت و"كيفية العيش" التي يشير إليها دريدا في كتابه (أطياف ماركس)، وعبارته الشهيرة "تعلم العيش أخيراً"، فهل تعلم دريدا العيش؟.

 يجيب دريدا قائلاً: "لا، أبداً لم أتعلم كيفية العيش، في الواقع، لم أتعلم مطلقاً..."، مضيفاً تصوره للوضع البشري نفسه باعتبارنا: "جميعنا ناجون مُنحوا إنقاذا مؤقتاً...". ويوضح هذا بتفصيل أكبر بعد ذلك: "تعلُّم العيش ينبغي أن يعني تعلُّم الموت، تعلُّم أن نأخذ بالحسبان، وبالتالي أن نقبل، الفناء المطلق (أي، دونما خلاص، بعث، أو افتداء – لا للشخص ولا للآخر). تلك كانت الوصية الفلسفية القديمة منذ افلاطون: التفلسف هو تعلُّم الموت".

لا يخفي دريدا في حواره الأخير صراعه الفكري والنفسي الحاد مع نفسه: "أنا في حالة حرب مع نفسي، وأنا أقول أشياء متناقضة، يمكن أن نقول عنها أشياء في توتر حقيقي.... ما يجعلني أعيش، وما سيجعلني أموت". ويرى (فليح) أن هذا التناقض الجوهري هو ما شكّل مسيرة دريدا الفكرية في العمق، والتي كانت مثار جدال ولا تزال.

ولكن كيف يتصور دريدا مصير ما قد يتبقى من إرثه الفكري في عالم تغيرت إيقاعاته وقواعد الأرشفة فيه؟.  يبين أن لا فكرة لديه مطلقاً عن ذلك، لأن تسارع صورة الأرشفة في عصرنا الحديث، تجعل من المتعذر تخمين شيء حول الموضوع، بخلاف العصور الماضية، وعلى حد قوله : "الناس من جيلي، ومن بابٍ أْولى أولئك السابقون، تعودوا على إيقاع تاريخي معيّن، الشخص يعتقد أنه يعرف أن عملاً معيّناً قد يبقى أو لا، بالاستناد إلى مواصفاته الخاصة، لقرن، قرنين، أو ربما كحالة أفلاطون، لخمسة وعشرين قرناً، بينما اليوم وضعنا مختلف كثيرا.ً"

يصر دريدا على مواجهة كل ما أثير في وجه كتاباته وفلسفته من هجوم، معتبراً أن طريقته في الكتابة جزء لا يتصور انفصاله عن مضمون كتابته نفسها، وإخلاصه لعمله الفكري يجعل أن أي تغيير أو "تبسيط" في هذا الأسلوب والطريقة هو نوع من خيانة للذات. وعلى حد تعبيره فإن التبسيط في هذه الحالة يعني: "أنْ أُسأل أن أرفض ما شكّلني، ما أحببته كثيراً جداً، ما كان قانونياً، هو أن أُسأل أن أموت". في هذا الولاء هناك نوع من الحفاظ الغريزي على النفس، أن أرفض مثلاً صياغة صعبة معيّنة، تعقيداً معيّناً، مفارقة، أو تناقضاً مُلحَقاً، لأنه لن يُفهم، أو بالأحرى لأن صحافياً ما لا يعرف كيفية قراءته، أو حتى قراءة عنوان الكتاب.

ويعتقد دريدا أن القارئ أو المستمعين سوف لن يفهموا أفضل منه وأن مكانته وعمله سوف يعاني بالنتيجة، هو بالنسبة لي سفالة غير مقبولة، إنه كما لو أني أُسأل أن أذعن أو أخضع نفسي – أو بتعبير آخر أن أموت بسبب الغباء".

الحوار الصحافي الأخير مع دريدا لم يكن فكرياً وشخصياً فحسب، بل سياسياً أيضاً، وهو يتطرق في ردوده إلى جوانب مختلفة مما يجري في العالم سياسياً في يومها أي عام 2004، ومنتقداً إسرائيل في سياق إجابته على سؤال عن هويته اليهودية: "رغم كل المشاكل الأخرى التي تعذبني في هذا الموضوع، بدءاً من السياسة الانتحارية والكارثية الإسرائيلية ونوع معين من الصهيونية... رغم كل هذا ومشاكل أخرى كثيرة لدي مع "يهوديتي"، أنا أبداً لن أنكرها، سأقول دائماً، في مواقف معينة، "نحن اليهود". هذه الـ "نحن" المعذبة جداً هي في قلب ما هو أكثر قلقاً في فكري، فكر شخص أسميته مرة مع ابتسامة خفيفة، "اليهودي الأخير"، إنه في فكري مثل ما يقول أرسطو بعمق عن الصلاة: إنها لا صادقة ولا كاذبة، إنها في الواقع حرفياً: صلاة، في مواقف معيّنة، بالتالي لا أتردد أن أقول "نحن اليهود" إضافة إلى "نحن الفرنسيين".

 

بحث في الترجمات العربية لأهم مصطلحات دريدا

 هذا الفصل من الكتاب يتضمن بحثاً للمؤلف عن الترجمات المختلفة التي ظهرت في العربية للمصطلحين الأبرز لجاك دريدا، أي Deconstruction و Difference،

يبين الباحث أنه وبعد بحث تفصيلي على أساس مصادر أجنبية حديثة أفضلية استخدام مصطلح التقويضية بدلاً من التفكيكية الشائع في الترجمة العربية، كما يبيّن أفضليتها أيضاً على بدائل أخرى ترجم فيها المصطلح نفسه مثل "النقضية" "اللا بناء" "التشريحية" "الانزلاقية"، موضحاً أن التفكيك المتضمن لمعنى "الفك" يوحي بالتقيّد بالبنى والأنساق الكامنة في الشيء أو الموضوع. وبالتالي فإنه يجري باتجاه عكسي على خطوط تكوين الموضوع من بنى وأنساق متضمنة أو معلنة، وهذا ما لا يذهب إليه مفهوم (Deconstruction) الذي لا يتقيد بالبنى والأنساق الموجودة.

فالتقويضية ترى أن الإجراء التقويضي  يقضي على المعنى بالشكل المتعارف عليه، ولكنه يجترح تصوراً آخر عن المعنى، يجعله غير نهائي، غير مستقر، ديناميكي، توليدي، لكنه يظل قابلاً للإدراك والتداول، إذا استطعنا أن نغيّر طرائقنا في التفكير، بينما يرى المعترضون على ذلك أن هذا بالضبط اللامعنى، ومجرد تبرير للنزعة العدمية الضاربة جذورها في عمق التقويضية.

أما بالنسبة للمصطلح الثاني (Difference) فيستعرض ويناقش المؤلف 18 ترجمة عربية تمت لهذا المصطلح، ويوافق على ترجمته إلى "الاختلاف المرجَأ". وهذه الترجمات الثمانية عشر استخدمها كتاب وباحثون من العالم العربي أبرزها:

الإرجاء (جابر عصفور)، الاختلاف (جابر عصفور)، المغايرة (فريد الزاهي)، الإختلـ(ا)ف (إدريس كثير، عز الدين الخطيبي)، المباينة (عبد السلام بنعبد العالي)، الاختلاف المُرجأ (هدى شكري عياد)، الديفيرانس (سمير مسعود)، الاختلاف (عبد المقصود عبد الكريم)، فَرقُ التأجيل (يوئيل يوسف عزيز)، الاختلاف(a+) (بختي بن عودة)، الفارق (فاطمة الجيوشي)، الاختلاف والإرجاء (محمد عناني)، الإخـ(تـ)ـلاف (كاظم جهاد)، الفَرْق (محمد بنيس)، المباينة (سعيد علوش)، الاخترجلاف (عبد الوهاب المسيري).

ويشير المؤلف إلى أن "الكثير من سوء الفهم العربي لفكر دَرِيدا ينبع من جذرين رئيسيين:

الأول: هو القصور العربي عموماً في تناول وفهم وترجمة الفكر الغربي والتعامل معه.

 والثاني: صعوبة وحراجة أفكار ومفاهيم وكتابة دَرِيدا نفسها.

 وهو ما أثار مناهضة وجدالاً في موطن منشئها نفسه، سواء من فلاسفة ومفكرين فرنسيين من أمثال ميشيل فوكو، أو قاريين من أمثال هانز جورج غادامير ويورغن هابرماس، أو من فلاسفة الفلسفة التحليلية من أمثال جون سيرل John Searle، فضلاً عن مناهضة جماعية أحياناً كما هو الحال مع المعترضين على منح دَرِيدا الدرجة الفخرية من جامعة كامبردج (في القضية الشهيرة التي عرفت بـ "قضية دَرِيدا" مع جامعة كامبردج) أو من مفكرين معروفين من أمثال تيري ايغلتن ونعوم تشومسكي. وقد وصلت بعض المناظرات الى حالة توتر شديدة جداً كما هي الحال في المناظرة مع جون سيرل، كما ظلت القطيعة بين فوكو ودَرِيدا الى النهاية".

جاك دريدا وآلان باديو يختار المؤلف نصير فليح واحدة من أهم الفلسفات المعاصرة وهي فلسفة ألان باديو، لأنها فلسفة تناقض بشكل جذري العديد من الأفكار والفلسفات التي شاعت في العالم ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل الاتجاهات الفلسفية التأويلية وما بعد الحداثية وأيضاً التفكيكية نفسها.

والسبب الرئيسي هو أن فلسفة باديو من حيث الجوهر تعيد الاعتبار لمفهوم "الحقيقة" في الفلسفة، وترى أن هناك حقائق دائمة وثابتة وأبدية، على خلاف ما ساد في الاتجاهات الفلسفية في القرن العشرين من نزعات شكوكية بخصوص مفهوم "الحقيقة". وباديو يؤسس فلسفته هذه ومفهوم الحقيقة فيها على أساس تطور الرياضيات في القرن العشرين، وتحديداً "نظرية المجموعات" في الرياضيات. وهو ما تختصره جملته الشهيرة المثيرة للجدل: "الرياضيات هي الأنطولوجيا" التي ترد في كتابه الأهم "الكينونة والزمان".

والأنطولوجيا هي مبحث أو علم أو دراسة الوجود، حيث يرى باديو أن نظرية المجموعات في الرياضيات التي تأسست في القرن التاسع عشر وتطورت في القرن العشرين توفر لنا الفرصة لكي نتناول ما لا نستطيع الوصول إليه (إلى الكينونة بحد ذاتها)، ولهذا يرى باديو أن نظرية المجموعات في الرياضيات تمثل حدثاً فكرياً بشرياً تاريخياً جذرياً لم يتم الانتباه إليه سابقاً بما يكفي.

وباديو يرى أن النزعة الشكوكية والعدمية سادت في فلسفات القرن العشرين لأسباب عدة، منها عجز الفلسفة نفسها عن مواكبة التطورات العلمية في عصرها، وأيضاً الظروف التي مرّ بها القرن العشرين من حروب وكوارث عززت النزوع العدمي والشكوكي بدءاً من فلسفة نيتشه، هذا فضلاً عن عدم الانتباه إلى الدلالات العميقة لنظرية المجموعات في الرياضيات، وما يمكن أن يترتب على ذلك من وجهة النظر الفلسفية.

وعليه فإن فلسفة بادو من حيث المحتوى تتعارض مع فلسفة دريدا، التي اتهمها الكثيرون من المناهضين لها بأنها تعزز الشعور بالعدمية، وعدم وجود معنى محدد للأشياء والظواهر واللغة أيضاً.

ولا تزال أهمية التقويض وفلسفة دريدا تجد لها تطبيقات وأرضاً خصبة في مجالات شتى، وما يشير إليه هو في هذا الحوار من أن التقويض وجد له تطبيقات كثيرة في الدراسات ما بعد الكولونيالية، والدراسات النسوية، والدراسات ما بعد الإنسانوية.