إبادة الكتب والمكتبات في القرن العشرين

طُرح مصطلح "الإبادة الإثنية" لوصف الارتكاب المنظم لجرائم معينة بغرض القضاء على ثقافة ما. وقد يشمل حرمان جماعة ما من استخدام لغتها أو ممارسة شعائر دينها، أو حفظ ذكرياتها وتقاليدها.

كتاب "إبادة الكتب" للكاتبة ربيكا نوث

في كتاب "إبادة الكتب"، تناقش الكاتبة ربيكا نوث مسألة العلاقة الجدلية التي تربط ما بين التأكيد على مظاهر الهوية الإثنية والقومية من جهة، وتدمير مظاهر الفنون والحضارة من جهة أخرى.

المسألة الرئيسة التي تتخذ منها الكاتبة شاهداً على ما تريد توضيحه، هي تلك المتعلقة بتدمير وإبادة المكتبات، وهي ظاهرة همجية الطابع، اتسمت بها معظم الأنظمة السلطوية الدكتاتورية في القرن العشرين، سواء كان ذلك في أوروبا أو أفريقيا أو أسيا.

عبر صفحات الكتاب التي تقترب من الأربعمائة، تتجول المؤلفة في صفحات التاريخ الحديث والمعاصر، لتقدم إثباتاً لما ذهبت إليه، ولتبيّن العلاقة الوطيدة بين المكتبة بوصفها مركزاً أصيلاً للحضارة والمعرفة، والهوية الإثنية والتاريخية للشعوب.

 

الإبادة الإثنية وتدمير الكتب

في البداية، تحاول المؤلفة أن تظهر العلاقة القائمة ما بين إبادة الكتب وفكرة الإبادة الجماعية، فتقول "من قلب الفوضى التي نجمت عن عدوان الأنظمة المتطرفة برزت إلى الوجود الإبادة الجماعية والإبادة الإثنية، وهما ظاهرتان يمكن إدراكهما وعزوهما بوضوح إلى الأفكار، أما النمط الثالث الذي أقترحه، وهو إبادة الكتب، فيقع داخل هذا الإطار النظري ذاته".

ترى المؤلفة أن  الكثير من الناس يظهرون تأثراً عميقاً إذا نما إلى علمهم تعرض الكتب والمكتبات لدمار عنيف، ويكشف الحزن والخوف اللذان يسريان في روايات شهود العيان عن إحساس بأن تدمير النصوص لا يدل فقط على الانهيار الوشيك للنظام والسلم، بل أيضاً على مستقبل مهدد، وإحساس الضحايا بالخسارة، وتفسّر تلك الأحاسيس بقولها إن "إحراق الكتب ينتهك مُثل الحقيقة والجمال والتقدم، بل الحضارة ذاتها، فبالإضافة إلى ما تتسم به الكتب من حيوية لصيقة بجوهرها، فهي تنفخ في المجتمعات الروح، حيث يقترن الحزن والغضب في رد فعل البشر على الظلام الذي يخلفه العنف وبشاعة الجريمة، وغياب النظام والأمن، والعبثية البادية في فعل التدمير".

بعد ذلك تتعرض نوث للتطور الذي لحق بعملية طباعة الكتب في العصر الحديث، وفي مرحلة الحداثة على وجه الخصوص، وهي المرحلة التي تعرفها الكاتبة بأنها "مرحلة التطور الثقافي الغربي فيما بعد عصر النهضة"، وهي مرحلة شهدت تحدياً للنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العتيقة، حيث أتاحت الآلة الطباعة، فرصة مثالية لتفتيت الهيمنة الدينية. وكذلك فقد أتاح انتشار موارد الطباعة وما أعقبة من انتشار المعلومات، ازدهار العلوم والتكنولوجيا، وتطور أفكار جديدة عن النزعة الفردية وحقوق الإنسان، وبروز وحدة تعريف مستحدثة لهوية الجماعة، وهي الأمة.

بحسب ما تذكر نوث، فقد كانت كل أمة كياناً محدداً جغرافياً، تترابط أجزاؤها بعضها ببعض بثقافة مشتركة (وملفقة، إن لزم الأمر) وإحساس بالوحدة يشار إليه بمصطلح  "النزعة القومية".

في أثناء فترات الاضطراب الاجتماعي وفي ظل استنزاف الموارد في القرن العشرين، استولى القوميون والثوريون على السلطة، وأحكموا قبضتهم عليها وفرضوا أيديولوجيات أضفت على السياسات قداسة التفويض الإلهي، وهكذا فرضت الحكومات الاستبدادية من اليسار واليمين على حد سواء الرأي الواحد القويم داخل بلدانها ثم عمدت إلى فعل الشيء نفسه في الخارج، ومن ثم مارست النظم السياسية المتطرفة الإبادة الإثنية ضد أعدائها.

تعتقد المؤلفة أن مناوئي هذه النزعة التسلّطية، قد استمدوا قوة معارضتهم، من روح الأفكار التي ينتمون إليها، وكانت تلك الأفكار إما من الدين، وإما من النزعة الإنسية.

وبحلول القرن العشرين صارت النزعة الإنسية مرتبطة بالمجتمعات الديمقراطية، حيث اتخذت شكل الأفكار والمثل الرائجة مثل المساواة والتعددية والنزاعة الفردية والتسامح وحقوق الإنسان.

وتؤكد المؤلفة على أن الأنظمة المتمذهبة بالنزعة الإنسية، والتي شاعت فيها روح التعددية والديموقراطية، قد بقت في العادة بعيدة عن استهداف المؤسسات الثقافية والفكرية، وذلك رغم قدرتها في الكثير من الأحيان على ممارسة العنف عندما تتعرض للتهديد.

وترى نوث أن مصطلح "الإبادة الإثنية"، قد تم طرحه لوصف الارتكاب المنظم لجرائم معيّنة بغرض القضاء على ثقافة ما، قضاءً كلياً أو على جزء جوهري منها، وقد يشمل هذا حرمان جماعة ما من فرصة استخدام لغتها أو ممارسة شعائر دينها، أو حفظ ذكرياتها وتقاليدها.

وتفرّق المؤلفة بين مصطلحين يحوطهما الكثير من التشابك والتماهي، وهما الإبادة الجماعية والإبادة الإثنية، حيث تُعرّف الأول بإنه "إنكار حق الوجود لجماعات بشرية بأكملها، كالقتل الذي يمثّل إنكار حق الشخص في الحياة، بينما الإبادة الإثنية هي تدمير ثقافة ما من دون أن يعني هذا بالضرورة قتل حامليها".

وتعتقد نوث أن الخلط الحادث في استخدام المصطلحين، منشأه أن  الإبادة الإثنية والإبادة الجماعية غالباً ما ترتكبان بالتتابع، إذ تأتي الإبادة الإثنية إرهاصاً للإبادة الجماعية.

ومع اقتراب القرن العشرين من نهايته صار استخدام هذين المصطلحين غير مستقر، وذاب الواحد في الآخر بصورة متزايدة، ولاسيما عندما يستخدمهما الساسة والناشطون الحقوقيون وعموم الناس، باعتبارهما مصطلحين يعبّران عن صدمة أخلاقية، وهي تلك التي تولد من روح النفي والإقصاء اللذين تمارسهما الأنظمة التوتاليتارية ضد أعدائها.

 

كيف نشأت المكتبات؟ وما قيمتها في الحضارات الإنسانية؟

بعد أن قدمت ربيكا نوث كتابها، بالتفرقة بين مصطلحات الإبادة الجماعية والإثنية، فإنها قد عرّجت بعد ذلك لتبيان أهمية المكتبة في الحضارة الإنسانية. فتقول إنه ما دامت الحضارة موجودة، فإن حفظ الخبرة والذكاء الاجتماعي أو "المعرفة" ضرورة ملازمة. ومن هنا فإن الحضارات المتعاقبة قد اعتقدت أن من الواجب عليها أن تنقل هذه المعرفة من جيل إلى آخر بحيث يكون هناك على الدوام هيكل أساسي للثقافة. وتشير نوث إلى ما في تلك الرغبة من معانٍ خفية تتماشى مع الشعور البشري الدائم الذي ينزع إلى "الرغبة في تجاوز الفناء".

بحسب ما تذكره نوث، فقد وصلت إلينا معرفتنا بالنصوص المبكرة في شكل شذرات تاريخية: رسومات غريبة على جدران الكهوف والمقابر والقصور، وقطع من ألواح طينية ومسلات وأحجار متنوعة، وذلك لأن الجماعات البشرية الأولى قد عمدت إلى بث المعلومات بالصور والرموز أولاً، ثم بنقوش مجرّدة تمثّل حروفاً وكلمات، ونقوش تعبّر عن أفكار ومفاهيم، وفي النهاية بالحروف الهجائية.

أما الحاجة إلى المدونات والنصوص التي يمكن أن تُنقل في شكل قياسي موحد، فقد ظهرت بحلول زمن المعاملات التجارية المعقدة والنظم الحكومية والتعليمية الرسمية التي ميّزت حياة المدن.

وبحسب ما تورد الباحثة، فقد فتحت لفائف البردي الطريق أمام استخدام المخطوطات الجلدية التي تطورت فيما بعد فظهر الكتاب الورقي، فهذا الوسيط الأثري أي "الكتاب" وهذه المؤسسة، أي "المكتبة" هما في حقيقة الأمر "بنيانان اجتماعيان برزا إلى الوجود عبر القرون من الزمان".

ومما لا شك فيه، أن الكتب قد أسهمت بشكل كبير وفعال في تسريع عجلة التمدين، كما أثّرت تأثيراً هائلاً في تقديم المعرفة بالقراءة والكتابة وتقدم الثقافة الحديثة.

وترجّح نوث أن من بين أوائل المكتبات المعروفة تاريخياً، كانت المكتبة المصرية التي يرجع تاريخها إلى نحو العام 300 ق.م، كما يُعتقد أن السومريين هم أول شعب متعلم، إذ يرجع أول نص لهم إلى نحو العام 3200 ق.م، حيث حفظت مكتباتهم نصوصاً وأطروحات عن الدين والفلك والطب والرياضيات والأدب.

وتعتقد المؤلفة أن المكتبات القديمة قد ظهرت  في العادة لمساندة المسؤولين الحكوميين والنخب الدينية والحكام الذين زعموا لأنفسهم الشرعية على أسس دينية، حيث استمر الربط بين النصوص المكتوبة والدين على مر التاريخ. فعلي سبيل المثال حمل العبرانيون مكتبتهم القومية في تابوت العهد واستمر اعتماد الديانتين المسيحية والإسلامية بدرجة كبيرة على النصوص المكتوبة حتى اللحظة الراهنة.

 

ألمانيا النازية: العنصرية والقومية

تقول نوث إنه ربما تكون ألمانيا الهتلرية هي الحالة المثالية التي نستكشف من خلالها تدمير الكتب والمكتبات في القرن العشرين. فقد قتل النازيون ما يقرب من 21 مليون رجل وامرأة وطفل في خضم حرب كانت في الأصل صراع أفكار. وبالإضافة إلى ذلك فقد سعى النازيون إلى الاستيلاء على التراث الثقافي لأعدائهم أو محوه في أثناء موجات العنف الذي سوّغته الفكرة الداروينية التي كان قوامها تفوق العرق الآري. وفي أثناء سعيهم إلى تحقيق هذا المصير، استخدم النازيون تدمير الإرث القومي والإثني سلاحاً من أسلحة الحرب، وأداة للإبادة الثقافية أو الحط من قدر الثقافات الأخرى.

كانت ألمانيا، مثلها في ذلك مثل أغلب دول العلم في تلك الفترة، تمر بتحوّل من الاقتصاد الزراعي التقليدي إلى تشكّل مجتمع علماني حضري، وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، توقد سخط غامض بشأن التفسخ الاجتماعي، فأثار عنفاً سياسياً؛ إذ اقتتلت الفضائل المختلفة في الشوارع وهددت معاهدة السلام المهينة افتخار الألمان ببلدهم إلى حد بعيد، وتحدث كثيرون عن أن ألمانيا طُعنت في ظهرها بأيدي أعداء داخليين، من بينهم البلاشفة اليهود. وبحلول العام 1932 كان 7.5مليون شخص في ألمانيا عاطلين عن العمل و17 مليون شخص –أي تقريباً ثلث السكان – يعتمدون على المساعدات الحكومية، وأسفر العبء الاقتصادي لتعويضات الحرب، مضافاً إليه انهيار ملحوظ في الأخلاقيات الاجتماعية عن قلق وتعاسة عميقين، ولم تزد الحكومة المركزية الوهنة الأمور إلا سوءاً على سوء.

كان الوعي الجماعي والحوار الاجتماعي، اللذان يحددان إدراك الفرد للعالم من حوله بدرجة كبيرة، يتجهان صوب إظهار النزعة القومية، وهذا يرجع إلى حد ما إلى أن القومية تزدهر حينما يشعر الناس بأنهم مستضعفون ومعرقلون. وبحلول العام 1933 كان الألمان قد تبنّوا أيديولوجيا القومية الألمانية الراديكالية، وهي رؤية بخصوص مجتمع قائم على النقاء العرقي والقوة.

وبحسب ما تذكر المؤلفة، فقد تلقفت الأيديولوجيا النازية فكرتي الشعب و"البقاء للأصلح" وأضافت إليهما مصيراً إمبريالياً خاصاً دعا إلى مبدأ المجال الحيوي واتساع الإمبراطورية الألمانية، وخرج الحزب النازي إلى الوجود من رحم الفوضى التي طغت على العشرينيات وبواكير الثلاثينيات من القرن العشرين بوصفه الجماعة الوحيدة القادرة على توطيد النظام والاستقرار.

وهكذا، اعتبر النازيون أنفسهم ذروة سنام الثقافة والحضارة، فباشروا ارتكاب بعض أفظع الجرائم ضد الإنسانية التي سجلت في التاريخ على الإطلاق، حيث نُفذت سياسة القتل الرحيم على الرضع والبالغين والمعوقين ممن اعتبروا غير جديرين بالحياة، وأُزهقت أرواح أكثر من 75 ألف رضيع وبالغ ألماني معوق.

في الوقت ذاته، فقد رخّص الحزب النازي للشعب الألماني إطلاق غضبه ضد اليهود، وأطلق العنان لوحشية كُبحت فيما مضى بأعراف المجتمع المتحضر وقيمه. وبدءاً من العام 1933، جُرّد اليهود بصورة منهجية من حقوقهم الاجتماعية والمدنية والقانونية، وطُرد المواطنون اليهود من الخدمة العامة، وحُرموا من الحماية المكفولة للعمال، وقُوطعت مشاريعهم التجارية وأُغلقت.

كما تم إلزام اليهود بارتداء نجمة داود، رمز اليهودية، وجرى منعهم من الظهور في الأماكن العامة بما فيها المكتبات والمسارح، وطرد أطفالهم من المدارس.

هذه الإجراءات قُصد بها أكثر من مجرد استهداف الوجود المادي اليهود، فقد طُهرت جميع المؤسسات من الأثر الثقافي اليهودي؛ إذ أحُرقت الكتب في أثناء تطهير المكتبات من المحتوى اليهودي؛ ولم يُسمح للفنانين اليهود بالظهور أمام الجمهور الألماني.

في الوقت نفسه، فقد استمد أعضاء الحزب النازي رضىً كبيراً من إحراق المعابد اليهودية وآثار اليهود الثقافية، وكذلك تم إحراق آثار وكتب يهودية بما فيها زهاء 16 ألف مجلد في مركز الجالية اليهودية في فرانكفورت.

وبوجه عام لم يكن تدمير الكتب اليهودية مهمة سهلة، فبالإضافة إلى مكتبات المعابد كان لدى كل أسرة بعض الكتب على الأقل، وضم كل تجمع حضري يهودي في الأغلب مكتبة واحدة على الأقل.

وقد بلغ مجموع الكتب اليهودية التي سرقها الألمان  في آخر الأمر نحو مليوني كتاب، وقد جُند باحثون وأكاديميون ورجال أعمال يهود للعمل بالسخرة على تصنيف مقتنيات الكتب هذه في ظروف أشبه بمعسكرات الاعتقال.

الوضع لم يختلف كثيراً في بولندا وأوروبا الشرقية، حيث تعرضت الشعوب المقهورة للمعاناة ذاتها. فبعد الغزو الألماني مباشرة، أصدرت الحكومة الألمانية مرسوماً بتسليم جميع الكتب البولندية التي يملكها أفراد أو شركات أو جمعيات غير ألمانية إلى السلطات، ونُهبت المكتبات الخاصة ودمرت واستخدمت كمادة خام لمصانع الورق أملاً في تجويع العقل البولندي وإذواء الطبقة المثقفة فيه.

وفي الوقت نفسه، استخدمت المكتبات المدرسية في إنشاء الثكنات ودُمرت مجموعات الكتب بهمجية، وتم العمل لتوجيه ضربة أعمق لجذور الثقافة والفكر البولنديين، حينما ارتكب النازيون جرائم قتل جماعي لكل من الطبقات المتعلمة في بولندا، حيث كان جزء من الروتين اليومي أن يحيط النازيون بقساوسة وقضاة ومحامين وأساتذة جامعيين ومعلمين وتجار وصناع وقادة عمال وفلاحين كي يردوهم قتلى في ميدان البلدة.

أما في أوروبا الغربية، فقد تم تدمير مكتبات عديدة في المنطقة الشمالية من فرنسا، كما أدت المقاومة البريطانية إلى خسائر فادحة لنحو 20 مليون كتاب، وتضررت خمسون مكتبة كبرى في أنحاء بريطانيا أو دمرت في الغارات الجوية.

وتؤكد المؤلفة أن برنامج هتلر الأيديولوجي، الذي صدم بقية أوروبا، قد جلب بدوره الخراب إلى ألمانيا وإرثها الثقافي. فمع نهاية الحرب العالمية الثانية، فقدت ألمانيا ما يتراوح بين الثلث والنصف من كتبها، خلال القصف الذي شنّه الحلفاء وبسبب حملات المصادرة الروسية، إذ تُقدر الكتب التي حملت إلى الاتحاد السوفيتي بوصفها غنائم حرب نحو 11 مليون كتاب.

 

صربيا الكبرى

النموذج الثاني الذي تعرّج عليه المؤلفة، هو النموذج الصربي، الذي شهد إبادة تامة للعديد من مظاهر الثقافة والتحضر إبان الحرب العرقية في تسعينيات القرن العشرين. فقد استخدم الشيوعيون في أوروبا الشرقية تكتيكاً مختلفاً في تعاملهم مع انقسامات زمن الحرب، فقد فرضوا عقائد وسياسات من قمة الهرم إلى أسفله، أعدت للقضاء على المنافسات الاجتماعية السياسية بمرسوم إداري تسلّطي.

وعقب الحرب العالمية الثانية أُجبرت أمم البلقان الست وهي سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك وصربيا والجبل الأسود ومقدونيا، على الاندماج في كيان واحد، وهو دولة يوغوسلافيا الفدرالية.

تحاول المؤلفة أن تتناول البدايات الأولى للمشكلة اليوغسلافية، فتقول إن الحدود الفاصلة بين الكنيستين البيزنطية والرومانية قد امتدت عبر منطقة البلقان، واستمر أثر هذا الانقسام حيث اعتنق الصرب الأرثوذكسية فصاروا متمايزين على أساس الانتماء الديني عن الكروات الذين وقعوا تحت تأثير كنيسة روما. وعلى إثر سيطرة الأتراك على مناطق البلقان الشرقية منذ القرن الخامس عشر حتى بواكير القرن التاسع عشر، تحول بعض السلاف إلى الدين الإسلامي. ومنذ ذلك الحين وصم الصرب، المتحولون إلى الإسلام بخيانة القومية الصربية وبأنهم مجموعة وضيعة بطبيعتها. وبمرور الوقت برزت إلى الوجود ثلاث مجموعات ثقافية متمايزة ومتناحرة، لكل ديانتها الخاصة، وهي الصرب (أرثوذكس) والكروات (كاثوليك) والمسلمون.    

ولأكثر من ثلاثة قرون كاملة، ظل العثمانيون ورعاياهم الصرب على جانب خط دفاعي امتد مسافة 1000 ميل يفصلهم عن المناطق التي تقع تحت سيطرة الإمبراطورية الهنغارية النمساوية. أما على الجانب الهنغاري النمساوي، فقد استمسك الكروات بالكاثوليكية الرومانية وطوّروا أسطورتهم القومية الخاصة التي مثلوا فيها حصن المسيحية وجدارها الخارجي، واعتبر الكروات أنفسهم من قلب أوروبا وذوي ثقافة رفيعة، في مقابل الصرب، الذين نظر إليهم الكروات على كونهم بيزنطيين ينتمون إلى البلقان وبدائيين.

في العام 1914م عجّلت الاضطرابات في البلقان، ممثلة في اغتيال الأمير فرانز فرديناند ولي عهد الإمبراطورية الهنغارية النمساوية في سراييفو، باندلاع الحرب العالمية الأولى، وبعد انتهاء الحرب أنشأ الحلفاء المنتصرون دولة يوغوسلافيا، التي ضمت بين جنباتها الأطياف الثلاثة.

تذكر المؤلفة أنه، وعلى مدار العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، استمر التوتر قائماً بين المجموعات الإثنية الثلاث، وفي غياب وريث مهيمن بعد موت الرئيس اليوغسلافي تيتو تفككت المركزية التسلّطية التي أقرت الامتيازات الصربية وفرضتها، وبدأت الجمهوريات الأخرى في تعيين أفراد محليين بدلاً من المسؤولين الصرب، فكانت هذه خسارة كبيرة للسلطة والمكانة بالنسبة إلى الصرب.

في أواخر الثمانينيات وطد ميلوسيفيتش هيمنته ووسع نطاقها عن طريق تفكيك القيود الدستورية على سلطته الشخصية بوصفة رئيساً لصربيا، وكان أحد المكوّنات الرئيسة في خططه تتمثل في أن يسيطر على الجيش اليوغوسلافي. وبحلول العام 1990 ووفقاً لما قاله السفير الأميركي في يوغوسلافيا، كان الجيش قد طُهرت صفوفه من غير الصرب، وانغمس في أوهام معاداة الألمان والغرب، فصار بحسب ما تذكر نوث "كياناً متصلباً ونرجسياً، ومسكوناً بالبارانويا ومترهلاً وجامحاً".

الهيمنة الصربية شكّلت تهديداً للجمهوريات الأخرى في الفدرالية حيث شهدت هي الأخرى انبعاثاً للنزعة القومية في أوساط مواطنيها من غير الصرب. وفي حزيران - يونيو1991، أعلنت سلوفينيا وكرواتيا استقلالهما، وفي الوقت الذي توثب فيه ميلوسيفيتش إلى السلطة متوسلاً بالقومية الصربية، حشد الرئيس الكرواتي فرانيو تودجمان شعبه وراء وعد بإنشاء كرواتيا كبرى مستقلة.

وتؤكد المؤلفة أن تودجمان قد عمل على تحقيق مخططه، من خلال التشجيع على الاستقطاب الإثني، وفي أواخر الثمانينيات بدأ تودجمان عملية تطهير المجتمع المدني الكرواتي، حيث قام بطرد الصرب فوراً أو أبعدهم عن طريق التمييز ضدهم أو الإرهاب.

سار كل فصيل من الفصيلين على خطى تقاليد قديمة للتطهير الإثني، وما استتبع ذلك من خطوات لتدمير الكتب والثقافة الإثنية، فقد دمر الكروات –على سبيل المثال– معاهد دينية وكنائس أرثوذكسية عديدة. وقد أُدرج في إحدى القوائم تدمير نحو 210 مكتبة كرواتية.

ومن ناحية أخرى، فقد كثّف الصرب هجماتهم على المواقع الثقافية ولم يُظهر الجيش اليوغوسلافي اهتماماً يُذكر بالقيم الثقافية أو الرأي العام، عندما قصف ميناء دوبروفنيك البحري القديم فأثار عاصفة من الغضب الدولي، بسبب ما نتج عن هذا القصف من وقوع أضرار بمكتبات يرجع تاريخها إلى بدايات القرن السادس عشر.

وبعد مرور ستة أشهر كان الكروات في حاجة إلى إعادة تنظيم جهودهم بهدف مواصلة إبادتهم للصرب. أما الصرب فقد رضوا بمكاسبهم من الأراضي، ووقعوا اتفاق سلام يؤيد احتلال صربيا ربع أراضي كرواتيا، وحولت صربيا اهتمامها إلى البوسنة حيث تعايشت أقلية صربية مع الكروات والمسلمين في أراضٍ اشتهت صربيا ضمّها.

ومن بين كل جمهوريات يوغوسلافيا السابقة كانت البوسنة والهرسك أكثرها ثراءً وتنوعاً ثقافياً؛ حيث تعايشت كثافات سكانية كبيرة من الصرب والكروات والمسلمين،  إذ كانت البوسنة والهرسك دولة متعددة الإثنيات عاشت فيها الجماعات الإثنية الثلاث جنباً إلى جنب، في ظل مناخ يغلب عليه التسامح والتحضر.

بعدما أعلنت سلوفينيا وكرواتيا استقلالهما، أصبحت البوسنة في وضع حرج للغاية، فقد كان بإمكانها إما أن تبقى داخل "يوغوسلافيا" التي يهيمن عليها الصرب وتتجلى فيها قومية عنصرية لا يمكن إنكارها، وإما أن تعلن استقلالها وتواجه انهياراً أكيداً على يد صربيا وكرواتيا اللتين من المرجح أنهما ستنضمان إلى البوسنيين الذين يختارون تحديد هويتهم إثنياً بوصفهم صرباً أو كرواتاً.

وفي آذار - مارس 1991 صوت 68 في المائة من البوسنيين لمصلحة الاستقلال في استفتاء شعبي مدعوم دولياً، بينما أحجم الصرب الذين يمثلون ثلث السكان عن التصويت، وبمجرد إعلان الاستقلال اجتاح الجيش اليوغوسلافي الذي يسيطر عليه الصرب البوسنة.

تؤكد نوث على أنه كانت هناك خطة كاملة تستهدف محو الثقافة الإسلامية في البوسنة، فقد كان القادة المسلمون العلمانيون والمتخصصون المثقفون والمتعلّمون أول من أعدموا، كما اتبع الصرب طريقة استهداف أثرى الأثرياء، والأعلى تعليماً، والقيادات السياسية والدينية.

وفي نقطة تحول جديدة، اعتمد الصرب على سلاح الاغتصاب، حيث أصبح سلاحاً مجازاً، الغرض منه إشاعة الرعب وإجبار المسلمين على النزوح، وتحطيم الروح الجمعية لمجتمع المسلمين وإحداث انقطاع في التناسل بإلحاق العار بالبوسنيات، وتقويض نسيج الأسر المسلمة وثقافتها. وتؤكد نوث على الوحشية التي مارسها الصرب من خلال استخدامهم لهذا السلاح، وهو ما ظهرت نتائجه مع نهاية الحرب، عندما سجلت الإحصائيات اغتصاب عشرات الآلاف من نساء البوسنة المسلمات على يد الصرب.

بالإضافة إلى ذلك، فقد عقدت القوات الصربية عزمها على إزالة جميع المباني التي ترمز إلى ثقافة المسلمين؛ فكانت المواقع الأثرية العثمانية والمساجد في مدن البوسنة أهدافاً عسكرية رئيسة.

أما مقابر المسلمين والنصب التذكارية للموتى والأضرحة فقد دُمرت وسُويّت بالأرض وغُطيت بمتنزهات وباحات لانتظار السيارات، كما اهتم الصرب بتدمير العلامات التي يؤكد محض وجودها تاريخ الوجود الإسلامي في البوسنة. وفي السياق نفسه، زعم الصرب أن مسلمي البوسنة هم في الأصل صرب متحولون للإسلام، ثم بأنهم خونة للهوية الصربية، وبذلك كان الصرب عازفين تماماً عن الاعتراف بأن أغلبية البوسنيين –أي البوشناق- اعتنقوا الدين الإسلامي منذ منتصف القرن الخامس عشر  وعاش أسلافهم في مملكة البوسنة المستقلة التي تسبق الغزو العثماني والهنغاري النمساوي.

وتبيّن نوث السبب في استهداف الصرب للمكتبات البوسنية، وهو أنه بداخل المكتبات ودور المحفوظات والمتاحف والمساجد التي دمرت، كانت هناك سجلات حيازة بخط اليد وخرائط يرجع تاريخها إلى زمن العثمانيين، وتظهر أن السلافيين الذين اعتنقوا الإسلام عاشوا في البوسنة منذ قرون، كان لزاماً تدمير الوثائق التي تظهر شرعية المطالب التاريخية للمسلمين في البوسنة؛ لأن هذه الوثائق تناقض تماماً المزاعم الصربية التوسّعية بأن البوسنة لا تملك شرعية الوجود بوصفها أمة، أو بوصفها حضارة مستقلة.

دمر الصرب بقصفهم المعهد الشرقي في سراييفو في العام 1992 أكبر مجموعة مخطوطات إسلامية ويهودية ووثائق عثمانية في جنوب شرق أوربا، وضمت الخسائر أيضاً مجموعة المخطوطات التركية التي تحوي أكتر من سبعة آلاف وثيقة يرجع تاريخها إلى الفترة من القرن الـ17 إلى القرن الـ19.

وعلى الرغم من أن المسلمين كانوا الهدف الرئيسي للعدوان في البوسنة، فإن الصرب شرّدوا الكروات أيضاً، فقد دمروا الكنائس الكاثوليكية في أرجاء البوسنة، كما دمرت أي سجلات تظهر أن للكروات مطالب تاريخية في الأراضي التي اشتهاها الصرب.