حوارات من داخل متحف الأنقاض

ليست هذه النصوص جردة حساب للأنقاض التي خلفتها الحرب في الأرواح، أو صورة شعاعية للأجساد المعطوبة، أو بروفة للعشاء الأخير وحسب، إنما هي مقبرة متنقلة لموتى مؤجلين، وأرشيف غير مكتمل بأصوات من نجوا بالمصادفة.

من المستغرب في عالم الشعر أن تصدر مجموعة شعرية تحت عنوان (متحف الأنقاض ). هذا الاستغراب سوف يتضاعف بعد أن نعلم بأن اختيار العنوان لم يكن من اختيار أي شاعر من سكان المتحف، وإنما من قبل "خليل صويلح" محرر المجموعة المؤلفة من نصوص قام بتدوينها 28 شاعراً سورياً معظمهم من جيل الشباب: (أسامة الدياب - أحمد ودعة -إياد حمودة- إياد عيسى- إهاب معروف - بشرى البشوات- بسمة شيخو- بشير العاني - دمر حبيب - راما بدرة- رأفت حكمت - زيد القطريب - سامر محمد اسماعيل -ستيفاني دالال -عايدة جاويش - عبير شورى - عيسى الشيخ حسن -عمران عز الدين -قتيبة الخوص - مرح اسماعيل -معتز حرامي - معاذ زمريق - مناهل السهوي - مروة ملحم - نور كنج - نبراس محمد خالد تركية -هنادي الهوي - يسر برو). لكن هذا الاستغراب سرعان ما يتبدد ونحن نقرأ ما جاء في المقدمة: "ليست هذه النصوص جردة حساب للأنقاض التي خلفتها الحرب في الأرواح، أو صورة شعاعية للأجساد المعطوبة، أو بروفة للعشاء الأخير وحسب، إنما هي مقبرة متنقلة لموتى مؤجلين، وأرشيف غير مكتمل بأصوات من نجوا بالمصادفة. أي أن النصوص الموزعة على مائة صفحة المشكلة بمجملها للمجموعة الصادرة عن (دار نينوى في دمشق- 2019) هي لموتى مؤجلين، موتى يجمعهم الحلم، والخوف، والعدم. إنهم غرقى اليابسة، نصوص ولدت في عراء الجحيم، تلوذ بالهامش، تصطف في رتل طويل بانتظار "الإعاشة". لا يميزها عن بعض سوى ما منحت لكلّ منهما مساحات "الهوية الفنية" داخل كلّ هذا الخوف.

يتساءل أحد سكان المتحف عن الذي أقلق غفوته، بعدما صلبوه بما فيه الكفاية على الكتب العتيقة!. الرجال واحداً تلو الآخر تداعوا كخيوط كنزة منزلية، وحده طفله الصغير كان يشدّ على القداحة الصغيرة، يشدّ على قلعة حلب المطبوعة حولها بألوان ترابية، ويضحك، يضحك، يضحك على صوت الزغاريد والآويهات السوداء التي تتساقط زخاتٍ زخات كالطلقات الفارغة. وفي المتحف يمزق أحدهم الإجابات كالفساتين.

يقول من يجاوره في العزلة: "كان يرتجف مثلي، وكنتِ تصدحين في رأسي مثل الموسيقا، احتضنته في رقصة مجنونة إلى أن تعبنا، عندما صحونا لم أجد الحبر الذي كان يغطي أوراق دفاتري".

 ورقة أخرى من متحف الأنقاض تدوّن بأن "كازانتزاكيس"في تجربته الخيميائية الهادفة إلى تحويل تراب العبث إلى ذهب المعنى لم تمنحه سوى الإخفاق،  "الإخفاق الذي يجمع النصوص بيد سقطت أخيراً. النص السادس يصرخ بأنها هي ليست يدي، تلك التي تحمل وحمة في رسغها المقدّدة التي تكنس صوت الموت بقشة".

مؤجل آخر من الموت يمسك المكنسة، يلم أشلاءه: "كنت أربّي الخوف كحيوان أليف، أربت على رأسه، أتركه يلعق أقدام الغد، كان يداعب أحلامي، ويرجف معي عند سماع أصوات الحرب، كنت أزيّنه، أجمل ما فيّ كان وجه الخوف".

الورق الثامنة من الأرشيف دوّنها بشير العاني قبل ينتهي تأجيل موته على يد  داعش" بتهمة الردة في 10 آذار - مارس 2016: "لهكذا حزن أسرجتني أمي يا عكاز وقتي الكفيف، ويا مقاعدي على أرصفة التعب الطويل، ها أنا، أنا العاثر بجماجم اتزاني، الشاغر إلا منك، أبحث عن صرة لملمت فيها أوجهي التي انسربت، لملمت فيها براءتي، خسائري، أنا الذي قايض الطمأنينة بالهزائم".

الخائف في الصفحة 30 يسأل: "ماذا سيفعل القناص عندما يستبدل منظار قناصته بالعين الساحرة لذلك الباب الذي ينتظر خلفه من يشتاق لضحيته؟". تجيبه العزلة: "سوف نعيد مأساتنا بالحركة البطيئة أمام شاشة عملاقة".

من زاوية ما تضيف ورقة أرشيف: "ونتحدث عنك بصوت منخفض، نقرأ مشهداً ليلياً، فيضيع ظلك.. ويبقى الأثر"..

راحل عاشر إلى العزلة يقول: "سبعة أعوام كأنما شارع مظلم ومقنوص قطعناها مناورة .. المرأة التي حاولت بجسدها سد ثقبٍ في جدار العائلة، ماتت رمياً بالشتائم، الطفل في مخيمات "اليونسيف" لا يجيد في درس الفنون إلّا رسم البنادق".

مؤجل من الصفحة 42 "يعترف بخيانته لمن أحبّ في جميع مقرات الأمن فوق الوسادات النتنة، قبل أن تموت في انفجار كلية الحقوق". والآن يبحث عن قلب للإيجار مثل ميليشيا تحارب بلا قضية. من يجاوره في بيت الأنقاض يسأل "لماذا كل نباتات الصالة تعربشت فوق صورنا الضاحكة بلا سبب!!".

 مؤجلون من صالة العزلة، يعتقد من كان منهم على هيئة "سواتر رملية" بأن هذا فصام - شيزوفرينيا الأشياء: "زاويةٌ في نفق على هيئة بيت".

صاحب "شبر أبعد" يرى بأن هذه الحرب تهزأ بنا كما وقاحة الشمس، فأخوه يموت فجراً، "والعصفور نفسه ما زال ينتظر فراخة القادمة في المكان المعتاد على ما كان بيتنا".

النص الذي حمل اسم السكين يقول: "لن نحتاج بعد اليوم إلى ساعات لنعرف توقيت الموت، في كل ربع ساعة نحظى بجثة".

 المقيم في المتحف تحت رقم 15 يؤمن بأن "الحرب تقتل الناجين" فها هو "يوم آخر بلا أطفال ينتظرون حافلات مدارسهم".

وأخ من نص "ثقوب" يسأل: "من يصدق أن مشط الرصاص صار شعراً أخضر وطويل". يجيبه من يحمل المقبرة على ظهره: "ستموت ولن تجد من يدفنك".

 ميت مؤجل من الصفحة 70 يبوح بحبه للندبات: "كل الندبات .. لدرجة أنني أحاول أن أندب كل الأشياء التي اعترضها  كي أحبها .. إنني أعيش في عالم مليء بالفقاعات، كلما حاولت أن أصنع منه ندبة، انفجر الفراغ في وجهي".

 نص مؤنث بعتمة المتحف يقول: "في الليل سأحبك بعشرين إمرأة، وسأبدأ من الطيف الذي شيد بيته في رأسك".

 مقيم آخر من أرشيف الأنقاض، يبدو أنه كان مقاتلاً، قبل أن يُكفن أخوته الأربعة، وقبل أن يفقد ذاكرته، يدوّن: "أشجع الجنود ذلك الجندي الذي يمشي في مؤخرة الصفوف، دائماً ما تدمع عيناه، وهو يتعثر بين حقولٍ من أجساد رفاقه المبعثرة".

 في رقصة رجل مسكور وخائب، نقرأ: "ماذا أفعل إذا كانت الجراح تضحك وقلبي باردٌ كطعنة في الظهر".

نص من المتحف يسأل من يجاوره في العزلة: "ألم تفكر يوماً بترك مساحة للموت بيننا".

تقول صفحة الأرشيف رقم 90: "لو كنت رملاً، ولي من وجع الصلابة هربٌ مبرر .. لو كنت أجفل غرز مسلة الرغبة في ضلوعي، وأتشكل بالماء جسداً  جديداً، لكني زورق أهادن الماء على سفر الحنين كغريق مؤجل".

مؤجل من الصفحة 92 يقول: "أنا بخير، في المنام هناك امرأة تقدم لي سهماً، وفي اليقظة ألاحظ تقوساً شديداً في ظهري".

لِمَ كلّ هذا الصمت إذاً: سؤال نقرأه في بياض ما بين السطور لورقة الأرشيف ما قبل قبل الأخير، يجيب "الصوت": "الصوت وجودك، هويتك الشخصية".

 المؤجل الذي يليه يرى "أن قطيع الثيران لا يدوس البنفسجة عمداً".

آخر المؤجلين من الموت في متحف الأنقاض يقول: "المستقبل ليس هنا .. على أمل وحيد بأنني، وبعد نصف ساعة ما في حياتي، سأستيقظ لأجد نفسي شاهداً على حدث استثنائي: إنني لست هنا".