يعرب العيسى لـ "الميادين نت": في "المئذنة البيضاء" رويت الحكاية ولست محامياً عن أحد

في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2022. إنها رواية "المئذنة البيضاء" للسوري يعرب العيسى. ماذا جاء فيها؟ وماذا قال عنها العيسى لــ "الميادين الثقافية"؟

  • غلاف رواية
    غلاف رواية "المئذنة البيضاء"

"تصرّفت كجاسوس كليّ القدرة" تختصر هذه العبارة التي جاءت على لسان الراوي في افتتاحية "المئذنة البيضاء" ليعرب العيسى أسلوبيّته في رسم شخصيّاته، وحياكة خيوطه السردية، وتصويره للزمان والمكان، وكيفية تغذيته لنمو الأحداث، أي رؤيته لعمارته الروائية بشكل عام.

إذ إن هندسة أولى رواياته الصادرة عن (دار المتوسّط- إيطاليا) والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2022، تُعلي من شأن المعرفة الذكية وتوظيفها في توليد الأسئلة، التي تدعم بدورها تصاعد الأحداث، أو قد تكون بحد ذاتها استجابة لها، وتزيد في الوقت ذاته التشويق من خلال ملاحقة مصائر الشخصيات، لا سيما أنه اعتمد على تقنية "ماذا لو؟" في تحديد أفعال شخوص عمله، لاسيما شخصية بطله "غريب الحصو" وتحوّلات حياته الدراماتيكية.

فقد نقلته من كونه طالباً في قسم الفلسفة في "جامعة دمشق" مضطراً للعمل كعتّال لإعالة نفسه ويسكن إحدى الغرف المستأجرة، إلى "طالب دعارة" في بيروت، بعدما طردته مدينته، وفجّرت الحرب الأهلية في لبنان غرفة محرسه في كاراج السيارات الذي يعمل فيه، ما دفعه ليصبح بعدها شخصية جديدة، تحت إسم "مايك الشرقي" إثر عمله لدى "الشيخ قسَّام الزهواني"الذي نقل ذاك العامل السوري المرذول في بيروت إلى رتبة مشرف على موظّفيه في مطعم "سمراء البادية" بين ليلة وضحاها.

هكذا يتمسّك "غريب" بتلك الفرصة، بكامل فطنته، حتى صار يد الشيخ اليمنى في إدارة تجارة الجسد، ومن ثم أصبح صاحب البصمة الخاصة في تلك المهنة، نتيجة اجتهاده في تحويل قراءاته عن "أصول الدافع الجنسي" لكولن ويلسن، وملاحقة ما أتاحته هوامش ذاك الكتاب من عناوين كتب أخرى حول ذات الموضوع، إلى منهج لتطوير العمل في استثمار الغرائز والأهواء.

ولم يكتفِ بذلك، بل استغلّ كل فرصة للارتقاء وجمع المزيد من المال والمجد، فانتقل من كونه مجرّد واجهة اضطرارية للشيخ قسّام، إلى شريك له، ثم باستغلال مثالي لوفاة ربّ عمله، صار مالكاً لمجموعة من المطاعم والفنادق والملاهي في بيروت، على اختلاف أنواع الخدمات التي تقدّمها لمستويات مختلفة من الزبائن، وبطموح عالٍ وتغيير في زاوية رؤيته التي باتت تهتم بالاستثمار بأجساد النساء من أجل الولوج إلى عقول الرجال وإراداتهم، استطاع أن يضمّ إلى أملاكه كمّاً كبيراً من الاستثمارات الأخرى في كل من قبرص والإمارات والكويت والعراق وبعض الدول الأوروبية.

 نرى العيسى بسرد حلزوني، وبغنى في المعلومات والتواريخ والأماكن، يُشرِّح من خلال "مايك الشرقي" شبكات الفساد في عديد من أقطار الوطن العربي، من خلال تصوير استثماره في الحرب اللبنانية.

لكن ظلَّت دمشق بالنسبة له هي المدينة التي لا نجاة له من دونها، فاختطّ لنفسه مع مجلس استشاريين اختارهم من الأذكياء "الذين ستختارهم هذه البلاد في ما لو رغبت يوماً أن تفهم نفسها" بحسب تعبير الروائي، ليقوم بأسطرة ذاته، من خلال تحوُّله ليصبح "الشيخ غريب" الذي ينفق بسخاء على المحتاجين ويدفع ديون المديونين ويحصِّل حقوق المظلومين. كل ذلك بالتضافر مع الحكاية التي قرأها مرة في كتاب "محمّد بن عبد الله" من أن المسيح سينزل على الباب الشرقي ليواجه المسيح الدجّال وينتصر عليه، ويقتل يأجوج ومأجوج، ويُحِقّ الحق وينتصر للعدالة، ويعطي "عِلماً للساعة"، ويكشف للبشر عن الخطوة قبل الأخيرة ليوم القيامة، وبهذا يحقّق "غريب الحصو" نهاية الزمان كما يُريدها هو، جاعلاً من نفسه المسيح والمسيح الدجّال في آن، القوّاد الذي تحوَّل إلى دجَّال بصورة مُخلِّص، عبر الاستثمار الأنجح بالإيمان، ليظلّ الباب الشرقي بالنسبة له هو باب النجاة، ولتكون "المئذنة البيضاء" هي منارته من بدء الحكاية حتى صار هو الحكاية بذاتها. 

بطل بذهنية مركَّبة، ووعي كبير في الاقتصاد والسياسة والتاريخ والجغرافيا والأسطورة، وفي متع الجسد والروحانيات، وقدرة على ربط كل تلك التشعّبات مع بعضها بما يخدم استثماراته، وبما يُمليه عليه الزمن، وفق قراءة دقيقة لمعطياته، مكَّنته من التفوّق على ذاته في كل مرة، وتسجيل قفزات في أرصدته المالية وحجم استثماراته، متأثّراً بعقدة طفولية شخَّصها له الأطباء عندما وقع في غيبوبة، ومفادها بأن عليه ألا يُخطئ لأنّ جدَّته التي رعته صغيراً كانت غير قادرة على شراء ممحاة له.

هكذا سعى لأن يبقى طيلة حياته، حتى بعد أن امتلك المليارات، لم يفكّر بأن يمحو شيئاً، لا سيما أنه أصبح خبيراً في استثمار كراهيته، سواء للأشخاص كأمّه "فضة الجاروش" المزواج التي تركته طفلاً، أو للأماكن التي لفظته ولها أقدارها الخاصة مثل "دمشق" التافهة واللئيمة والعادية كما يصفها، أو حتى لِذَاته وحياته.

الإلمام بالتاريخ والاستفاضة فيه، كان إحدى سمات السرد التي إتّكأ عليها العيسى في روايته التي جاء فيها إن "التاريخ مكوّن من عنصرين: غباء البشر، وذكاء الزمن".

هكذا نرى العيسى بسرد حلزوني، وبغنى في المعلومات والتواريخ والأماكن، يُشرِّح من خلال "مايك الشرقي" شبكات الفساد في عديد من أقطار الوطن العربي، من خلال تصوير استثماره في الحرب اللبنانية التي جعلت من الفندق الذي يديره بعيداً عن سمت مدفعيات الفصائل المتقاتلة، وأيضاً استغلاله اجتياح صدّام حسين للكويت وتكويم الدنانير من العائلات الكويتية التي لجأت إلى لبنان، ثم السعي إلى إنقاذ نصيبه من فئات العملة غير الصالحة بعد تحرير الكويت، بالتفافات قانونية، ودهاء منقطع النظير، بمساعدة "أبو صقر" القريب من دائرة القرار الكويتي، مروراً باستثماراته العقارية في سوق الإمارات الناشئة أو "مدينة المستقبل" كما وصفها له مستشاروه.

وكذلك في جزيرة قبرص باعتبارها (كازينو قمار) كبيراً ومركزاً هاماً بعيداً من العيون للتفاوض السياسي، حيث "رتّب سهرات يلتقي فيها بكل عفوية مهرّبو المخدّرات وضبّاط الجمارك، مزيّفو العملة والصرّافون، رؤساء البلديات ومقاولو المخالفات، أمراء الحرب وسدنة ردعها"، ليبقى ما فعله في دمشق زمن الحرب له نكهته الخاصة بالنسبة له. فهي المدينة الوحيدة التي تعني له شيئاً، لذا من أجل مشروعه "الشرق الجديد" فيها الذي يُقارب فيه "جنّة عدن" كما وصفتها الكتب السماوية وشُرّاحها، إلى جانب الكثير من المنشآت الأكاديمية والعلمية وذات البُعد الديني والدنيوي، احتاج لتفريغ المساحة المقابلة للباب الشرقي، ولم يكلّفه ذلك سوى تأسيس فصيل مسلّح تحت إسم "كتيبة الإحدى عشرية" وتزويده بما يلزم لتنفيذ المهمة، كي تبقى مملكته الجديدة مطلّة على المئذنة البيضاء، التي اعتبرها منارته لتحقيق رؤاه المستقبلية.

العيسى لـــ "الميادين الثقافية": رويت الحكاية. لست محامياً عن أحد، ولا مدّعياً عاماً

  • يعرب العيسى
    يعرب العيسى

هذه الشخصية ذات التفكير المركَّب وصلت إلى ما وصلت إليه، كما نرى، بسبب اختيار الروائي لبطله علاقةً بالفلسفة من خلال كونه طالباً استمرّ في دراستها الجامعية إلى السنة الثالثة، حول ذلك يوضح يعرب العيسى في تصريح خاص بــ "الميادين الثقافية": "المرجّح أنني سأخذلك في أيّ سؤال يتضمّن كلمات من نوع اخترت، وصنعت وجعلت. والأرجح أنك لن تقتنع كثيراً بجواب مختصر: لم أختر. هذا ما هو عليه، ليس الأمر بيدي. ربما بتحليل راجع، أستطيع أن أقول الآن إن قسم الفلسفة كان متاحاً في ذلك الوقت لطالب نجح بصعوبة وبعلامات متدنّية في الثانوية في عام 1981، لأنه فرع يقبل جميع المتقدّمين. وبتحليل راجع أيضاً فقد زوَّدته دراسة الفلسفة لثلاث سنوات بأهمّ ما كان يحتاج: القدرة على تبرير أيّ شيء".

تلك القدرة مكَّنته من تسويغ اختياره لباب شرقي كي يؤسّس مشروعه الجديد، حيث جاء في الرواية: "كل تغيير مهم حصل في العالم عَبَرَ أولاً من تحت قوس ذاك الباب، فمنه عبر شاؤول الطرسوسي ليقتل المسيحيين الأوائل، ثم هبطت عليه الرؤيا هناك فتحوّل إلى بولس الرسول ونشر المسيحية في العالم، ولولا تلك الرؤيا لتخلّصنا من المسيحية في مهدها. ومنه عبر خالد بن الوليد ليُمهِّدَ تَرْكينَ دولةٍ للإسلام، ولولا ذلك لتخلّصنا أيضاً من الإسلام في مهده. ومنه دخل عبد الله بن علي ليقوّض دولة الأمويين، ولولا ذلك لما وصلنا إلى غيمة هارون الرشيد واعتداده الزائف. منه دخل نور الدين الزنكي ليحكم دمشق ويتسمّى لأجلها بالشهيد، دخل الإغريق والرومان، سبتيموس وكركلا، منه دخل كليب ليشتري ثياب عرس الجليلة، ومنه دخل الفتى محمّد مع قافلة أعمامه، ليملأ رأسه بتلك الصوَر المبهرة للشام وغوطتها، والتي لم يستطع الفكاك منها وهو يبشّر المؤمنين بمكافآتهم ويصف لهم الجنّة". 

العيسى: هناك مَن قال إن أفضل صديق للإنسان هو الشمس وأسوأ عدوّ هو الزمن. والأشخاص الذين حقّقوا قفزات كبيرة لأنفسهم أو لأوطانهم أو للإنسانية، هم مَن أدركوا قيمة الزمن، فأحسنوا استثماره، أو أحسنوا الانتظار فيه. 

هذا الإلمام بالتاريخ والاستفاضة فيه، كان إحدى سمات السرد التي إتّكأ عليها "العيسى" في روايته التي جاء فيها إن "التاريخ مكوّن من عنصرين: غباء البشر، وذكاء الزمن"، لكنه عكس الآية مع "مايك الشرقي" وجعله يتذاكى على الزمن، وحين سألناه عن السبب أجاب: "هناك مَن قال إن أفضل صديق للإنسان هو الشمس وأسوأ عدوّ هو الزمن. والأشخاص الذين حقّقوا قفزات كبيرة لأنفسهم أو لأوطانهم أو للإنسانية، هم مَن أدركوا قيمة الزمن، فأحسنوا استثماره، أو أحسنوا الانتظار فيه. مايك كان واحداً من هؤلاء الاستثنائيين، فالتقط كل لحظة من الزمن، وانتظر وقتاً كافياً ليخطو إلى الأمام. في فصل "المدينة التي تبيع المستقبل" يكون مايك عائداً من دبي بالطائرة وقد أنجز أكبر صفقاته حتى ذلك الوقت، يفكّر بدمشق وترسم مخيّلته الملامح الأولى لمشروعه فيها، لكنه يقول في نفسه: ما زال الوقت مبكراً، ما زلتِ أقوى مني يا مدينة. ثم ينتظر بعد تلك الرحلة 22 عاماً ليعود إليها. وفقط بعد أن يعطيه الزمان الإشارات الكافية".

إذاً، كان "غريب الحصو" قادراً على تبرير كل شيء، ذو قلب ميت، حسَّاس للزمن وقوانينه، وهو، كما وصفته الرواية، "شيطان من نوع جديد، لا يستخدم قرنيه كثيراً، يظهرهما فقط لتعرف أنه شيطان، لكنه يرفرف لك بجناحين أبيضين يخرجهما من بين كتفيه إذا أعطيته ما يريد"، كل ذلك دفعنا لسؤال يعرب: هناك مَن رأى أنك كنت "محامياً لمحامي الشيطان"، بمعنى أنك لم تكن ديَّاناً لشخصية "غريب" وفساده المادي والروحي، بل ناصرته حتى النهاية، جاعلاً منه ما يشبه الأسطورة، ماذا قصدت من وراء ذلك؟ ليقول: "رويت الحكاية. لست محامياً عن أحد، ولا مدّعياً عاماً أيضاً. ولا كاتب مواعظ على أوراق الروزنامات. مهمّتي كروائي تقتضي أن أتفهّم الشخصيات التي أحكي حياتها. وطالما قرأتَ الرواية وشعرتَ أن عليك أن تسألني لماذا قصّرت في إدانته، فهذا يعني إنني فعلت ما عليّ، وأوصلت رسالة الإدانة للقارئ. ماذا على الكاتب أن يفعل أكثر؟". 

أما "النقطة الثانية الأكثر أهميّة بالنسبة لي، هي المقولة النهائية للرواية، ورغم أن ليس من حقّي تبيان المقاصد، فهذا أصبح حق القارئ، ولكن لا يتناقض ذلك مع القول إنني أتحدّث عن المسيح الدجّال الذي سيعثر على المسيح الحقيقي في النهاية، وسيعثر عليه في المكان نفسه، في الروح ذاتها".