"تعزيات الفشل" لساري موسى.. تعازٍ مكثفة للخاسرين

في باكورة أعماله "تعزيات الفشل"، يبدو أن الكاتب السوري الشاب ساري موسى يتقن اللعب على الأسئلة الوجوديّة والنهايات المفتوحة واللمحات السوريالية.

  • تعزيات الفشل

يهدي ساري موسى مجموعته القصصية الأولى "تعزيات الفشل" إلى مترجمي الأعمال الأدبية وفي طليعتهم الراحل صالح علماني، أحد أبرز المترجمين العرب من الإسبانية.

هكذا، يتوقَّع القارئ، منذ الإهداء، أن المجموعة الصادرة عن "دار التنوير" بمنحة من "المورد الثقافي"، سيكون طابعها متأثّراً بلغة علماني العالية وحساسية أدب أميركا اللاتينية واعتنائه بالتفاصيل.

بدءاً من العنوان، يمكنك أن تتوقّع قصصاً بلسمية، بمثابةِ تعازٍ حارّة، مكثّفة، عاطفيّة، للتخفيف من وطأة الخسارات والهزائم المتتالية، سيكون من السهل أن تتوقّع أيضاً من الفهرس في البداية، أن قصص المجموعة يمكن تصنيفها تحت النوع الأدبي الحديث نسبياً والذي اصطُلِح على تسميته "ق.ق.ج." أو القصة القصيرة جدّاً¹، فالكتاب الذي لا يتجاوز 112 صفحة يحتوي على 28 قصة. 

يمكن القول إنني استمتعتُ جدّاً بقراءة هذه المجموعة، تحت ظلِّ صنوبرةٍ في عاليه² أول مرّة، رأيتُ الكاتب السوريّ الشاب في قصصهِ القصيرة، شخصاً شديد الحساسية ممتلئاً بالهواجس، قارئاً نهماً ميالاً للانطواء والعزلة، قليل المزاح وساخراً بسوداويّة أحياناً، تخيلته بلحية طويلة سوداء وملامح اسكندنافية. حسناً، بعد أن وجدت صورة له لم تكن ملامحه اسكندنافية، ولكنّني أصبت بشأن اللحية. 

القراءة الثانية كانت أكثر تأنّياً، مع قلم رصاص، أشير به إلى ما لفتني خلال الرحلة في عالم ساري موسى: لغة شعريّة، سرد قليل لأحداث قد تبدو هامشية ولكنّها غنية بالتفاصيل، وصف متأنٍّ أشبه بالوصف الروائي، وثقافة أدبيّة واسعة بإشارات جميلة لكتب مترجمة غالباً وكتّاب من مختلف الثقافات.

قصص تتّخذ أحداثها منحى سورياليّاً أحياناً، ويختلط الخيالي بالواقعي، فيما تكون شديدة الواقعية أحياناً أخرى، وترتكز في معظمها على انطباعات الشخصيات النفسية إزاء الواقع، شخصيات غامضة وغريبة الأطوار أحياناً، فيها دائماً شيء منه. لا يكثر موسى من الشخصيات في كلِّ قصّة، شخصية أو إثنتان، وربما تكون الشخصية الثانية مجرد كومبارس، لا يركّز كثيراً على وصف الشخصيات وصفاً جسدياً كاملاً، يترك للقارئ أن يتخيّل، إلا بعض إشارات لطيفة، تتّخذُ طابعاً حسيّاً مهذّباً، خصوصاً في وصفِ الشخصيات المؤنثة. 

تحضرُ المرأة والعلاقة بها في كثير من القصص. المرأةُ أيقونة إذن. أيقونة عصية على الفهم كما يعترف في "كذبة أغوتا الثانية" مقتنعاً بعبارة كارلوس زافون ³ على لسان إحدى شخصياته في "ظلِّ الريح"⁴: "لا يوجد رجل يفقه شيئاً في النساء، بمن فيهم فرويد⁵،حتى النساء يجهلن أنفسهن". 

أما في القصة المعنونة "النصيحة" نرى المرأة الناضجة المثقّفة والكاتبة، وأحسبها ذات المرأة، البعيدة عن المظاهر الفارغة، في "إلى اللقاء الأحد"، وربّما هي ذات المرأة في قصص أخرى. 

  • ساري موسى
    ساري موسى

وفي "دموع غير قابلة للفهم" نراها مراهقة ذكيّة، متوثّبة وشاعرية، في قصّة واقعية تتخلّلتها إثارة مشاكسة، من خلال استحضار "نابوكوف"⁶وروايته المثيرة للجدل "لوليتا"، ليسقطها القارئ تلقائياً على العاشقة الصغيرة بطلة القصة ذات 13عاماً، من دون أن يتورط الكاتب بشيء، وهذه حركة ذكية. 

أما في "ملاكٌ ضلَّ الطريق" فنرى امرأة مهزومة وبائسة، تلتقي برجل مهزوم وبائس لقاء غير تقليدي، فهما يسيران في مسارين متباعدين في الأحداث متقاربين في الأثر، ينتهيان في اللحظة ذاتها والمكان عينه بطريقة مأساوية. 

وفي "مهلك يا رفيقة" نرى امرأة مختلفة تماماً، عنيدة عصبية شهوانية فضولية ومزعجة، ثمّ لا نلبث أن نكتشف أن هذه المرأة ليست إلا الذات المؤنّثة للبطل الذكر. 

وفي "الضياع المؤبد للأشياء" نرى من منظور راكب في حافلة، المقابلة بين الخوف، القلق، والموت المتمثّل بحادث سير في الخارج، والأمان، الاستقرار والحياة، المتمثّلة في مشهد المرأة الحامل داخل الحافلة وهي تقرأ روايتها من دون أن تعبأ بما يحصل، مشهد امرأة فاتنة وأيقونيّة، مثالي للحدّ الذي يوحي بأنه خيالي، ثم تدرك أن هذا متعمد حين يختمه الكاتب بذكاء، من دون أن يترك أي دليل على أنه حقيقي. 

الأسئلة الوجوديّة، النهايات المفتوحة واللمحات السوريالية، يبدو أنها ألعاب يتقنها موسى ويحبّها، ففي "حارس الكتب" يسأل على لسان الشخصية الرئيسية: "يمكن للمرء أن يأكل بيديه كلتيهما من طبقين مختلفين، لم ليس بإمكانه أن يقرأ بعينيه في كتابين مختلفين؟". 

أما في "القفز إلى العالم المشتهى" فيقفز البطل من الواقع الذي لم يعد يحتمله، إلى عالم التلفزيون الذي يهواه، والمعنى هنا حرفيّ، يلخّصه مشهد أخير لجثّة رجل علق رأسه في جهاز التلفاز. 

وفي "أول الدواء" يستعمل الطبيب أوراق الوصفات الطبية لإغلاق الثقب في رأس المصاب بطلق ناري طائش، أو بخيبة أمل. هنا يختلط الواقع بالوهم ويلتبس تماماً، فتظهر الكتب كمحاليل دوائية سائلة، بينما تعطى الحداثة، الشرّ، الخوف، الحياة، الحب والأزمنة، في أكياس السيروم! 

اللافت في "تعزيات الفشل" أنَّ موسى لم يأت على ذكر الحرب بشكلٍ مباشر في أيّ من قصصه، ولعلّ هذا من قبيل تجاهل الجرح، على أنّ أثر الحرب حاضر في القالب الكئيب، الخائف والدخاني، الذي يغلب على قصص المجموعة، وكأنّ الحرب خلفية درامية للأحداث، نحس بوجودها ولا نراها. 

كمثال على ذلك، في "حارس الكتب" يتحوّل الزبون الدائم لبسطة كتب على الرصيف يمتلكها ثمانية شركاء، إلى حارس ليلي لها مقابل مبلغ زهيد، فالأوضاع الإقتصادية الصعبة وشحّ المحروقات جعلوا تركها في مكانها وتوظيف حارس عليها، أوفر وأسهل من إعادتها كل يوم إلى مستودعاتها. 

في هذه القصة يضعنا موسى أمام مقارنة بين حياة المدينة وحياة القرية من منظور قارئ مهووس ميّال إلى العزلة، ولعلّ هذه الشخصية تمثل الكاتب نفسه ونظرته للمسألة الجدلية الأزلية: الفنان بين المدينة والقرية. 

يوجه الكاتب السوري إشاراته الناقدة إلى بعض الظواهر الإجتماعية، وحتى الظواهر الأدبية - إن صحَّ التعبير - من خلال عبارات تبدو عرضية في السياق، ما يشير إلى أنه لا يريد النقد، ولا تتخذ قصصه منحى أفلاطونيّاً، فإن عرض له شيء مما يثير حفيظته علّق عليه بغير إسهاب، وربما بغير هدف، ففي "النصيحة" يرد تعليق مقتضب في رسالة الفتاة البطلة إلى حبيبها: "لم أجد صعوبة في نشر قصصي. أحبها الناشر وامتدحها كثيراً (أظنّهُ معجباً بي).." العبارة بين قوسين هنا هي الطريقة التي يعلق بها موسى على جانب من أزمة النشر العربي، تعليقاً سريعاً وقليل المبالاة. 

أما في "يوميّات قارئ" وتحت عنوان فرعي هو "سوء فهم" يشير موسى إلى أنّ العجائز في الحي كنّ يطلبن من القارئ البطل أن يصلّي لهن، ظنّاً منهنّ أنّه راهب، بسبب لحيته الطويلة الفوضوية وغرفته التي تضاء بالشموع حتى وقت متأخر، ويكتفي هو بالابتسام، وهذه أيضاً إشارة لا مبالية. 

لكن الكاتب يبالي في مجموعته القصصية الأولى بمعاني الأشياء أكثر. يحضر الهاجس الوجودي، والعاطفة الساخنة المتدفقة، والخيبات والأفراح الصغيرة. مجموعة قصصية ممتعة، يمكنك قراءتها في جلسة واحدة، وبعد أن تنتهي سترغب لو كانت أطول. يبدو أن ساري موسى إسم ينبغي أن نحفظه جيّداً. 

***

¹ يرى بعض النقاد أن القصة القصيرة جدّاً نوع أدبي مستقل بذاته، فيما يرفض آخرون هذا التصنيف ويضعونها في إطار القصة القصيرة التقليدية. 

² بلدة لبنانية في جبل لبنان وهي مركز القضاء الذي يحمل إسمها. 

³ زافون، كارلوس (1946-2020): روائي إسباني اشتهر بسلسلة رواياته "مقبرة الكتب المنسية". 

⁴ ظلّ الريح: رواية لكارلوس زافون من سلسلة "مقبرة الكتب المنسية". 

⁵ فرويد،سيغموند: طبيب نمساوي، مؤسّس مدرسة التحليل النفسي وعلم النفس الحديث. 

⁶ نابوكوف، فلاديمير: روائي وشاعر ومترجم روسي أميركي، تعد "لوليتا" أشهر رواياته وأكثرها إثارة للجدل بسبب موضوعها الإستثنائي.