"مرائي النساء".. دراسات في كتابات الذات النسائية العربية

كتاب "مرائي النساء" لجليلة الطريطر يحلل القضايا التي تطرحها النساء للتعبير عن ذواتهن من خلال الكتابة. ماذا جاء فيه؟

  • غلاف كتاب
    غلاف كتاب "مرائي النساء"

إذا كان صوت المرأة حين تكتب يمثل اختلافاً واضحاً من خلال تعبيرها عن ذاتها مقارنة بكتابة الرجل، فإن هذا يعود إلى عوامل تاريخية واجتماعية وفق تصنيفات جندرية.

في هذا السياق، يأتي كتاب "مرائي النساء" لجليلة الطريطر والصادر عام 2021 عن "الدار التونسية للكتاب"،محللاً القضايا التي تطرحها النساء للتعبير عن ذواتهن.

ويقع الكتاب في 492 صفحة تتخللها ببليوغرافيا وله ثلاثة فصول كبرى تقاطعها عناوين فرعية،أما هذه الفصول فهي تاريخ الأفكار في ضوء كتابات الذات النسائية وقراءات الهوية الأنثوية والكتابات النسائية من خلال الأجناس الذاتية .

أما السؤال المطروح فهو: لماذا الغوص في هذا المبحث راهناً؟ ولماذا الحديث عن صنف من الكتابة التي تم تناولها سابقاً في الغرب وفي الشرق أيضاً؟خاصة أنه نتاج حركات تحررية تمور بها المجتمعات عامة باعتبار المرأة عنصراً فاعلاً في التغيرات التي يشهدها العالم؟ ومن نافل القول التذكير بأن هناك ايديولوجيات تبلورت فكرياً وعلى صعيد الواقع لتجد صداها في الفكر والادب.

عندما قالت سيمون دو بوفوار إن الأنثى لا تولد امرأة لكن تصبح كذلك، فإن هذا الأمر يبدو مرتكزاً أساسياً للبحث في علاقة النساء بالكتابة باعتبار النص جسداً/ فضاء يمكن التعبير من خلاله بحرية عن هواجسهن.

وإذا عدنا أيضاً إلى هذه المقولة فإننا سنلاحظ أن اللامساواة بين الجنسين بنيت اجتماعياً وليست بفعل الطبيعة. فمن ينتج الأيديولوجيا هو صاحب سلطة، وكان لا بد من استخدام الديالكتيك لفهم علاقة السيد بالتابع، كما ذهب الى ذلك هيغل في كتابه "فينومولوجيا الروح".

فالمرأة منتجة للحياة ووظيفتها ليست بيولوجية فقط، لأن الكتابة أيضاً فعل إخصاب، وكذلك المرأة لم تعد تضطلع بوظائف تقليدية تتمحور فقط حول علاقتها بالأسرة والبيت، لكنها عنصر ديناميكي في مجتمعات تشهد قيام تحولات كبرى وعليها أن تنهض بما يتماشى مع العصر من تبديل وتحوير في نمطية الادوار التي كانت تلعبها سابقاً.

ليس اعتباطاً أن تصدر جليلة الطريطر كتابها بمقولة مجترحة من نص للكاتبة التونسية عروسية النالوتي: "نكتب لتستريح أرواحنا فنكون". هذه الكينونة التي عبرت عنها رائدات الابداع السردي في العالم العربي نذكر من بينهن ملك حنفي وعائشة تيمور ومي زيادة ولطيفة الزيات، كانت معاول تعاضدها أقلام رجالية تنويرية مثل الطاهر الحداد وقاسم أمين ولطفي السيد وغيرهم.

وتذهب مؤلفة الكتاب إلى أنّ هؤلاء ظلوا رهيني النظرة الذكورية المحدودة الخاضعة لتقاليد عصرهم رغم اضطلاعم بهذا الدور المتميز، وليس كالمرأة يمكن أن تطرح حقوقها على محك الكتابة وتعري مكامن الخلل في نظرة الآخر لها. فقد كانت الذات النسوية غائبة في أفق أبوي يمارس وصايته من دون هوادة، ويمكن أن نستعير كلامالطريطر عما أسميته بمعركة التحرير بالأصالة التي خاضتها المرأة في مقام الكتابة.

ولعل تنزيل المسألة في سياق ابداعي أشمل يتيح الحديث عن الأنساق الأسلوبية، ومستويات الخطاب في هذه النصوص التي تمثل جزءاً من المدونة النسائية العربية.

تقول المؤلفة: "تمثل (الكتابة النسائية) رافداً أساسياً لاستكمال أفق الأدب العربي وتحيينه بكل ما تعلق منها بقضايا كتابة المرأة في سياقها العربي، أو بقضايا الكتابة الأدبية في الثقافة العربية عامة".

الكتابة فعل تموقع داخل المجتمع 

  •  مي زيادة
    مي زيادة

إذا كان التأويل هو ما يصنع ماهية النص عبر التفاعل بين الذات وبين ما تدركه وتجذبه من أعطاب وجدانية، فإن النساء يصنعن عالمهن من دون الحاجة إلى إعادة إنتاج صورهن المتخيلة أو البديلة.لا حديث في هذا السياق إلا عن الواقعي بكل شراسته ولا حياديته.

هناك تجربة مي زيادة كذات معطوبة نصاً وواقعاً، وهناك فدوى طوقان كتجربة متفردة في الحديث عن كيفية رؤيتها للعالم ولذاتها، وهناك نوال السعداوي بصوتها القوي والرافض.

وقد حللت المؤلفة العلاقة بين سيميائية المكان وتفكيك فحولته الرمزية في قراءة سعت الى تحليل صورة القاهرة في سيرة نوال السعداوي.الكاتبة النسوية التي دفعت بنصها إلى تفكيك مظاهر الدونية المسلطة على المرأة لتظهر صورة قوية ككائن حر يطالب بمسؤولياته وحقوقه في الفضاء الخاص والعمومي، وانتقدت النظام الذكوري المتسلط سواء كان سلطة سياسية او عائلية عبر استحضار أحداث تاريخية كتجربة التعليم والوظيفة والزواج المرتب له بما لايكدر صفو صورة العائلة الثابتة .

الأنوثة جسر عبور من الفاجعة الى تثبيت الذات في النص 

  • يمنى العيد
    يمنى العيد

 في روايتها "أرق الروح" تتساءل يمنى العيد "من أنا؟"، وتطرح اشكالية سيرتها الذاتية كعلاج من أدواء أعطابها التي تتأتى من ازدواجية الهوية. فهي حكمت الصباغ المجذوب التي وأدت أنوثتها باعطائها اسماً وسمته بالقناع الكرهي المذكر الذي فرضه الأب، وهي بذلك تتعرض الى عنف رمزي لكنها تثبت تموقعها في مجتمع ذكوري. ويرتبط تحررها بتحرر ضمنياً بتحرر المجتمع ككل.

وتقول المؤلفة في هذا السياق إن "أرق اروح" ليمنى العيد "عينة لبرنامج تحرري نسائي حديث يصدر عن تموقع سلوكي/جندري وسلوكي/ قيمي مضاد للهوية الأنثوية المبنية ما قبلياً في المجتمع، وأنساق الفكر والثقافة على أساس الايهام المرجعي بأنها هوية طبيعية ترتبط بثوابت كونية غير قابلة للتطور التاريخي".

هناك نص نسائي مختلف ينهض على تجربة نادرة وهي الكتابة السير سجنية لعائشة عودة التي ولدت في دير جرير برام الله عام 1944 وانخرطت مبكراً في العمل السياسي وقضت في سجون الاحتلال عشر سنوات لتحرر فيما بعد بما يعرف بعملية النورس عام 1979. وكان اطلاق سراحها مشروطاً بإبعادها عن فلسطين. صدرت سيرتها عام 2004واردفتها لاحقاً ب"ثمناً للشمس". 

وتقول في كتابها "وأعود للكتابة ربما لتأكيد أنّ تحويل التجربة العملية الى وعي هو الأهم في التجربة ذاتها، لأنه زبدها ولأنه النسخ الذي يمنعها من الذبول والموت ولأنه، وهذا هو الأهم، لا يسمح للآخر بالاستمرار في السيطرة على رواية التاريخ وتضييعه بما يتناسب مع ايديولوجيته العنصرية، لأنه لا تقادم في جرائم الحرب".

الكتابة ليست توثيقاً وان اوحت بذلك، لكنها اعادة تشكيل للوقائع بما يتلاءم مع طبيعة السرد. وهي لا تغفل لقمع الذي تتعرض له المرأة داخل المجتمع، بالموازاة مع تفتيت تجربة الاعتقال نفسياً واستعراض تداعياتها بتصوير خطاب ذكوري محتل دون أن تسقط في البكائية الانفعالية، لكنها تتسامى مع أفق أرحب يرى المعتقل أنثى أو ذكراً في مستوى المساواة التامة بين الجنسين، لأنه يقوم بفعل يقربه من صفة الأيقونية. فهو رمز الأرض التي لا يمكن أن يكون الدفاع عنها الا مقدساً.

وتقول المناضلة عائشة عودة: "كان مشروعي بناء وطن وليس فقط بناء بيت.كان مشروع حياتي مشروع شعب بدلاً من عدد من الأطفال حريتهم وحياتهم في ظل الاحتلال غير مضمونة.باختصار كانت أحلاماً عريضة وواسعة وعظيمة تهون الصعاب في سبيلها.كنا نردد دائماً،إن لم أحترق أنا وتحترق أنت فمن أين يأتي النور؟".

تجذير النص في هوية المكان 

  •  نجاة البكري
    نجاة البكري

نتحدث في هذا السياق عن "ولي خطوات في الأراضي الفلسطينية " الصادرة عام 2021 للكاتبة التونسية نجاة البكري، وهي تتوزع حسب أربعة أماكن تحت عناوين "ولي خطوات في جنين"، و"لي بقية خطوات في المخيم"،و"لي خطوات في غزة"، و"امتدت خطواتي في نابلس".

تتفاعل الكاتبة مع ملاحظاتها حول المجتمع الفلسطيني باعتبارها تعيش هناك مع عائلتها وتتبع تجارب حياتية ترصد فيها حجم معاناة المرأة المزدوجة داخل مجتمع له خصوصيات تقليدية، وتتفاعل الكاتبة مع عالمها الجواني لأن الكتابة فعل ملاحظة وتشريح ونافذة أخرى لفهم العالم الخارجي.

وترى جليلة الطريطر انه بعيداًمن السرديات الوهمية المشبعة بالحنين والأساطير كتبئير لفعل البقاء، فإن الكاتبة تسمي فلسطين بأرض الرباط.وتكتب معتمدة على ميثاق "حتى لاننسى".لم تعد نجاة البكري ذات نسائية مهاجرة، لكنها دخلت في منظومة إنسانية كبرىهي الايمان بالحق في وطن حر تحفظ فيه الكرامة البشرية للمرأة ولأفراده جميعاً.

وهي تتميز كما تقول مؤلفة مرائي النساءبــ "خطابها الإشهادي وهو خطاب حواري بامتياز والتزام تاريخييراهن على تفعيل ذاتية الشاهدة كفاعلة تاريخية غير منفصلة عن تركيبتها الانسانية المتكاملة".

تداخل الذات الساردة بين المشاغل الذاتية والمجتمعية 

  • حفيظة قارة
    حفيظة قارة

عند حديثها عن كتاب حفيظة قارة "بيبان الغيمة"و"الكوكوت"، تشير المؤلفة إلى تعريف بياتريس ديدياه لجنس اليوميات الذي يعتمد على الزمن وعلى طبيعة المادة المكتوبة، فهي تشبه انغلاقاً رحمياً في تناولها للحميمي والفردي، بينما تنزاح كتابة حفيظة قارة بيبان من الشأن الخاص الى الأيديولوجي والشأن العام، لترصد احوال المجتمع عام 2011 وتحولاته من وجهة نظر منتقدة للظواهر السلبية ومثمنة للاحداث التاريخية.

أما الذاتي فهو نقطة الالتقاء التي تتجمع من خلال ترتيب الاحداث لتنتج نصاً لا يشبه الا وثيقة سيرية موقعة بأسلوب الكاتبة المتميز.

وتقول حفيظة: "رجعت الى البيت وأنا أشتعل وأضيئ"، معبرة عن فرحة جماعية وهو ما تعبر عنه المؤلفة بالتحام الانا الفردية مع رديفتها الثقافية.هناك عالم سري تمارس فيه الكاتبة عملية الرصد والانفعال وترتاح من ضغط اليومي اللجوج.

كما أن هناك وجود لأنا ثقافي يتخطى الأنا الهووي وهو ما اصطلحت عليه المؤلفة باليوميات الايديولوجية لتثبتأنه يمكن أن تشرع نوافذ أدب الذاتي الأجناسي الى ماهو أعم، وهو التعبير عن المشترك الجماعي .

وتطرقت المؤلفة أيضاً الى تجربة الأديبة عرسية النالوتي باعتبارها ذاتاً ناقدة وعيناً بصيرة على تحولات نصها، وهذا المبحث يمكن استغلاله كوثيقة لفهم أدب الكاتبة في مختلف تمظهراته. فشهادة البوارق الهاربة تتحدث عن" تجربة الكاتبة الصميمية مع الكتابة"، وتشرح المؤلفة طغيان الانا في هذا الكتاب وهو يتسم بمركزية استقطاب العملية الابداعية نقداً ونصاً على نص.

وتتطرق المؤلفة الى نصوص اخرى مثل تفرد صوت الشاعرة التونسية زبيدة بشير في "قمرية الخضراء". كما تفرد فصلاً للحديث عن رواية الكاتبة حياة الرايس وتجربة السفر والاقامة في العراق من خلال روايتها "بغداد وقد انتصف الليل فيها"، عبر التركيز عما تسميه العبور المعرفي الذي يعتبر قارب نجاة من حياة عادية مستهلكة متوارثة. فالسفر انتقال نحو فضاءات جديدة تروم الروائية من خلالها الى البرهنة على ذاتها التائقةللحرية.

أن تكتب أكاديمية متخصصة في النقد الأدبي عن مدونة نسائية تروم الى تشريح الاعطاب المجتمعية التي تنساق وراء النظرة القاصرة للمرأة، يبدو أمراً لا يتكرر الا نادراً. لأن "مرائي النساء" يقوم على استنطاق أساليب الكتابة الابداعية عبر مساحات معرفية ملتصقة بها درساً وتشريحاً، وهو ما يعطي صبغة علمية للكتاب لأنه مرجع أكاديمي يمكن اعتماده في تتبع تحليل وتبويب النصوص من دون السقوط في الآراء الايديولوجية العنيفة الخالية من السند /المرجع .

هناك معالجة متأنية لمصطلح الجندر ومراجعة مظاهر التمييز بين الجنسين عبر الوثيقة الابداعية بالموازاة مع الاستناد الى ما يبرهن على قوة حجة المؤلفة (اعتماد أنماط التحليل الاسلوبي لكل صنف أدبي من خلال المراجع المؤسسة).