عودة لولا.. أمل جديد لليسار اللاتيني

عودة مرجّحة للرئيس البرازيلي الأسبق لولا داسيلفا إلى الحياة السياسية، تحمل معها الأمل لعودة اليسار إلى الحكم، بعد سنوات صعبة من حكم اليمين المتشدد.

  • في عهد لولا، اتَّخذت البرازيل خياراً استراتيجياً في قضايا التنمية.
    في عهد لولا، اتَّخذت البرازيل خياراً استراتيجياً في قضايا التنمية.

بعد سنوات من سيطرة اليمين المتشدد على الحكم في البرازيل، أعادت تطورات الأشهر الأخيرة خلط الأوراق في كبرى دول أميركا اللاتينية. باب التغيير الجديد تمثّل بعودة الرئيس الأسبق للبلاد، لويس إيغناسيو لولا دا سيلفا، إلى الحياة السياسية بقوةٍ، بعد أن قرّرت المحكمة العليا البرازيليّة عدم اختصاص المحكمة التي أدانته في قضيتي فساد، الأمر الذي ألغى مفاعيل حكمي المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف، وأعاد المحاكمة إلى المربع الأول، مع إزالة العوائق التي كانت قائمة أمام إمكانية ترشحه للرئاسة مجدداً في انتخابات العام المقبل.

الانعكاسات السياسيّة لعودة لولا

حكم الرئيس اليساري لولا دا سيلفا البرازيل بين العامين 2003 و2010، قبل أن يسلم السلطة لخليفته وحليفته ديلما روسيف، لكن المعطى الأكثر أهمية في وصول لولا وروسيف لا يتمثل بخياراتهما اليسارية التي حشدت حولهما شرائح واسعة من المؤيدين فحسب، إنما في النقلة النوعية التي شهدتها البرازيل على المستويين الاقتصادي والسياسي، إضافة إلى السياسات البيئية التي انتهجاها خلال توليهما الرئاسة، علماً أن قضايا البيئة تكتسب معاني أكثر أهمية في البرازيل، لكونها الدولة التي تضم المساحات الأكبر من غابة الأمازون، رئة العالم، إضافةً إلى مساحات زراعية شاسعة وإنتاج كبير من المواد الطبيعية.

في عهد لولا، اتَّخذت البرازيل خياراً استراتيجياً في قضايا التنمية، تم التعبير عنه قبيل رحيل لولا من السلطة، من خلال انضمام البرازيل إلى كل من روسيا والهند والصين في تأسيس مجموعة "بريك" (BRIC) في العام 2008، والتي أصبحت لاحقاً تعرف بـ"بريكس" (BRICS)، بعد انضمام جنوب أفريقيا إليها في العام 2009.

وقد تابعت ديلما روسيف مسار السياسات الَّذي كان لولا دا سيلفا قد أطلقه، فتبلور دور البرازيل كقوة اقتصادية صاعدة من ناحية، وكقوَّة سياسية يسارية مؤثرة في أميركا اللاتينية، انعكس وهجها على معظم دول القارة التي اتخذت خيارات مماثلة مناهضة لهيمنة الولايات المتحدة على الجزء الجنوبي من أميركا، واعتباره حديقةً خلفيةً لها، تمارس فيها السطو على قرارات الدول وإفقار شعوبها.

لكنّ الأمور هناك لم تكن على الدوام سهلة طوال سنوات حكم لولا وديلما روسيف. لقد عملت الولايات المتحدة من خلال دعم اليمين البرازيلي بقوّة لإقصاء اليسار من حكم البرازيل، وتالياً من العديد من الدول المحيطة، لتستعيد القوى اليمينية سيطرتها فيها، باستثناء كوبا وفنزويلا وبوليفيا، إذ صمد اليسار اللاتيني بوجه الحملة اليمينيَّة، متسلحاً بتأييد شعبي وازن، وبإرثٍ سياسيٍ متين من السياسات الصديقة للشرائح الفقيرة.

لكن مع تنامي موجة السياسات الشعبوية على المستوى العالمي عموماً، وفي الولايات المتحدة خصوصاً، بفوز دونالد ترامب بالرئاسة في العام 2016، كان مسار اليسار البرازيلي الحاكم قد تعقَّد من خلال نشاط قانونيّ محموم لإدانة الرئيسين، لولا وديلما روسيف، بادعاءات تتعلَّق بالفساد، ليتمّ عزل ديلما روسيف من منصبها في العام 2016، ووصول جايير بولسونارو إلى الرئاسة بعد سنتين قضاهما نائب الرئيس السابق ميشال تامر في الرئاسة.

لقد مثَّلت سيطرة بولسونارو على الحكم انتصاراً لليمين المتشدّد، مع وصول رئيس مثيرٍ للجدل إلى موقع الرئاسة. ولا يقتصر الجدل الذي أحدثه بولسونارو على مواقفه المتطرّفة، وهو الجنرال السابق الآتي من خلفية عسكرية قاسية، بل إنَّ المواقف التي أطلقها كانت مختلفة عن الاتجاه الذي رسمه لولا وديلما روسيف للبلاد، فقد عرف بولسونارو - وهو عضو الحزب الليبرالي الاجتماعي اليميني المحافظ - بآرائه السياسية اليمينية والشعبوية، حيث تكرَّرت تعليقاته المؤيدة لأسوأ فترات الديكتاتورية العسكرية التي شهدتها البلاد خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

 واليوم، تشكّل عودة لولا إلى الحياة السياسية خبراً سيئاً لليمين البرازيلي، فيما يكتسب الخيار اليساري زخماً يتم التعبير عنه في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي تشير استطلاعات الرأي إلى قدرة لولا على الفوز بالرئاسة، وخصوصاً مع النتائج الكارثية التي تركتها فترة حكم بولسونارو على البلاد، على مستويات مختلفة، أبرزها وأكثرها تأثيراً كانت الإدارة السيّئة لتفشّي جائحة كورونا في البلاد، وفشل الإدارة الصحّية التي أدت إلى تكبيد البرازيل فاتورةً هائلة من الوفيات.

نهاية المكيدة

قبل أسابيع، كتبت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية في افتتاحيتها تقول إنَّ (لولا) السياسي الأكثر شهرة في أميركا اللاتينية عاد منتصراً إلى موقع الصدارة في الحياة السياسية البرازيلية، بعد أن أبطلت المحكمة العليا بشكلٍ مفاجئ إدانته بالفساد، مشيرةً إلى أنَّ ذلك شكّل إثباتاً لاعتقاد أنصاره الراسخ ببراءته من تهم الفساد الَّتي سيقت ضده، أو تلك التي حيكت لإزاحته، بناءً على دوافع سياسية ونيات بالثأر منه.

هذه الرؤية لعودة لولا إلى صدارة التوقعات للانتخابات المقبلة تضيف إلى الاستحقاق الانتخابي معطيات جديدة، فقد تعيد رسم الخريطة الانتخابية من خلال السماح للولا بالترشّح مجدداً، بعد أن كان بولسونارو يأمل بالفوز بإعادة انتخابه في مواجهة معارضة منقسمة، في حين أنَّ هذه التغيرات سترفع من جبل التحديات الذي يقف أمامه، وهو الذي يحمل سجلاً مخيّباً في السلطة، والذي تضمَّن مراراً الإشادة بالديكتاتورية، والسماح بإزالة غابات أمازون، في صعود إلى أعلى مستوى في 12 عاماً، وإساءة إدارة أزمة وباء كورونا بشكل خطير، بينما يخيّب آمال المستثمرين في إجراء إصلاحات اقتصادية كبيرة. كل ذلك قد يؤدي ذلك إلى استنتاج بتعزيز فرص عودة لولا دا سيلفا إلى الحكم.

وعلى الرغم من توجيه المعارضين للولا اتهامات إلى القاضي الذي برأه، تتضمَّن تشكيكاً بمصداقيته، فإن ذلك لا يغيّر من واقع أنَّ قسماً كبيراً من الشعب البرازيلي لا يزال مقتنعاً بأن إدانه الرئيس السابق في محكمتي البداية والاستئناف لم تكن سوى انعكاسات لحربٍ سياسية خيضت ضده.

أما القضيّة بحدّ ذاتها، فنشأت من تحقيق فساد يعرف بـ"لافا جاتو". سُمي على اسم مغسل سيارات استخدم لغسيل الأموال في برازيليا. وقد بدأ التحقيق بها في العام 2014، إذ جرى الحديث عن مخطّط ضخم للعقود مقابل عمولات تشمل مجموعة النفط التي تسيطر عليها الدولة، وهي شركة "بيتروبراس" (Petrobras)، ومجموعة من شركات البناء، وعشرات من السياسيين البارزين.

لكن مع تكشّف معطيات جديدة تضرب مصداقية المحكمة التي أدانت لولا، استعاد جزء كبير من البرازيليين ثقتهم به، وخصوصاً مع ارتكاب المدّعين أخطاء جسيمة، مثل تلك الرسائل المسربة بين القاضي الَّذي نظر في القضايا سيرجيو مورو، والمدّعين العامين الذين يناقشون الأدلّة التي يجب استخدامها ضد لولا دا سيلفا، إذ تبيّن أنّه تم التدخّل لتأمين الإدانات، ثم زادت الشّبهات بالتحيّز بعدما تم تعيين القاضي مورو نفسه وزيراً للعدل في حكومة بولسونارو.

وعلَّق بولسونارو على قرار المحكمة العليا قائلاً: "بهذا القرار الذي أعلنته المحكمة العليا، لولا مرشّح"، مضيفاً: "تخيّلوا ما سيكون عليه مستقبل البرازيل مع نوع الأشخاص الذين سيجلبهم (لولا) معه إلى الحكومة". لقد بدا بولسونارو خائفاً من مصيره في الانتخابات المقبلة، فتعليقه لا يشير إلى مسألة تحقّق العدالة من عدمه، بل يشير فحسب إلى الجانب السياسي الذي سينعكس من خلاله قرار المحكمة في صناديق الاقتراع ضد مصلحته. وقد عبّر عن ذلك بوضوح عندما ربط بين ترشّح لولا وتحريضه البرازيليين بالقول إنَ "الشعب يجب أن يكون قلقاً بشأن مستقبل البرازيل".

أمل جديد لليسار اللاتيني

على الرغم من عدم تأكيد لولا البالغ من العمر 75 عاماً ترشّحه لانتخابات العام 2022، يبقى مستقبل بولسونارو مهدداً، وخصوصاً أنَّ غريمه كان قد قال مراراً إنه مستعدّ للعودة إلى الساحة السياسية عندما يحين الوقت، على الرغم من بقائه سنة ونصف السنة في السجن خلال العامين 2018 و2019؛ يوم كان صاحب الحظ الأوفر بالفوز بوجه بولسونارو.

وينطلق خطاب لولا اليوم ضد بولسونارو من فشل الأخير في ادارة ملف كورونا، إذ يعتبر أنَّ "قراراته الحمقاء" وإدارته الفوضوية للأزمة الصحية الناجمة عن وباء "كوفيد-19" تسبَّبا بوفاة نحو 300 ألف شخص في البرازيل. ويشبه حاله اليوم حال حليفه وصديقه ترامب الذي ساهم فشله في إدارة أزمة الجائحة بخروجه من البيت الأبيض.

واليوم، تشهد دول أميركا اللاتينية التي انتهجت خياراً وطنياً سيادياً في الوصول إلى لقاح خاصّ نجاحاً بارزاً في هذا السياق، الأمر الذي يفرض المقارنة مع نموذج البرازيل بقيادة بولسونارو؛ ففي كوبا، أطلقت الحكومة البوليفارية 5 لقاحات مختلفة بقدراتٍ محلية صرفة، أبرزها لقاح "عبد الله"، الذي اتفقت مع فنزويلا على تسليمها إياه ضمن مسار التعاون بين البلدين.

في الوقت نفسه، أصبحت شعبية بولسونارو الأضعف على الإطلاق بين ليلة وضحاها، بحسب استطلاعات الرأي التي جرت بدءاً من أواخر آذار/مارس 2021، حيث أظهرت انخفاض نِسَب تأييده إلى 33%، بعدما كانت 41.2% في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ثم تدهورت هذه الأرقام لتصل إلى 25% في نيسان/أبريل و24% في بداية أيار/مايو الفائت.

غداة هذه التطورات، فتح مجلس الشيوخ البرازيلي تحقيقاً في مستوى إهمال بولسونارو وإدارته طوال فترة الوباء. وقد تؤدي النتائج التي توصّل إليها التحقيق حتى الآن إلى عزل بولسونارو، فقد ثبت مثلاً ضعف ردّ الحكومة على نقص الأوكسجين الحاد في ولاية "ماناوس" في وقتٍ سابق من هذه السنة، حتى إنَّه قد يدخل السجن في حال إثبات ارتكابه جريمة جنائية.

وإذا تمكَّن لولا من الفوز بالرئاسة في انتخابات 2022، فمن المرجح أن تعود البرازيل إلى سياسات أكثر سيادية، وهي الَّتي تمتلك قدرات اقتصادية مهمة مقارنةً بكوبا وفنزويلا، وبالتالي، فإنها قادرة على تقديم نموذج أكثر نجاحاً في التعاطي مع أزمات بحجم كورونا.

يستطيع لولا دا سيلفا الآن الترشح للرئاسة مجدداً. ومن المتوقّع أن يتحدى بولسونارو في السنة المقبلة، وهو الذي لا يزال يتمتَّع بشعبية واسعة، ولا سيّما وسط الناخبين الفقراء والمنتمين إلى الطبقة العاملة، علماً أن شرائح واسعة من هؤلاء الناخبين صوّتوا لبولسونارو سابقاً.

واليوم، من المتوقّع أن يتعهّد لولا دا سيلفا بالعمل على إنهاء الكارثة التي خلّفها فيروس كورونا في البرازيل، وتحسين صورة البلاد على المستوى الدولي، في حين أنَّ سياساته البيئية قد تتناسب مع الأجندة المناخية التي يطرحها جو بايدن، إذ تتأثر البرازيل بشدة بالأمن المناخي، الأمر الّذي يرجّح أن يتعامل في حال وصوله إلى الرئاسة مع التغير المناخي كتهديد يفوق بخطورته الرأي الذي يحمله بولسونار في هذا الملف.

بين هذا وذاك، تراقب دول أميركا اللاتينية المشهد باهتمام، وهي التي تشهد اليوم توريد 12 مليون جرعة من لقاح "عبد الله" الكوبي (نسبة فاعلية تقارب 93%) إلى فنزويلا، كدفعة أولى من هذا اللقاح الّذي ينتجه مركز الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية (CIGB) في الجزيرة الكاريبية.

 إنّه زخم جديد ينطلق في أميركا اللاتينية، ويعبّر عن سيادة علمية، وعن عودة أمل سياسي باستقلال القارة عن السطوة الأميركية؛ أمل يتعزّز بعودة لولا المحتملة إلى رئاسة البرازيل.