الإعلام الفلسطيني وإشكالية الخطاب في مواقع التواصل الاجتماعي

رفعت منظمة "شورات هدين" الإسرائيلية دعوى قضائية أمام محكمة نيويورك الأمريكية بهدف إلزام "Facebook" بإزالة منشورات الفلسطينيين التي قالت إنها تحتوي على "مواد تحريضية". واتهمت المنظمة في دعوتها "Facebook" بلعب دورٍ كبيرٍ بالتأثير في مجريات الانتفاضة الفلسطينية الحالية من خلال المنشورات التي تدعو لاستمرار عمليات الطعن والدهس التي ينفّذها الفلسطينيون والإرشاد على أفضل طرق تنفيذها.

أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي إمكانية مشاركة العامة في إنتاج خطابها الإعلامي
يتألف الخطاب الإعلامي من عنصرين إثنين، وهما النص والسياق بحيث تكون علاقة النص بالسياق علاقة وثيقة.فإذا أردنا أن نفهم نصاً مُعيناً فعلينا أن نتعرّف وبشكل جيّد جداً على كل السياقات التي أحاطت بهذا النص، لهذا فإن إنتاج خطاب إعلامي "مؤدلج" وقادر على التغيير بفعل المراكمة، كان يستلزم الكثير من الرسائل وعبر أكثر من وسيلة إعلامية، (الصحف المجلات الراديو التلفزيون وحتى الإعلانات الطرقية) وذلك لتثبيت وربط هذه الرسائل النصية بسياقاتها المتنوّعة، وهذا ما جعله أكثر كلفة وبعداً عن متناول العامة، ثم ارتباطه بالنُخب المثقفة على اعتبار أنه منتج مؤسسات نخبوية في المجتمع.


في الحقيقة لقد أسست وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام، والفيس بوك بشكل خاص، لمرحلة جديدة مخالفة لكل ما تحدّثنا عنه سابقاً، إذ أنها استطاعت ربط النص بالكثير من السياقات (على مستوى الصورة، والصوت، والفيديو، والمخطّطات الإحصائية) وحتى على مستوى قياس الأثر الفوري للخطاب، من خلال وضع الإعجابات، والتعليقات، وغيرها من وسائل قياس المحتوى التي توفرها هذه العتبات وبشكل مجاني، هذا أولاً، ثم أنها أتاحت إمكانية مشاركة العامة في إنتاج خطابها الإعلامي، وأسّست للغة خاصة تتميّز بالكثير من الخفّة، والأخطر حقيقة أنه تم استخدامها من قِبَل العدو الصهيوني والمؤسسات الأمنية الغربية، لفرض خطابها الإعلامي، وبالتالي القدرة على تزييف الحقائق، والوعي، وإحداث فجوات معرفية لطبيعة المدرك والمفهوم عند العامة (التشويش) حتى بات الإنسان البسيط متحّيراً وغير قادر على اتخاذ قراراته، حتى في أخطر القضايا التي تمسّ وطنه وقضايا أمته.


كما انّها أسّست لمعاركها الناعمة، والتي استطاعت من خلالها احتلال الكثير من البلدان العربية على مستوى الوعي، وأصبح لديها القدرة على تحريك الجموع المُتأثرة بعامل الفضاء الرقمي. ولهذا فإن كثيراً من المراقبين، ذهبوا في تحليلهم لأحداث ما يُسمّى الربيع العربي على أنه نتيجة منطقية لضعف السيطرة الحكومية على مصادر الخطاب الإعلامي.

 

وفي هذا السياق، قدّم الباحثان Adi Kuntsman (محاضِر المعلومات والاتصالات في جامعة مانشستر الكبرى)، وRebecca L. Stein (أستاذ الأنثروبولوجي المشارك في جامعة دوك)، كتابهما بعنوان "لعسكرة الرقمية" والذي يتحدّث عن هيمنة إسرائيل على مواقع التواصل الاجتماعي، ويوضح كيف استطاعت توظيف هذه المواقع لخدمة أهدافها العسكرية في إطار صراعها الوجودي مع الفلسطينيين.


وشرح الكتاب مفهوم العسكرية الرقمية "Digital Militarism" بأنه مفهوم يشير إلى كيفية استخدام تكنولوجيا وآليات وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل أغراض عسكرية سواء من قِبَل الدولة، أو بواسطة المستخدمين العاديين. ويُشير الكتاب إلى أن الفضاء الرقمي استُخدِم بكثافة من قِبَل "الدولة الإسرائيلية" في إعلان الحروب، وإصدار بيانات، ونفي اتهامات ومن قبل المواطنين الإسرائيليين في الدفاع عن الممارسات العنيفة في الأراضي المحتلة، ومحاولة استبقائها وكذلك من قِبَل الجنود الإسرائيليين في نشر صوَر ومقاطع حيّة من ميدان المعركة.


في الحقيقة إن ما تحدّث به "Adi Kuntsman"  و "Rebecca L. Stein" عن مفهوم العسكرة الرقمية، بحاجة إلى الكثير من المراجعة، والمطابقة على مستوى الحدث التاريخي، بغية ضبط الأحداث، وربطها بسياقها، وبالتالي الفهم الأمثل لكيفية بناء "إسرائيل" لاستراتيجياتها العسكرية، ثم لفهم مراحل تطوّر عسكرة الفضاء الرقمي، فنلاحظ في تفاصيل  ما قدّمه الكتاب سرداً لبعض الأمثلة نذكر منها :


1- ما حدث في أسطول الحرية 2010: حدثت مواجهة إلكترونية بين النشطاء المشاركين في أسطول الحرية، والذين قاموا ببث مباشر من على متن سفن الأسطول، وجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي قام بإنشاء قناة على يوتيوب تبث مقاطع تثبت مزاعمه، وقد صنّفت ثلاثة من هذه المقاطع ضمن الأكثر مشاهدة على يوتيوب، وبرغم ذلك فقد أعلن الكثير من المعلّقين هزيمة إسرائيل "إلكترونيًّا" في هذه المواجهة.

 

2- أيضاً الحرب على غزّة عام 2012:  قرّرت إسرائيل أن تعلن الحرب من خلال تدوينة على موقع "twitter "، في سابقة هي الأولى من نوعها، في حين جاءت التدوينة الثانية لتعلن اغتيال القائد العسكري لحماس أحمد الجعبري. وبنفس الأسلوب اختارت حماس أن يأتي ردّها من خلال تدوينة على الموقع نفسه تهدّد فيها الجنود الإسرائيليين في حال ما تقدّموا في داخل القطاع، وهذا ما دفع الصحافة العالمية للحديث عن ظهور ساحة حرب جديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحرب "twitter " وكذلك وصفت هذه الحرب بـأول إعلان للحرب على موقع "twitter"، وأول حرب من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بين "إسرائيل" وقوى المقاومة في فلسطين.


كل ما تحدّثنا به يثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بأن هذا العدو، استطاع أن يستفيد من القوى الكامنة لوسائل التواصل الاجتماعي، سوى أننا أيضاً كقوى شبابية فلسطينية مقاومة ومدركة لطبيعة المعركة، استفدنا أيضاً من هذه العتبات المجانية، حتى على مستوى العسكرة الرقمية، ربما ليس بنفس الدرجة ولكن بالحد المعقول، بانتظار بناء استراتيجيات أخرى مدركة لأهمية هذا الفضاء.


وهذا ما يثبته القلق "الإسرائيلي" الشديد والمُتزايد، فبعد أن تعوّد الانفراد بروايته الإعلامية أمام العالم عبر تحكّمه بوسائل الإعلام العالمية، استطاع الناشطون الفلسطينيون استخدام هذه المواقع وفرض خطابهم الموازي، وهذا ما يفسّر حال الهلع والهوَس التي أصابت الاحتلال على أرض الواقع جرّاء انتفاضة القدس، إذ هاجم رئيس حكومة الاحتلال "بنيامين نتنياهو" مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً "Facebook"، واتهمها بالمساهمة في تصاعد حدّة هذه الانتفاضة، وهذا بالطبع كلام دقيق جداً لأن انتفاضة أخرى كانت تقوم بالتوازي على صفحات التواصل الاجتماعي، ما دفع العدو الصهيوني  لتأسيس وحدة خاصة لتعقّب ما أسماه الاحتلال "النوايا الجنائية" في إشارة إلى مَن ينوون القيام بعمليات ضدّ جنوده، ويلمّحون إلى ذلك، أو يصرّحون في كتاباتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.


كما رفعت منظمة "شورات هدين" الإسرائيلية دعوى قضائية أمام محكمة نيويورك الأمريكية بهدف إلزام "Facebook" بإزالة منشورات الفلسطينيين التي قالت إنها تحتوي على "مواد تحريضية". واتهمت المنظمة في دعوتها "Facebook" بلعب دورٍ كبيرٍ بالتأثير في مجريات الانتفاضة الفلسطينية الحالية من خلال المنشورات التي تدعو لاستمرار عمليات الطعن والدهس التي ينفّذها الفلسطينيون والإرشاد على أفضل طرق تنفيذها.


وهنا بات السؤال مشروعاً عن كيفية إنتاج خطابنا الشبابي المقاوم وكيفية المحافظة عليه على الرغم من سياسات فيس بوك العدائية والإقصائية...

أما عن كيفية إنتاج خطابنا الخاص فعلينا:

1- أن ندرس الكيفية التي تقوم بها بعض القوى المعادية بإقناع بعض فئات المجتمع الفلسطيني مثلاً بمعقولية الواقع وأهمية تقبّله، وذلك من خلال التحليل النقدي للخطاب المُعادي، وتقسيمه عبر كتل زمانية وجغرافية ونوعية، بغية الاستفادة من آليات بناء التراكيب الخطابية لجيش الاحتلال وتراكم خبراته في هذا المجال.

2- كشف زيف الاستراتيجيات الكامنة في الخطابات القهرية، والتي تُستخدم للإقناع والتلاعُب والتأثير في العقول، كأن نتحدّث عن جدوى العمل المقاوم أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي، أو مثلاً عن مصطلح كمصطلح السلام العادل.

3- دراسة كيفية التغلّب على إساءة استخدام القوة في الخطاب، بإنشاء الخطاب المضاد وذلك عن طريق بناء تكتيكات مُحكمة، تطارد الخطاب المعادي وتولّد خطاباً موازياً ومدعوماً بقوة الحشد التي يجب العمل عليها ( غرفة عمليات إعلامية ).


أما عن كيفية الحفاظ على منتجنا الفكري والخطابي وتثبيته على صفحات التواصل الاجتماعي، والحيلولة دون حذفه أو حظره أو إغلاق الصفحة، الدراسة فدعونا ندرس معاً بعض الأمثلة:


المثال الأول:  

- أفاد الكثير من المصادر العبرية عن إطلاق مخابرات جيش الاحتلال في الأشهر الأخيرة 5000 حساب فيسبوك عربي، جميعها بأسماء إناث باللغة العربية، ولديهم أرقام جوّالات فلسطينية، وذلك لمراقبة Facebook والحصول على معلومات من خلالها، طبعاً نحن نتحدّث هنا عن إمكانية مراقبة 25 مليون حساب لإن كل حساب من هذه الخمسة آلاف تستطيع تشكيل خمسة آلاف صديق، إذاً لنا أن نتخيّل 100 حساب مضاد مع خمسة آلاف صديق، فإنه سيكون لدينا القدرة على توجيه الخطاب لنصف مليون حساب،  لنتخيّل معاً قدرة الحشد التي نستطيع توفيرها لأيّ خطاب مُضاد، هذا أولاً، ثم لنتخيّل حجم العبء اليومي الذي ستشكّله مراقبة هذه الحسابات على جيش الاحتلال، وعلى إدارة الفيس بوك.


- العمل على قاعدة أننا نحارب العدو ضمن ساحة مكشوفة، وبالتالي إمكانية إغلاق الحسابات هي إمكانية واردة ولهذا فإنه علينا أن نتعامل مع إمكانية إنشاء حسابات جديدة، وبشكل يومي على أنه مجهود مُرهِق لجيش الاحتلال بالقدر الذي هو مُرهق بالنسبة لنا.


مثال آخر...

أفاد الكثير من المصادر العبرية أنّ الشرطة الإسرائيلية قرّرت إنشاء قسم عربي جديد في وحدة "السايبر"، ليتعقّب التلميحات لدى الفلسطينيين، للقيام بعمليات ضد الإسرائيليين، جاء هذا القرار بعد أن تم الكشف، في الأيام الأخيرة، عن عدد من الفلسطينيين الذين أبلغوا عن نيّتهم التعرّض للإسرائيليين، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبهذا فإنه من الأجدى ألا نطلب من الفئات المستهدفة إبداء أية وجهة نظر أو تسجيل إعجاب أو كتابة تعليق، وإنما نكتفي فقط بتكثيف الرسالة الإعلامية، مع الانتباه لاستخدام المزيد من المصطلحات التحريضية، بحيث لا يتم اكتشافها من قِبَل مزوّدات الخدمة عند فيسبوك، فنحن نتعامل هنا مع آلة مبرمجة لا تعرف كل الصياغات التي قد تحتوي على صيغ تحريضية، ولهذا فإن العين الاستخباراتية للعدو غالباً ما تلجأ إلى التبليغ عن هذه الصياغات الجديدة، وعن هذه الصفحات.

وهذا ما أكّده مدير السياسات في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا "سيمون ميلنر"  عندما نفى وجود اتفاقية تعاون بين شركته "وإسرائيل" بخصوص إغلاق الحسابات الفلسطينية المناهضة للاحتلال "الإسرائيلي"
فقال "ميلنر" خلال منتدى فلسطين للنشاط الرقمي الذي عُقد في رام الله، إن كل مستخدمي فيسبوك يخضعون لذات السياسات، وإن شركته غير منحازة لأية جهة على حد قوله، مُنبهاً إلى أن إغلاق الحسابات أو الصفحات مقترن بحجم التقارير المرسلة إلى إدارة موقع فيسبوك من قِبَل المستخدمين.

وبالتالي إن القدرة على تشكيل الحشد الإعلامي المناسب من الشباب المقاوم، وتأطيره وتزامنه، هو قادر بالضرورة على إغلاق الكثير من الصفحات الترويجية المعادية من خلال الإبلاغ عنها.


مثال آخر:

 أورد موقع الجزيرة نت إحصائية مفادها (كيف لنا أن نجابه سياسة الفيس بوك في حذفها للمحتوى الفلسطيني) ... هل بالامتثال لمعاييره التحريرية، أم بعقد اتفاقات معه على غرار ما قامت به إسرائيل، أم بالتلويح بمقاطعة هذا الموقع؟

وبلغت المشاركات نحو ثلاثة آلاف، وأظهرت النتائج التالية:

- 10% دعوا إلى الامتثال لمعايير موقع فيسبوك التحريرية.

- 19% رأوا أن السبيل الأمثل يكمن في عقد اتفاقات مع الشركة المشرفة على هذا الموقع.

- 71% أيّدوا التلويح بمقاطعة فيسبوك نظراً لطريقته في التعامل مع النشطاء على صفحاته.

أما عن خيارنا.. فيكون الخيار الرابع بالنسبة لنا وهو التوسّع في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي البديلة "twitter" " google+ " وأيضاً تطبيقات الهواتف الذكية، أما مقاطعة فيسبوك بالجملة فهذا برأيي أسوأ ما تفتّقت به مرامي الفكر الإعلامي، إذ أنها تعطي فرصة للكيان الصهيوني للسيطرة والتفرّد على احد أهم فضاءات التواصل الاجتماعي مع الانتباه لإمكانية إدارة هذه الحملات من قِبَل العدو نفسه.  


وأخيراً تحضرني إحصائية تم ذكرها في إحدى مؤتمرات الأمم المتحدة حول "اللاسامية في المجال الرقمي" وأشارت إلى أن كل ساعة يُرفع منشوران يدعوان إلى ممارسة العنف ضد اليهود، معتمدين على ما قاله مدير شركة "فيغو" لمراقبة المحتوى الرقمي "رافيف تال" عن أن 75 في المئة من المنشورات المعادية للسامية يكتبها شباب على مواقع التواصل الاجتماعي.