"غريتا" في يومها الأخير: تداعيات وروايات

تحل العاصفة "غريتا" وسط الكثير من النقاشات الفكاهية التي تتّخذ طابعاً شعبياً، لكنها تأتي أيضاً في ظل ظروف صعبة على الناس في لبنان، حيث الانهيار الاقتصادي والارتفاع الكبير في أسعار الوقود.

تنتهي مبدئياً، ووفق مراجع الرّصد الجويّ، الموجة الجليدية المسماة "غريتا" التي تضرب المنطقة. وبحسب الأرصاد الجوية في لبنان، فقد انطلقت الموجة من القطب الشمالي الذي يعلو القارة البريطانية على خارطة الكرة الأرضية، وامتدت فوق أوروبا الشمالية، واصطدمت بكتل هوائية دافئة وسط أوروبا بطريقة غير اعتيادية، فانعطفت شمالاً لتصل إلى روسيا وتتجه منها جنوباً بلوغاً إلى تركيا فالمشرق العربي. 

عزا علماء المناخ ظاهرة الاختلال المناخي هذه لاحترار الأرض بسبب الجشع بالأرباح الناجمة عن الصناعة الغربية الضخمة، وعدم التزام الدول الامبريالية بضبط ما تنفثه مصانعها من ثاني أوكسيد الكربون. 

ويربط كثيرون بطريقة هازئة - إن حبّاً أم كرهاً سياسيّاً - بين ما يقال عن الموجة شعبياً إنها قادمة من روسيا وأوكرانيا، ليستنتجوا أن العصر الروسي عسكريّاً يتجلّى مُناخياً أيضاً. 

وتحل الموجة وسط الكثير من النقاشات الفكاهية التي تتّخذ طابعاً شعبياً. فهي بنظر التقسيمات الفلسطينية لأحوال الطقس، والمتردّدة في سوريا ولبنان، تحلّ في آخر سعد من السعودات، لكنها خالفت معطياته هذا العام، فـــ "سعد الخبايا" "فيه تخرج الحيايا (الأفاعي) وتتفتل الصبايا"، كما يروج شعبياً.

مربعانية وخماسينية

وبحسب معمرين فلسطينيين، ومثقفين يوثقون تراث الأجداد، ومنهم المهندس أحمد زاغة، فقد كتب في مدونته أن الشتاء ينقسم إلى المربعانية، وهي مدة 40 يوماً، تبدأ في العشرين من كانون الأول/ديسمبر، وتنتهي بنهاية كانون الثاني/يناير، ويكون البرد فيها متزايداً بالتدريج، وتحتضن المربعانية أقسى أيام الشتاء مناخياً.

ثم تحلّ الخُماسينيّة، وتبدأ حيث تنتهي المربعانية، وتمتد 50 يوماً، أي حتى العشرين من آذار/مارس، حيث تفيد التقسيمات الأكاديمية للمناخ أن الربيع يبدأ في 21 هذا الشهر.

وتنقسم الخماسينيّة إلى 4 سعودات، كلّ واحد يمتد 12 يوماً ونصف اليوم، وهي بالتتالي: 

- "سعد الدابح"، والذي يشيع فيه "لا ترى فيه قطّ ولا كلب نابح"، إشارة إلى شدّة البرد حيث تختبىء الحيوانات بما فيها تلك التي لا تتأثر كثيراً بأحوال الطقس.

- "سعد بلع" (13-24 شباط/فبراير) وفيه تبلع الأرض مياه الأمطار سريعاً. 

- "سعد السعود" (25 شباط/فبراير -8 آذار/مارس) "لمّا المياه تمشي في العود، ويدفأ كل مبرود"، إشارة إلى ارتفاع حرارة الأرض، وطول النهار، وتَعَرُّضِ الأرض لأشعة الشمس لمدّة أطول يومياً. 

- "سعد الخبايا" (9 آذار/ مارس وحتى 21  آذار/مارس) وفيه "تخرج الحيايا -مُنْهيةً سُباتها الشتويّ- وتتفتّل فيه الصبايا"، وهذا ما يمرّ فيه الوقت راهناً.

المستقرضات

تحل الموجة "غريتا" هذا العام في موسم يطلق عليه المشرقيّون لقب "المستقرضات"، وهي مدّة زمنية ملحوظة شعبياً عبر العصور، تتكون من 7 أيام، وتحل في آخر 3 أيام من شباط/فبراير، وأول 4 أيام من آذار/مارس.

والطريف في المستقرضات هو خضوعها لحساب مستند إلى تقويمين، غربي وشرقي، والفارق بين التقويمين هو 13 يوماً، لذلك أكثر ما تتخذ المستقرضات أبعاداً وروايات وأساطير شعبية في لبنان نظراً لوجود التقويمَين فيه. فالتقويم الغربي وهو المعتمد عالميّاً، تتّبعه الطوائف الغربية أي الكاثوليك والموارنة، فيما تتبع التقويم الشرقي الطوائف الشرقيّة من روم أرثوذكس وسريان وأرمن وأشوريين وكلدان وروس.

وتقوم رواية المستقرضات على قصة تستند إلى مُعطى خوف العجائز من شهر شباط/فبراير، فيختبئن، وعندما يبلغ نهايته، تخرج العجوز بعصاها، وتتفتل وتغني "راح شباط، وولّى شباط(...) ".

ينزعج شباط/فبراير ويعاود هدير رياحه، ولكن متأخراً، فيستنجد بابن عمّه آذار/مارس قائلاً: "يا ابن عمي، يا ابن عمي، أربعة (أيام) منك وثلاثة (أيام) منّي، حتى نخلّي العجوز تونّي (أي تفلّ)".

لذلك، تمتدّ الموجة بين شباط وآذار لمدة 7 أيام على التقويم الغربيّ؛ وتتكرّر افتراضاً بعد ذلك بــ 13 يوماً، أي على التقويم الشرقي. 

أحياناً يصح الاحتسابان، وأحياناً يصح واحد ولا يصح الثاني، وثمة اعتقاد سائد أن الاحتساب الشرقي يصحّ أكثر غالباً، فوُضِعَتْ أمثالٌ له مثل "ما في قيامة تقوم إلا بعد مستقرضات الروم"، أو "قالو الشتوية خلصت، وصار الأمر محسوم، تاري هالعالم نسيت، هودي مستقرضات الروم".

ركّب الظرفاء بعض النكات على مواقع التواصل هذا العام على خلفية قساوة "غريتا"، منها مطالبة بطريرك أنطاكية للروم الأرثوذكس بوقف المستقرضات "لأننا رح نموت من البرد"، وبذلك يخلطون بين الاحتساب، ونسب ولادة الموجة طائفياً.

ومنها أن عجوزاً متلفحاً بشال سميك يكشف قليلاً عن وجهه متسائلاً عن "كم يوم باقي من مستقرضات الروم؟".

لا يختلف اثنان على أن "غريتا" كانت موجة غير مسبوقة لشدة بردها القطبي الذي لم يعتد عليه السكان، وتأتي في ظل ظروف صعبة على الناس حيث انهيار اقتصادي، وارتفاع مذهل في أسعار الوقود، مما شكل عبئاً مالياً ضخماً على الناس، القلقون من احتمال فقدان الوقود.

ويقف كثيرون منهم أمام خيارين، "الموت برداً أو الموت جوعاً"، وذلك بعد الارتفاع الهائل في سعر المحروقات، وتالياً فاتورة اشتراك الكهرباء الرديفة، المعتمدة أساساً على مادة المازوت التي باتت صفيحتها تناهز الليرة ذهباً بعد أن عمدت سلطتهم لرفع الدعم عن المواد من دون بديل.  

يلجأ المواطنون أحياناً لتأمين التدفئة بالحطب مستفيدين من غياب رقابة السلطة المانعة لقطع الأشجار، ومتى عجزوا، لجأوا إلى حرق أيّ مادة تطالها أياديهم، فعمد البعض إلى حرق أحذية قديمة للتدفئة، وكذلك ألعاب عتيقة لأطفالهم، بينما توقفت عن انتاج الوُقود المُصَنّع بعض مصانعه المعتمدة على فضلات الأشجار، ونفايات الزيتون (الجفت) بسبب ارتفاع أسعار المازوت المشغِّل للآلات، أو لفقدان التيار الكهربائي، وارتفاع أثمان التيار البديل.

الناس ينتظرون بفارغ الصبر بدء انحسار "غريتا" التي فاقمت ضغط الأزمة على المواطنين، وأكملت عدة الانهيار الذي لم يكن في الحسبان.