جميل ملاعب: رؤى فنية للبنان الماضي والحاضر

"غاليري جانين ربيز" في بيروت يستضيف معرضاً للفنان التشكيلي جميل ملاعب بعنوان "لبنان بلد الجمال والثقافة". ماذا يقدم لنا ملاعب؟

  •  جميل ملاعب أمام لوحة معلقات العيش المشترك
    جميل ملاعب أمام لوحة معلقات العيش المشترك

يستضيف "غاليري جانين ربيز" في بيروت معرضاً للفنان التشكيلي جميل ملاعب بعنوان "لبنان بلد الجمال والثقافة"؛ في دخولك إليه، تصبح محاصراً، كالبحر من ورائك، والنار من أمامك، ولا مفر.. حيث تبدأ رحلة يمكن القول فيها إنها تبتدىء ولا تنتهي إذا شئت التمتع بأعماله الموحدة الفكرة والطَّلعة والألوان. 

وبعد التمعن في الأعمال، لا يحتاج المرء لكثير تعمق وتفسير، فهو واضح بمنمنماته، وتفاصيله الفسيفسائية، وخلفيته الثقافية الشمولية، التي تعتبر عادية بالنسبة لفنان مخضرم، متخصص، متجدد، متعمق كجميل ملاعب، لا يجد في إبداعاته ما هو مستغرب و"قد مضى عليه 50 عاماً في ممارسة فنية لا تهدأ"، كما وصف نفسه في حديث مع "الميادين الثقافية".

لكن السؤال الذي يطرح حول المعرض متصل بشكله، وكيف يمكن إخراج هكذا عمل، غير معهود، حيث يلم شمل بلد مفعم بالضجيج، والحيوية، والدينامية، بسلبياته وإيجابياته، ولمجرد تبنيه فكرة لم شمل بلد برؤى تاريخية، واجتماعية، وعمرانية، وحنينية، يعني أنه رفع تحدي التقنية الفنية إلى ذرى غير مسبوقة.

أكثر ما يثير التساؤل حول المعرض هو في الإطلالة الأولى العامة له، وحدة أحجام، يطغى عليها اللون البني الفاتح (البايج)، زيتيات على كانفا، تتنوع قليلاً في لوحة أشبه بستائر المنزل، وببعض خشبيات طبيعية المنشأ هي مصدر إجماع على وصفها بــ "ثلاثية الأبعاد".

في لوحة مسطحة الشكل والمعنى، تبدو مجرد تلوينة تجريدية عن بعد، لكنها تحتوي تجميعاً تفصيلياً لمفاصل الحياة البنيانية البيروتية، بكل دقة وتفصيل، عنوانها "أحب بيروت"، زيتية على كانفا، كأن ملاعب أراد أن يعيد تشكيل المدينة التي يعشق، محاولاً إعادة إحيائها بما تبقى منها بعد سلسلة الخسارات والانكسارات التي لحقتها في الحروب الطويلة.

متقرباً منها بالتدريج، لا تلبث أن تبدأ تفصيلاتها بالتبلور والظهور بأحجام ميكروسكوبية، دقيقة، صغيرة لا يمكن تمييزها بالعين المجردة إلا بالاقتراب الحثيث منها، فيبدأ النظر بالتجواب في أنحاء اللوحة كأنه يجوب المدينة، وقد يستغرق ذلك ساعات، كالوقت اللازم لإنجاز الدوران في المدينة. عندها فقط يمكن تقفي بيوتها، تراثياتها، مساجدها وكنائسها، أحيائها، جسورها، قناطرها، أعمدتها، ونصب شهدائها، وكل ما فيها مما لا يمكن جمع شمله في المخيلة؛ لكن ملاعب استطاع تضمينها بدقة تفصيلية مذهلة.

لوحة "أحب بيروت" تجسيد لبيروت كما أرادها وكما يحب أن يراها، مبعداً عنها كل تجاعيدها العمرية، ومركِّزاً فيها على كل ما هو سليم، وصاغ، وجميل. رسمها كفنان عاشق لا يريد أن يرى محبوبته إلا في ذروة تألقها وسحرها، فأعاد صياغتها بما هو ناجٍ من انتهاكات الدهر لها. 

"أنا لا أنتظر من يقدم لي مدينتي بالطريقة التي يهواها، لا سلطة، ولا رجال دولة، ولا طوائف وشراذم كما خلفوها لنا"، يقول ملاعب مضيفاً: "ها هو المطر ينهمر من دون إذن من أحد، وهكذا أرسم مدينتي كما أحب".

تكفي هذه اللوحة لأن تكون معرضاً قائماً بذاته، بما تستغرقه من جهد وفن وصبر وتنوع وسعة تعبير؛ لكن ملاعب لا يكتفي بها، فثمة في المعرض ما هو أوسع بكثير، ينم عن احترافية جنونية تشكل لدى مشاهدها متلازمة إعجاب، وثقل تساؤل عن ماهيتها وكيفية إتمامها.

  • لقطة عامة للمعرض
    لقطة عامة للمعرض

تقتصر اللوحة على العمران وتشكيلاته البيروتية، ويغيب الانسان المتواجد بصورة مهيمنة في غالب بقية الأعمال، ويمكن تقصي بعضاً مما أدرجه الفنان في عدد من أعماله، ففي "معلقات العيش المشترك" المركب من 13 رقعة مستطيلة، ومتطاوية قليلاً كستائر البيت، سيرة حياة متكاملة فيها كل الظواهر، والممارسات، وطرق الحياة، مدينية وريفية، يعصر فيها الفنان كل ما في ذاكرته من صور، وتعابير منفلتة من عقالها. إنجاز فني عجيب، خارج عن السيطرة على التعبير.  

وفي "طقوس لبنانية"، و"لبنان التقاليد والطقوس"، و"لبنان أرض مملكة السموات"، و"لبنان التعايش"، يقفز الفنان فوق المعاني الآنية للتعايش المنضوي في صيغة الكيان السياسي، لينتقل فيها نحو التعايش الانساني بين مختلف المكونات، بمختلف الممارسات، وأنماط الحياة؛ في هذه اللوحات الضخمة ملايين الرموز المتسببة باستمرار عصف المخيلة والمشاعر، لكن بتجليات طقوسية أشبه ما تكون بالرموز الهيروغليفية، يرحل فيها الفنان في خلفيات المشاعر الموغلة في التراث، والتاريخ المتمدد نحو الحاضر بعناصر وراثية لا تتوقف. 

في "روزنامة لآب وأيلول"، تهدأ عاصفة التحدي الفنية، وتبقى منمنمات بشرية دقيقة في مستطيلين رفيعين، يعبر المشاهد فيهما عن أجواء منتصف الصيف وأواخره، عن الفرفشة، والدفء، والتطيُّر في كل اتجاه سهلاً وساحلاً وجبلاً. ممارسات طليقة في كل منحى، تعبر عن حب الدفء الصيفي، والتوق البشري للانطلاق، والانخطاف نحو المطلق. 

في القسم الثاني من المعرض المتعارف عليه بالثلاثي الأبعاد، اختار الفنان بعض جذوع شجر من محيطه، منها المربع التكعيبي، ومنها المستدير الأسطواني. 

  • جزء مجسم من
    جزء مجسم من "معلقات العيش المشترك"

اسطوانية "جذع شجرة الذكريات" إحياء لما علق في الذاكرة من مظاهر حياة يغلب عليها الطابع الريفي، ففيها بعض مزارعين وحيوانات تعيد الذاكرة للبنان ما قبل الحداثة، وفي أسطوانية ثانية بعنوان "حيرة جسد" تعاطٍ بشري كل مع جسده، يتخللها بعض طيور تشي بطيور الفسيفساء المناشدة للخلود، أو لبزوغ الشمس تعبيراً عن الأمل بالمستقبل. 

"نزهة ريفية" اسطوانية قليلة التعرج، مثبتة على قاعدة، من صورها جرار محمولة على الرأس من النبع، ومنجيرة راعٍ تصفر، واغتسال على الجدول.. صور ريفية تحيي ذكريات ندرت، أقفل عليها زمن التغريب، لكن حنينها ما يزال متفاعلاً في مشاعر فنان لا يبدو مرتاحا بتجليات العصرنة الجلفة، باردة العواطف. 

"لبنان الفصول الأربعة"، خشبية طويلة مربعة، في كل جهة تعابير فصل من الفصول، وفيها تفصيلات استمرارية للمنحى العام للمعرض، وفي "يومية آلهة الأرض" الخشبية المكعبة أيضاً، هموم طقوس الأضاحي الأسطورية التي تعود لعصور تاريخية موغلة في القدم.   

قد يبدأ المراقب رحلته في معرض ملاعب، لكن ربما لن ينجزه قبل إقفاله نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري.