علم بلا أخلاق.. من يصدّ العلوم والتكنولوجيا عن استباحة أجسادنا؟

إجهاض واستنساخ وتأجير أرحام وتجارب خطرة، ضحاياها من البشر. لماذا يسهم العلم في استباحة قدسية الجسد؟ وما الضوابط التي تحد من جموحه؟

فرضت "الأخلاق الطبيَّة والحيويَّة" نفسها على الساحة الفلسفيَّة كتخصّص جديد في سبعينيات القرن الماضي؛ حيث أَولتْ اهتمامها بالمشاكل الأخلاقيَّة التي تطرحها الممارسة العلميَّة والتكنولوجية. فكان لابدّ لشطط التقدّم العلمي والتقني اللامتناهي الذي يجتاح عالم اليوم من أن تحكمه قيود أخلاقية وفلسفيَّة ودينيَّة واجتماعيَّة تستطيع أن تحافظ على إنسانيَّة الإنسان، وتحرص على عدم انتهاك قدسيَّة الجسد الإنساني الذي أصبح في مرمى العَبَث العلمي نتيجة التقدّم العلمي المُتتابع وطموحات العلماء التي لا تتوقّف عند حدٍ بعينه. وذلك منذ ظهور البوادر الأولى لمحاولة الإنتاج الصناعي للحياة أو قبلها في تجارب الاستنساخ، أو بنوك المني، أو تطوير آليات تحسين النسل أو حمل الأجنّة في قوارير زجاجية، أو مع اكتشاف الخرائط الجنينيَّة للكائنات الحيّة وضمنها الإنسان، وتقطيع الجينوم، وغير ذلك من الاختراقات التي صاحبت التقدّم والتطوّر العلمي والتكنولوجي، والتي كانت تستلزم وجود أخلاقيات تكبح جماح التقدّم العلمي لتُبقي على كرامة الإنسان وعدم تشييئه.

وتُعدّ الأخلاق الطبيَّة والحيويَّة أو ما أصبح يُعرَف باسم (البيوإتيقا Bioethics) من أهمّ مباحث الفلسفة التطبيقيَّة؛ ذلك المبحث الذي بات يمثّل نقطة تلاقٍ بين علوم عدّة وتخصّصات تقنية وإنسانيَّة مختلفة، فمن العلوم التقنية: الطب والهندسة الوراثيَّة والبيولوجيا، ومن العلوم الإنسانيَّة الاجتماع والأخلاق والسياسة وعلم النفس وعلم اللغة، فضلاً عن تلك المباحث التي ليست علوماً بالمعنى الدقيق كالدين واللاهوت والأخلاق والفلسفة.

 ومن ثمَّ أصبحت الأخلاق الطبيَّة والحيويَّة (البيوإتيقا) تدلّ على مجموعة البحوث والممارسات والخطابات التي تتميّز عادة بطابع تعدّد الاختصاصات والتي تحاول الإجابة عن أسئلة وقضايا أخلاقية، نشأت نتيجة للتقدّم العلمي والتكنولوجي في ميدان الطب والبيولوجيا، أو بعبارة أخرى تحاول تقديم رؤى جديدة للتعامل مع المشكلات الأخلاقيَّة التي بات يطرحها التقدّم العلمي والتكنولوجي في مجال الممارسات الطبيَّة وعلوم الحياة، ولمواجهة ما تتعرَّض له الكرامة الإنسانيَّة وحقوق الإنسان من انتهاكات في إطار أبحاث الطب والبيولوجيا. 

ومن ثم تصبح البيوإتيقا كمبحث فلسفي أخلاقي جديد له طابع تركيبي تعدّدي، وذلك باعتباره بمثابة ملتقى لمجالات معرفية معاصرة ذات ثقل كبير في الساحة المعرفية، وذات تأثير واسع على الحياة الإنسانيَّة الفردية والجماعية، النفسية والسوسيو/اقتصادية، الحاضرة والمستقبلية؛ فهي تقوم في الأساس بالاهتمام بأخلاقيات العلوم ومن خلالها تعيد طرح المشكل الأخلاقي بشكل جديد بحيث لم يعد يستطيع أن يحسم فيه المُتخصّص في الأخلاق ولا الفيلسوف وحده؛ فقد أصبح مشكلاً يهمّ الجميع: الأطباء والباحثون، علماء الأخلاق والفلاسفة، علماء الدين ورجال القانون، علماء النفس والاجتماع والبيئة...الخ. 

بهذا المعنى أصبحت البيوإتيقا فرعاً معرفياً متعدّد التخصّصات، أو مجالاً لالتقاء أو تقاطع كثير من العلوم والمباحث ذات التأثير الكبير على حياة الإنسان المعاصر.

نشأة مصطلح الأخلاق الطبية والحيوية (البيوإتيقا) 

  • ظهرت في القرن العشرين حاجة مُلحّة إلى وجود الأخلاق الطبيَّة والحيويّة أو ما يعرف بــ
    ظهرت في القرن العشرين حاجة مُلحّة إلى وجود الأخلاق الطبيَّة والحيويّة أو ما يعرف بــ "البيوإتيقا"

لم يظهر مجال الأخلاق الطبيَّة والحيويَّة فجأةً، بل كانت له إرهاصات قديمة، فقد أظهرت تشريعات "حمواربي" ملك بابل العظيم عام 2100 ق.م عن بعض الأخلاق التي يجب مراعاتها من قِبَل مَن يعملون بالطب؛ حيث وضعت قواعد مشدَّدة تحدِّد أجور الأطباء وتحمي المرضى. 

وكانت تعتبر الطبيب مسؤولاً مسؤولية كاملة عن أيّ ضررٍ يلحق بالمريض أثناء علاجه. فإذا تسبّب طبيب أثناء الجراحة في موت مريض أو فقد عيناً من عينيه أو إتلاف أيّ عضو آخر من أعضائه قُطِعَت أصابع الطبيب. أمَّا أجور العلاج فكانت تُراعى فيها الحال الاقتصادية للمريض بحيث يدفع الفقير أقلّ ممّا يدفعه الثريّ [1]. 

وكان العصر اليوناني هو العصر الذي شهد وضع "قَسَم أبقراط" الذي حدّد سلوك الطبيب وأخلاقياته في ضرورة المحافظة على حياة المرضى، وإبعاد الأذى عنهم قدر المستطاع. 

وقد وضح تأثير "قَسَم أبقراط" في التراث المسيحي؛ حيث سعى الكثير من اللاهوتيين -على ضوئه - إلى صوغ معايير خاصة للأخلاق الطبيَّة. كما وضح أثر هذا القَسَم في أهمّ المرجعيات الإسلامية التي كُتِبَت بواسطة العالِم المسلم إسحاق بن علي الراوي وهو كتاب "آداب الطبيب"، الذي زاوَج فيه بين تعاليم أبقراط والأخلاقيات الإسلامية، وصنّف من أهمّ الكتابات الفريدة التي اهتمّت بالأخلاق العملية في مجال الطب. 

وشهدت أوروبا في عصور الإصلاح الديني والنهضة والتنوير تبلور نظريات فلسفيّة أخلاقيّة جعلت الأخلاق الطبيَّة جزءاً من حقوق الإنسان، فلم يعد حق المريض في العلاج إحساناً تقدّمه المستشفيات التابعة للكنائس، وإنما هو حق تمنحه إيّاه الدولة بموجب قانون حقوق الإنسان. كما عرفت بدايات القرن التاسع عشر ظهور أبرز الكتب حول الأخلاق الطبيَّة وهو كتاب توماس برسفال "Thomas Percival الذي حمل عنواناً معبّراً جداً وهو: "الأخلاق الطبية: أو قانون للتنظيمات والقواعد التي تلائم السلوك المهني للأطباء والجرّاحين" عام 1803م. 

وفي القرن العشرين ظهرت الحاجة المُلحّة إلى وجود الأخلاق الطبيَّة والحيويّة (البيوإتيقا Bioethics) مع ظهور الحركة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأميركية أواخر الستينيات وبداية السبعينيات في القرن الماضي، والتي كان من أبرز مهامها مواجهة السلطة الطبيَّة، خاصة بعدما أصبح الأطباء وبعض المشتغلين بمهام البحث العلمي في مختلف ميادين الطب والصحة، يقومون بممارسات تتعارض مع المبادئ والقواعد التي تقوم عليها أخلاقيات مهنة الطب. إذ أجبروا فئات من الأطفال والزنوج والسجناء والعجزة على الخضوع لتجارب طبية خطيرة، من دون أخذ موافقتهم أو إخبارهم بما قد ينتج من ذلك من انعكاسات سلبية تؤثّر على صحّتهم وحياتهم، علماً بأن هذه الفئات كان من المفروض أن تكون محطّ عناية هؤلاء الأطباء ورعايتهم [2]. 

نشأت الأخلاق الطبيَّة والحيويَّة كاعتراض فلسفيّ على جموح التطوّرات العلميَّة الحديثة في مجالات الطب والبيولوجيا، غير عابئة بانتهاك قداسة الجسد الإنساني. ونشأت بشكل رسمي – رغم إيغال إرهاصاتها في التاريخ – مع بداية سبعينيات القرن الماضي؛ حيث استُخدِم لفظ البيوإتيقا لأول مرة عام 1970م من قِبَل العالم الأميركي فان بوتر في مقالته المُعَنْوَنة بـــ (البيوإتيقا عِلم البقاء).

مع تطوّر البحث والتجريب الذي شهده القرن العشرين، ودخول التكنولوجيا والهندسة الوراثيَّة في مجال الطب والبيولوجيا، أي مع تبلور تكنولوجيا الحياة واعتماد تقنيات متطوِّرة فرضت نفسها بقوّة على التطبيقات الطبيَّة والبيولوجيَّة، أصبح من المستحيل التغاضي عنها أو إغفالها؛ طرحت معضلات أخلاقية غير مسبوقة. وكان لا بدّ من أن يظهر تخصّص جديد يؤكّد أهميّة اللقاء بين العلوم والمباحث المختلفة، فظهرت (البيوإتيقا) لتؤكّد أهمية اللقاء بين الفلسفة والعِلم، بين القِيَم والتكنولوجيا، وبين الأخلاق والتطوّرات العلميَّة الحديثة لاسيما في مجالات حسّاسة جداً مثل الهندسة الوراثيَّة التي أحدثت ثورة كبرى في العِلم والمجتمع معاً هزَّت المفكّرين وقادة الرأي كما هزّت رجل الشارع سواءً بسواء. 

وكان من أبرز المعضلات التي واجهت هذا التخصّص الجديد أسئلة من قبيل: هل تُجيز الأخلاق أو الدين أو القانون أن يتحوّل إنسان ما إلى "قطع غيار" لإنقاذ شخص آخر؟ أو أن يسعى العلماء إلى استنساخ نسخة أخرى من شخص عبقري؟ هل من الممكن أخلاقياً أن ننهي حياة شخص حاصرته الأمراض الفتّاكة والألم يعصف به من كل جانب؟ وهل يجوز إجهاض الأطفال المشوّهين خَلقياً؟ وهل يمكن للمرأة أن تحمل بدلاً من غيرها؟ وهل من المقبول انتقاء أجنّة خالية من العيوب الوراثيَّة؟ هل يجوز إجراء التجارب العلميَّة على البشر من دون عِلمهم؟ ...الخ.

كان لا بدّ لهذه الأسئلة والمعضلات الكبرى من أن تؤثّر على علاقة الأخلاق بالعِلم عموماً، وخاصة أن حصان العِلم الجامِح يمكن استغلاله لتحقيق منافع ومصالح اقتصادية غير شرعية.  خاصة وأن علاقة الأخلاق بالقِيَم وطيدة وتعود إلى فجر التاريخ منذ قَسَم أبقراط الشهير وإن بدت متوتّرة. هكذا كان ضرورياً البحث عن تخصّص جديد يثري البحث الفلسفي ويعيد الفلسفة مرة أخرى إلى دائرة الاهتمام، في محاولة لجعل العلاقة بين العِلم والأخلاق علاقة وطيدة ما دام الموضوع هو الإنسان الذي كرَّمه الله تعالى من فوق سبع سماوات.

 وهنا يمكننا تجديد الفكر الفلسفي، وإضافة مجال ثريّ يهبط بالفلسفة مرة أخرى من السماء إلى الأرض، مثلما يرى الفيلسوف الإنكليزي ستيفن تولمين Stephen Toulmin الذي يعتبر أن ميدان الطب البيولوجي Biomédecine وما يرتبط به من "أخلاقيات الطب والبيولوجيا"، يشكّل مناسبة هامة للتجديد الفلسفي.

ويقول: "لقد أنقذ الطب البيولوجي الأخلاق والفلسفة"، ويقول غيره "لقد أبدع الطب فلسفة". ما يذكّرنا بقول لويس التوسير أيام ازدهار الدراسات الإبستمولوجية: "لقد أبدع العِلم حقاً فلسفة" [3].

ماهيّة مصطلح الأخلاق الطبيَّة والحيويَّة 

  • حدد
    حدد "قَسَم أبقراط" سلوك الطبيب وأخلاقياته في ضرورة المحافظة على حياة المرضى وإبعاد الأذى عنهم  

ظهر مصطلح الأخلاق الطبيَّة والحيويَّة أو البيوإتيقا- كما سبقت الإشارة - في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وقد تحدّد على يد العالم الأميركي فان بوتر رينسلاير Van Potter Rensselayer (1911- 2001) الذي يرجّح كثير من العلماء والباحثين أنه أول مَن استعمل هذا المصطلح، والذي قصد من خلاله تأسيس عِلم جديد، عِلم البقاء أو الاستمرار على قَيْد الحياة، وهو عِلم يرمي إلى إقامة تحالف بين علوم الحياة (Bio) وبين القِيَم الإنسانيَّة والقواعد الأخلاقيَّة (Ethics)، بحيث يعمل – ليس فحسب - على تجنّب البشرية للعديد من الكوارث المُحتملة الناتجة من استخدام التكنولوجيا في الجسد البشري بل اتّسع  المفهوم منه ليشمل مجالات وأنشطة متعدّدة على رأسها: "تنظيم النسل"  و"تحقيق السلم"  و"محاربة الفقر " و"الحفاظ على البيئة" و "حماية الحياة الحيوانية" و"الدفاع عن سعادة الأفراد" لكي يضمن بقاء الإنسانيَّة على قَيْد الحياة واستمرار الكوكب الأرضي في الوجود.  ومن ثم يجيء دور زميله الأميركي أندري هيلجرز Andre Hellegers  (1926- 1979) والذي ينازع بوتر في ابتكار المصطلح.

والحقيقة أن بوتر قد قدَّم رؤية شمولية للمصطلح، أمَّا هيلجرز فهو مَن قام بحصر معنى البيوإتيقا في القضايا التي يثيرها تَقدُّم العلوم البيولوجيَّة وتطبيقاتها الطبيَّة. فكما يقول أحد الباحثين: "إن هيلجرز هو أول مَن استعمل المصطلح للدلالة على هذا المعنى الضيّق الذي أصبح اليوم سائداً في أوساط البحث والممارسة الطبية. بالإضافة إلى ذلك، هو أول مَن أعطى الانطلاقة الفعلية للدراسة الاجتماعية الاختصاصية لهذا المبحث الجديد، وأول مَن رَسّخه كحركة اجتماعية لها أنصارها ومؤيّدوها، وذلك في وقت لم تكن فيه الدراسات المتعدّدة الاختصاصات تلقى أيّ تشجيع، ولم تكتسب فيه "الأخلاقيات التطبيقيَّة" بعد الشعبية التي تتمتّع بها حالياً" [4].

فإذا ما وقفنا عند التعريف اللغوي لكلمة Bioethics وجدناها تتألّف من مقطعين؛ يشير المقطع الأول (Bio) ويعني علوم الحياة، والمقطع (Ethics) الذي يعني الأخلاقيات أو القِيَم الأخلاقيَّة، ومن ثم يكون المعنى الدلالي اللغوي هو التفكير في القِيَم الأخلاقيَّة الخاضعة لعلوم الحياة. أو ما يعني ضرورة وجود علاقة وطيدة بين القِيَم الإنسانيَّة والعلوم البيولوجية بعد تلك التطوّرات الخطيرة التي شهدتها العلوم البيولوجية وباتت تشكّل خطراً على مستقبل البشرية.

ويورِد "جي دوران "G.Durand تعريفات عدّة لمصطلح البيوإتيقا تحاول الوقوف على المعنى الاصطلاحي للمفهوم؛ فيرى أن البيوإتيقا عند بيير دو شامب P.D Champ" هي العِلم المعياري للسلوك الإنساني الذي يمكن قبوله في مجال الحياة والموت. أما عند ديفيد روي D.Roy   فهي تلك التي تتناول دراسة جملة الشروط التي تقتضيها إدارة مسؤولة للحياة الإنسانيَّة أو الشخص الإنساني في إطار أنواع التقدّم السريع والمعقّد للمعرفة والتقنيات الحيوية الطبيعية. لينتهي دوران إلى تعريف يرتضيه ويرى أنه الأنسب؛ حيث يقرّر أن "البيوإتيقا" هي البحث عن جملة المطالب لاحترام الحياة الإنسانيَّة والشخص وتقدّمها في القطاع الحيوي/الطبي [5]. 

وعلى هذا تدلّ "البيوإتيقا" على المسؤولية تجاه الحياة الإنسانيَّة القادمة والتي نحن مُوكَلُون بحراستها، وعلى البحث عن أشكال الاحترام الواجب للشخص، سواء أكان الآخر أو المرء نفسه، بحيث يجري على وجه الخصوص في مجال النظر في القطاع الحيوي/الطبي وتطبيقاته. وهي عِلم معياري يهتمّ بالسلوك الإنساني الذي يمكن قبوله في إطار القضايا المتعلّقة بالحياة والموت، وهو تخصّص يجمع بين تخصّصات متعدّدة تهتمّ بالشروط التي تتطلّبها الحياة الإنسانيَّة في الإطار الحالي لتقدّم العلوم والمعارف وتقنيات الطب والبيولوجيا [6]. 

ومن ثم يكون موضوع هذا التخصّص الجديد هو القضايا الأخلاقيَّة التي أفرزها التقدّم الحاصل في الميدان الطبي/البيولوجي، وما يرتبط بها من قضايا أخرى فلسفية وقانونية ودينية واقتصادية وبيئية. 

أمَّا غايته الأساسية فتتمثّل في اقتراح المبادئ الأخلاقيَّة التي يجب أن تنظّم ممارسة الأطباء والعاملين في ميادين الطب والبيولوجيا والصحّة، إلا أن هذه المبادئ تتجاوز المستوى الطبي/البيولوجي كي تشكّل نواة للتفكير في كيفيّة تنظيم أخلاقي وقانوني مُتّفق عليه -نسبياً- للممارسة والبحث العلميين، ولكل الممارسات المهنية بشكل عام؛ ووسيلة لتدعيم حقوق الإنسان والحفاظ على بيئته، وحمايته من تجاوزات العلماء والباحثين، خاصة وأن هذه المبادئ تتعلّق بقضايا تهمّ الجميع مثل صون كرامة الإنسان والحفاظ على وحدته وهويّته، ومراعاة العدالة والإنصاف في إطار استفادة كل أفراد المجتمع من العلاجات الطبية، ومن كل فوائد التقدّم العلمي/التكنولوجي في المجال الطبي/البيولوجي، وكذا احترام حقّ الفرد في الاختيار واستقلاله الذاتي وحقّه في تقرير مصيره بنفسه في ما يتعلّق بحياته أو موته أو ذاته بشكل عام [7].

مجالات "البيوإتيقا" وقضاياها

  •  Hulton Archive/Getty Images
    ارتبطت "البيوإتيقا" في البداية بأخلاقيات البحث العلمي التي تؤطّر التجارب على البشر (Getty Images)

قَسَّمَ أحد الباحثين القضايا التي تتناولها الأخلاق الطبيَّة والحيويَّة إلى ثلاثة أقسام: هي المركز والوسط والمحيط. تتضمّن المشكلات الأساسية للمركز الموضوعات المتعلّقة بالإجهاض، التشخيص المُبْكر، القتل الرحيم للحمائل "الإخصاب الصناعي" والبنوك المنوية"، "أطفال الأنابيب، "الأمّهات البديلات"، "التصرّف في الجينات"، "الاستنساخ الجنسي"، "التبرّع بالأعضاء وزراعتها"، "مرض نقص المناعة"، "الموت الرحيم والمساعدة على الانتحار"، "الجراحة العصبية"، "العلاج النفسي بواسطة العقاقير"، "التجارب على البشر" و"الأجنّة والأبحاث حول الجينوم البشري"، "الصحّة العمومية والأبحاث الوبائية". 

هل نمنع البحث العلمي من الاستمرار في طريق تقدّمه، مع أن تقدّمه هذا يهدّد قِيَماً إنسانيَّة لها ما يشبه القداسة، أم نتركه يواصل تقدّمه من دون قَيْد أو شرط حتى لا نضحّي بحرية البحث العلمي؟ أم نضع بعض القيود الأخلاقيَّة والدينية والفلسفيَّة والاجتماعية التي تضبط الجموح العلمي، لأن العلم بلا أخلاق يصبح مدمّراً؟

 

أما الموضوعات الأوسع التي ترتبط بمجال الوسط فهي من قبيل: مَنْع الحَمْل ووسائله، الحرب وما يتعلّق بالأسلحة البيولوجية والكيمائية، التعذيب، الحُكم بالإعدام وغيرها. أما الموضوعات الأوسع فهي موضوعات لها علاقة وصلة بموضوعات المركز والوسط مثل: تصوّر الصحّة والمرض، علاقة الأخلاقيات بالقانون وحقوق الإنسان وعلاقة الأخلاق بالتكنولوجيا [8].

في حين يرى آخرون(*) أن المجالات التي تتشكّل منها "البيوإتيقا" من الممكن تقسيمها إلى ثلاثة ميادين أو تخصّصات رئيسية هي:

أخلاقيّات العيادة: ويمكن القول بأنها تمثّل أخلاق المركز في التصنيف السابق، وتوضع من جانب المؤسّسات والمنظّمات المعنية ولجان الأخلاقيات؛ حتى يسهل اتّخاذ القرار ورَسْم خارطة العلاج مع تقدير واحترام المريض الذي يضع ثقته في الطبيب ومعاونيه والمؤسّسة العلاجيَّة التي يعالج فيها. وتدور أخلاقيات العيادة حول القضايا التي يصعب اتّخاذ قرارات حاسمة بشأنها؛ مثل ما يتعلّق بحسم مصير هؤلاء الأطفال حديثي الولادة المصابين بتشوّهات خطيرة، أو الإبقاء على الوسائل الداعمة للحياة بالنسبة إلى الذين يوجدون في حال الغيبوبة الدائمة، أو إنعاش المرضى الذين وصلوا إلى مراحل متقدّمة من المرض ويصعب التكهّن بمآلهم. فهل يجب إنقاذ كل هؤلاء الأطفال المُعوّقين؟ والإبقاء على حياة كل أولئك المرضى؟ 

كما يمكن أن نضمّ إلى هذا القسم أيضاً أسئلة من قبيل: هل نبوح للمريض بداء خطير بحقيقة مرضه أم لا؟ وإلى مَن نبوح بهذا السرّ من أهله؟ وكيف يمكن للممرضة أن تحفظ سرّ مريض مصاب بداء السيدا؟ 

إذن تتعلّق مسائل وقضايا هذا القسم بتلك التصرّفات الملائمة أخلاقياً التي يجب القيام بها بجانب سرير المريض وأهمّها: المواقف التي يلزم اتّخاذها، والمعلومات التي يمكن الإدلاء بها، والحوار الذي يجب إجراؤه، والخلافات التي ينبغي حلّها، والقرار الذي يجب اتّخاذه؛ أي بكل ما يواجه الطبيب والفرق الطبيَّة من قرارات وشكوك واختلافات قِيَمِيَة ومعضلات، وذلك سواء أمام سرير المرضى أو داخل غرف العمليات أو في مكتب الاستشارة الطبيَّة أو في العيادة أو حتى في منزل المريض [9].  

وهكذا تتمحور أخلاقيات العيادة بين ثلاثة أطراف أساسية هي: المريض، والطبيب، والمجتمع، وتتمحور أولاً حول المريض، فتهتمّ بوضعيّته المرضية وتضع في الحسبان آلامه وأوجاعه، إضافة إلى اهتمامها بتاريخه الشخصي، ووضعه العائلي ورغباته الشخصية. إن المريض هنا هو مركز التفكير والتدخّل. ويتّسع المجال هنا ليشمل معاناة المعالجين وأشكال معاناة المؤسّسات العلاجيَّة من حالات يصعب تحمّلها. ومن ثم تستعين أخلاقيات العيادة بمبادئ إرشادية تضعها المؤسّسة العلاجيَّة أو لجنة الأخلاقيات. 

أخلاقيات البحث العلمي: تهتمّ أخلاقيات البحث العلمي ببيان الجوانب الأخلاقيَّة في الأبحاث العلميَّة التي تتّخذ من الإنسان وأجزاء جسمه موضوعاً لها. 

وقد ارتبطت البيوإتيقا في البداية بأخلاقيات البحث العلمي التي تؤطّر التجارب على البشر، فكان مجال التجارب على البشر في الولايات المتحدة هو أول ميدان يثير نقاشاً قِيَمِياً عمومياً وتفكيراً أخلاقياً تساهم فيه تخصّصات عدّة. وقد أدّى هذا النقاش إلى نشأة اللجنة الوطنية الأميركية للأخلاقيات سنة 1974. كما إلى إنشاء لجنة للأخلاقيات في فرنسا من طرف المؤسّسة الوطنية المكلّفة بالصحّة والبحث العلمي في ميدان الطب INSERM، ثم تأسيس "اللجنة الوطنية الاستشارية لأخلاقيات علوم الحياة" بمرسوم حكومي سنة 1983. وقد اهتمّت هيئات دولية أخرى بهذا الموضوع، وأصدرت بناء على ذلك مبادئ توجيهية وقواعد الواجبات الخاصة بالتجارب على البشر.

ويرى دافيد روي أن هناك ثلاث معضلات أساسية علينا التوقّف عندها هي: تحقيق سعادة جميع أفراد المجتمع ومصلحتهم المشتركة، ومراعاة مسؤوليات الطبيب تجاه مرضاه، ومطالب المرضى الذين يرغبون في الاستفادة مما يستجدّ من علاج، والضرورة العلميَّة والعلاجيَّة والاقتصادية للقيام بتقويم صارم لذلك العلاج [10]. الأمر الذي أدّى إلى ظهور مؤسّسات تمارس نوعاً من الرقابة الديمقراطية على الأبحاث العلميَّة، وتتساءل عن مدى مشروعيّة الأبحاث والتجارب على البشر أو حول المرجعيات والمبادئ التي يجب احترامها. فترتبط "البيوإتيقا" هنا بقضايا ملموسة تشخّصها تساؤلات مختلفة من قبيل: ما هي شروط قبول التجارب العلميَّة على البشر من الناحية الأخلاقيَّة؟ وبأية صفة؟ وفي ظلّ أية شروط؟ وكيف ترتبط الأخلاقيات بالعِلم التكنولوجي؟

ومن ثم يمكننا القول إن قضايا هذا المبحث تدور حول مهام أساسية تتناول مدى مشروعيّة الأبحاث والتجارب على البشر، أو حول المرجعيات والمبادئ التي ينبغي إتّباعها عند إجراء مثل هذه التجارب، ونجد ضمن هذه المؤسّسات وكالات حكومية تمارس مراقبة معيّنة. غير أن المؤسّسات الأكثر نموذجية في هذا الإطار هي "لجان أخلاقيات البحث العلمي" المكلّفة على الصعيد الأخلاقي بالمُصادقة على بروتوكولات البحث المتعلّقة بالتجارب على البشر. وسواء أكانت مجرّد واجبات تتعلّق بمهنة الطب أم أنها أكثر من ذلك تفضي إلى فكر أخلاقي نظري فعلي، فإن "أخلاقيات البحث العلمي" تشترك مع "أخلاق العيادة" على مستوى المصادر. بفضل استدعائه لمصالح مختلفة وتوافره على مدوّنة خاصة وتكوين تهييئي مناسب، يشكّل هذا الحقل تخصّصاً بيوإتيقياً حقيقياً، بل إن بعض الباحثين يميّزون في إطاره عدّة تخصّصات فرعية: أهمّها الأبحاث التي تُجرى على الأطفال، وأبحاث السيدا، والأبحاث الوراثيَّة...الخ [11]. 

كانت شريعة حمورابي تعتبر الطبيب مسؤولاً مسؤولية كاملة عن أيّ ضررٍ يلحق بالمريض أثناء علاجه. فإذا تسبّب طبيب أثناء الجراحة في موت مريض أو فقد عيناً من عينيه، أو إتلاف أيّ عضو آخر من أعضائه قُطِعَت أصابع الطبيب. أمَّا أجور العلاج فكانت تُراعى فيها الحال الاقتصادية للمريض، بحيث يدفع الفقير أقلّ ممّا يدفعه الثريّ. 

أخلاقيات السياسة الصحيَّة: ويُقْصَد بأخلاقيات السياسة الصحيَّة هنا هو مجموعة القواعد والقوانين والخطط التي تضعها السلطات المعنية وتوجّهها لتحقيق الصالح العام لمجموع السكان من دون تمييز. وتتحدّد أخلاقيات السياسة الصحيَّة في ثلاثة مستويات رئيسية، هي: 

1- الصحة العمومية: وهي التي تهتمّ بالعمل على الوقاية من الأمراض من جهة وتحسين الحال الصحيَّة من جهة أخرى. 

2 - منظومة العلاج: أي المبادئ العامة الموجّهة للسياسة الصحيَّة والتي بموجبها يتمّ تقديم الخدمة العلاجيَّة للمواطنين. 

3 - توزيع الموارد الصحيَّة: وتعني بتوفير الموارد اللازمة للعلاج سواء أكانت موارد بشرية أو مادية وتوزيعها على كافة المناطق الصحيَّة في الدولة، فلا تستأثر منطقة ما بالنصيب الأكبر فتجور على نصيب منطقة أخرى.

وتفصل أخلاقيات السياسة الصحيَّة في القضايا الشائكة التي قد توجدها ظروف انتشار الأوبئة والجوائح في بعض العيادات، مثل: ما هو التصرّف الأخلاقي المثالي إذا لم يكن في الإمكان الاستجابة لكل المطالب للمرضى الموجودين في عيادة واحدة، فمَن سيحظى بسبق الاستفادة؟ كيف يتمّ اختياره؟ وعلى أية الأولويات يمكن اختياره؟ 

كما يهتمّ هذا المبحث بتلك القضايا التي تتطلّب حلولاً مستعجلة لما تتوصّل إليه الاكتشافات العلميَّة والتقنية للباحثين حتى لا تقع في أيدي مَن يسيئون استعمالها تجارياً أو اقتصادياً أو عسكرياً. وهكذا تتعلّق السياسة الصحيَّة بمجموع القوانين والخطط التي تضعها مختلف السلطات لتحقيق خير السكان من دون تمييز. 

نماذج من قضايا الأخلاقيات الطبيَّة الشائكة 

  • نساء أجّرن أرحامهن في عيادة لأحد الاطباء في ولاية غوجارات عام 2011 ، قبل فرض قيود على تأجير الأرحام التجاري في الهند (Getty)
    نساء أجّرن أرحامهن في عيادة لأحد الاطباء في ولاية غوجارات عام 2011 ، قبل فرض قيود على تأجير الأرحام التجاري في الهند (Getty)

نعرض هنا مجموعة من القضايا والتي مثّلت صُلب مبحث "البيوإتيقا" وشغلت معها كثيراً من المشكلات التي أرَّقت الفكر الأخلاقي العالمي لأكثر من ربع قرن، وهي مجموعة من القضايا الطبيَّة التي كان لا بدّ من أن يتمّ تناولها بالتحليل الفلسفي، حتى يمكن إقامة ضرب من التوازن بين القِيَم الأخلاقيَّة والتطوّرات العلميَّة الجديدة، من أجل تغيير نظام قِيَمِنا، وتحليل المشكلات الأخلاقيَّة التي تواجهنا بسبب الهوَّة الواسعة بين فكر الإنسان والتكنولوجيا، ومنها:

1 - المشاكل الأخلاقيَّة التي تطرحها تقنيات الإنجاب الحديثة: أخذ الإنسان يبحث عن طريقة مُثلى يتغلّب بها على مشكلات عدم الإنجاب، فاستطاع العلماء المتخصّصون من التوصّل إلى عدّة طرق يتغلّبون بها على مشكلة العقم لدى أحد الزوجين من خلال تقنيات متعدّدة مثل: الإخصاب خارج الرحم، واستعارة الأرحام، والإخصاب بعد الموت، والتبرّع بالبويضات والأجنّة. ومن ثم يمكننا أن نلقي الضوء على ما تطرحه تلك التقنيات من مشاكل أخلاقية، وبذلك ينشأ مبحث جديد من مباحث فلسفة الأخلاق وهو الأخلاق الطبيَّة وهذا الفرع لا يحلّل فقط وإنما يسعى إلى إيجاد حلول لمواقف عملية، أي أنه ينحو نحو التطبيق من دون الاكتفاء بعملية التنظير. 

أ- الإخصاب الصناعي

الإخصاب الصناعي هو تقنية تقتضي أن يوضع مَنِّي الزوج أو مَنِّي أحد المتبرّعين في المسالك الطبيعية للزوجة في مرحلة التبويض، وقد تمّ اقتراح هذه التقنية للتغلّب على إصابة أحد الزوجين بالعقم أو ضعف يمنع إتمام الحمل. كما تمّ اقتراح هذه التقنية لأهداف أخرى غير معالجة العقم كتلافي نقل أمراض وراثية خطيرة، أو للتغلّب على مناعة الأمّ ضدّ الفئة الدموية لزوجها.

وقد نتجت من هذه التقنية إشكاليات عديدة عملت "البيوإتيقا" على بلورتها، وكشفها وتقديمها للرأي العام دفاعاً عن حقوق الإنسان وكرامته واستحيائه وقدسيّته، حتى تتمّ مناقشاتها لما لها من خطورة على كافة المستويات الحياتية: ماذا لو كان الحيوان المنوي من واهب خلاف الزوج العقيم؟ ماذا لو كانت البويضة من واهبة غير الزوجة العقيمة؟ ماذا لو كان الجنين كله موهوباً من أبوين خلاف الزوجين؟ أليس الإخصاب الصناعي عملية غير طبيعية؟ 

الإخصاب الصناعي مرفوض لأنه يستخدم طريقة الاستمناء. الإخصاب الصناعي يخالف المقاصد والغايات الإلهية من الزواج. 

كما نتج من هذه التقنية تقنية أخرى وهي إنشاء بنوك للحيوانات المنوية، يتمّ فيها حفظ الأفراد لمنيهم بالموازاة مع التطوّر الحاصل في مجال محاربة السرطان فللعلاج آثار جانبية خطيرة، كالعقم عند تناول العلاج، فيكون من حقّه عند تلقّي العلاج أن ينجب باستحضار حيوان منوي تمّ حفظه في البنوك المنوية، الأمر الذي تنتج منه معضلات أخلاقية كثيرة منها: ماذا لو تمّ أن أخذ آخر هذه الحيوانات المنوية لزوج عقيم آخر؟ أليست هذه العملية تجارة للبشر من نوع جديد؟ وهو الأمر نفسه الذي نجده في ما يُعرَف ببنوك البويضات وبنوك الأجنّة والتي سنتناول مشاكلها الأخلاقيَّة في معضلة أطفال الأنابيب. 

ب- أطفال الأنابيب: 

تُعْرَف تقنية أطفال الأنابيب أيضاً بالإخصاب الصناعي خارج الرحم، فبعد أن يتمّ الحصول على منيّ الرجل يتمّ الجمع بينه وبين البويضة في أنبوب زجاجي لأجل إحداث عملية الإخصاب، ثم يقوم الطبيب بإعادة زرع الجنين الذي بدأ يتشكّل في رحم المرأة المريضة، وهناك يستأنف مراحل الحمل الطبيعية [12].  

ورغم محاولة تسويغ هذه العملية في العديد من البلاد الإسلامية التي أجازت هذه التقنية بأن وضعت حدوداً للحالات البسيطة لتطبيقات تقنية طفل الأنابيب. والحال البسيطة نعني بها الزوجة التي تعاني من انسداد في أنابيب البويضات، أو عدم توافق ذاتي، أو خلل في الحركة العكسية لقناة فالوب، أو وجود وسط مهبلي يقتل الحيوانات المنوية، أو أسباب أخرى مثل قلّة عدد الحيوانات المنوية أو قلّة حيويّتها. ووضعت لكل ذلك شروط واضحة محدّدة، وهي أن تكون الحيوانات المنوية من الزوج نفسه، وأن تكون البويضات من الزوجة، وأن يكون استنبات البويضة المخصّبة في رحم الزوجة نفسها. إلا أنه رغم ذلك تنتج منها مشكلات أخلاقية كبيرة تجعل من هذه العملية التقنية مجال اعتراض من الكثيرين مثل: أليست هذه العملية غير الطبيعية انحرافاً عما درج الله الإنسان عليه؟ أليست هذه التقنية معرّضة لحدوث حمل خارج الرحم؟ أليست هذه التقنية تعطى احتمالات كبرى لوجود أطفال مشوّهين بتشوّهات خلقية خطيرة؟ أليس من الممكن استغلال هذه التقنية في نقل منيّ من واهب خلاف الزوج أو بويضة من واهبة غير الزوجة ما يدخلنا في دوّامة اختلاط الأنساب؟ ما مصير الأجنّة الفائضة؟ وما هو مدى مشروعيّة التخلّص منها؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن تكون هناك مشروعيّة لإنتاج أجنّة بشرية خصيصاً للبحث العلمي، ومدى تعارض ذلك مع مبدأ كرامة الإنسان؟ 

ج- تأجير الأرحام:

وهي تقنية تقتضي أن تحمل امرأة ما طفلاً لزوجين، أي أن تحمله بدلاً من امرأة عاقر، وتلتزم بالتخلّي عنه بعد ولادته كي تتمكّن المرأة العاقر أن تتبنّاه، وهنا تنحصر مهمة تلك المرأة ذات الرحم المُسْتأجر أو الرحم المُستعار من دون أن تسهم فيه وراثياً. كما أن هذه التقنية أخذت وجهاً آخر حيث تكون الزوجة في حال عقر تام، فيتمّ إخصاب امرأة معينة بمنيّ زوج المرأة العاقر، وهكذا تحلّ الأمّ البديلة بشكل كامل بيولوجياً ووراثياً محلّ غيرها ... وهنا يكمن العديد من الإشكاليات الأخلاقيَّة منها: أليس من الممكن أن تقوم المرأة ذات الرحم المُستعار بابتزاز الزوجين مادياً أثناء فترة الحمل، بأن يدفعا لها أكثر وإلا ستنهي حملها؟ أليس من الممكن أن تمارس تلك المرأة عادات سيّئة تضرّ بالجنين وتؤثّر على سلامته الصحيَّة بتناولها  المخدّرات أو الخمور أو التدخين؟ أليس من الممكن ألا تقوى عاطفة المرأة ذات الرحم المُستعار على التنازل عن الطفل بعد ولادته، فتمتنع عن تسليمه لأبويه؟ أليس من الممكن أن يستغني الأبوان عن تسلّم طفلهما من الأمّ البديلة بعد ولادته بسبب تشوّه الطفل أو انفصال الزوجين؟ ماذا لو فكّرت أمّ بديلة في أن تحمل في عمّها أو عمّتها، أو خالها أو خالتها، أو في فرد من جيل أجدادها كان مجمّداً لعشرات السنين في بنوك الحيوانات المنوية؟

د- الإجهاض: 

انقسم الناس من الإجهاض إلى ثلاثة أقسام، قسم حرَّمه وجرَّمه وهو ذلك القسم الذي يرى أن حياة الإنسان تبدأ مع منطلق الحمل، ولحياة الإنسان قدسيّة لا يمكن انتهاكها تحت أيّ ظرف من الظروف، بينما يرى آخرون (المدافعون عن الإجهاض) أن الشخص لا يتحدّد فقط بوجود مادة وراثية بشرية، بل يتحدّد بتشكّل الشعور والتعبير عن الأحاسيس والقدرة على التواصل والوعي بالذات والاعتراف الاجتماعي. في حين يرى آخرون أن المرأة هي التي تواجه الصعوبات والمخاطر المرتبطة بالحمل والولادة وأعباء تربية الطفل، وبالتالي فهي وحدها التي يمكنها أن تقوم بتقييم آثار حمل وولادة الطفل على كيانها الجسمي والنفسي. ويمكن أن تؤدّي معاناتها في هذا الإطار إلى الرغبة في التخلّص من حملها [13]. ولما كانت مشكلة الإجهاض هي مشكلة قديمة إلا أن التقدّم العلمي والتكنولوجي قد أثارا مشكلات في مجال "البيوإتيقا" منها: الإجهاض الانتقائي، أي التخلّص من الجنين إذا تأكّدت إصابته بمرض وراثي (مُتلازمة داون أو طفل معوّق أو مشوّه)، والإجهاض بدافع انتقاء جنس الجنين، وإجهاض الأجنّة لاستغلالها في الأبحاث والتجارب العلميَّة.    

2- المشكلات الأخلاقيَّة التي يطرحها إجراء التجارب على البشر: يقصد بـ "التجارب على البشر" إخضاع بعض الأشخاص لتجارب تستهدف اختبار فرضية عن طريق الوقائع التجريبية، لتجربة دواء جديد ومراقبة مفعوله على المرضى أو لفحص طريقة جديدة في العلاج ([15]). وقد قوبلت عملية إجراء التجارب على البشر برفض شديد من قِبَل المجتمع البشري وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حين تمّ فضح مساوئ مثل هذه التجارب في محاكمات نورمبرج Nuremberg عام 1947م كردّ فعل ضدّ التجارب التي أجرتها ألمانيا النازية على المعتقلين في ذلك الوقت. 

وأدّى ذلك إلى قيام الدول الأوروبية بوضع معاهدة تهدف إلى فرض قيود على مثل هذه التجارب تحت إسم "معاهدة نورمبرج"، وكان من أهم بنودها، ألا تتمّ التجربة إلا بعد موافقة الشخص موضوع التجربة، بمعنى أن تكون لديه مقدرة قانونية وعقلية على رفض أو قبول هذه التجربة من دون تدخّل أيّ عامل خارجي يمكن أن يؤثّر على قراره، ولا بدّ من أن تؤدّي التجربة إلى نتائج تهدف إلى خير المجتمع، ويجب ألا تستمر أية تجربة حين يكون هناك سبب قوي للاعتقاد بأنها ستؤدّي إلى موت أو إعاقة موضوع التجربة. 

لكن يمكن أن يحدث ذلك إذا كان الباحث أو الطبيب، هو نفسه موضوع التجربة [15].

ومن ثم سعت البيوإتيقا إلى وضع الكثير من الشروط التي تحكم عمليات إجراء التجارب على البشر وكان من أشهرها: أن يكون متطوّعون حقيقيون وألا يجبروا على القيام بذلك. ألا يكونوا معرّضين لمخاطر حقيقية بل فقط لانعكاسات جانبية خفيفة. وأن يكونوا مُؤَمّنين بشكل صحيح تحسّباً لما قد يحدث من طوارئ. وأن يكون "التطوّع" من دون مقابل مادي وهذا هو الشرط الأكثر أهمية.

هكذا تشترط البيوإتيقا مبدأين لإجراء التجارب على البشر: الأول هو مبدأ "الموافقة الواعية" لمن تُجرى عليهم التجارب من البشر، والثاني مبدأ عدم الإساءة للمرضى.

كما تقتضي العدالة الإنسانيَّة أن يُكافأ المتطوّعون للتجارب العلميَّة بدافع الإيثار والغيريّة بنفس المكافأة التي يُكافأ بها غيرهم.  

3- زرع الأعضاء:  تعدّ مشكلة نقل الأعضاء أو زرعها من أهمّ القضايا التي تتعرّض لها البيوإتيقا، لما لها من أهمية في حياة البشر وإنقاذهم من الموت وتجنّبهم الآلام والمعاناة الشديدة، سواء على المستوى العضوي أو النفسي أو الاجتماعي. ويقتضي زرع الأعضاء انتزاع الأعضاء السليمة من شخص مانح (ميت) كالكلية والقلب والقرنية والعظام لأجل زرعها لشخص (مستقبل). كما يمكن أن يتمّ زرع الأعضاء اعتماداً على مانحين أحياء أو متبرّعين. وهناك مشكلات أخلاقية تتّصل بهذا الموضوع وخاصة من قِبَل المتبرّعين الأموات، فهل الموت هو الموت الطبيعي أو الموت الدماغي أي نهاية الحياة الإنسانيَّة الواعية والمدركة.. ومن ثمّ تمّ وضع العديد من الشروط حتى لا يتطوّر الأمر إلى مافيا سرقة الأعضاء البشرية.

بالنسبة إلى المتطوّع الحيّ: لا يقبل التبرّع إلا بالأعضاء القابلة للتجدّد والتي لن يؤدّي انتزاعها إلى ضرر كبير. وكذلك عدم انتزاع أعضاء لا تتميّز بالتعويض الذاتي. وعدم إجبار أيّ شخص على التخلّي عن عضو من أعضائه الجسدية، وألا يقوم الجرّاحون بزراعة عضو لأيّ شخص قبل التأكّد من موافقة المُتبرّع بصفة شخصية وإتبّاع كافة الأساليب القانونية لذلك. كما ألا تتمّ عمليات نقل أعضاء من أشخاص مجهولين.

4- الموت الرحيم: يعدّ مُصطلح الموت الرحيم Euthanasia  كلمة مستعارة من اللغة الإغريقية القديمة وهي مكوّنة من مقطعين Eu"" أيّ الموت، وThanasia"" أيّ برفق وراحة، أمَّا معناه الاصطلاحي فهو ذلك الفعل الذي يؤدّي إلى وضع نهاية لحياة شخص مصاب بمرض عضال لا يُرجى شفاؤه وذلك رحمة به وشفقة عليه من استمرار معاناته. إنه فعل إماتة رحيمة يساعد المرضى الميؤوس من علاجهم على موت مريح وهادئ وخال من الألم [16].  

ويطرح هذا المبحث إشكاليات متعدّدة منها: متى يمكننا أن نمدّد حياة مريض يوجد على مشارف الموت؟ عند ندرة الموارد على أية أسس نفضّل مريضاً على آخر بحيث يموت مريض ليحيا آخر؟ هل يمكن إدراج الحق في الموت في إطار حقوق الإنسان؟ متى يمكننا أن نستجيب لرغبة شخص يطالب بالموت؟ 

وتتأرجح المشاكل الأخلاقيَّة التي يطرحها الإصرار على مواصلة العلاج بين موقفين: الأول يدافع عن قدسيّة الحياة ويعبّر عن رفضه المطلق لتوقّف الحياة في جميع الحالات والظروف، والثاني يؤكّد احترام رغبة المريض وذويه وذلك انطلاقاً من مبدأ حرية الاختيار والاستقلال الذاتي للفرد.

ولكن تبقى الحياة الإنسانيَّة مقدّسة والموت الرحيم مهما كانت مبرّراته يظلّ نوعاً من الاعتداء على الحياة الإنسانيَّة، ومن ثم كان اللجوء إلى حلّ وسطي أمراً ضرورياً وهو ما توصّل إليه بعض الباحثين وعُرِف في ما بعد بـ"المرافقة"، وتعني أن يُحاط المرضى بتلك الأمراض التي لا يُرجى شفاؤها بالأقارب والأصدقاء والمحبّين وبطاقم طبي يساعده متطوّعون. فإن هذا يخفّف عليهم من وطأة اللحظات الأخيرة. ولكن تبقى هنا معضلة وهي ماذا ما لم يتوافر هؤلاء؟ ألا يكون القتل الرحيم أهوَن من الانتحار في بعض الحالات؟

5- الاستنساخ:  تقنية فحواها إمكان إنتاج نسخة طبق الأصل من كائن ما، مستخدمين خلية منه، وبويضة من كائن آخر من نفس النوع، ليكون بمثابة جنين يُزرَع في رحم مستعار. أي أن الوراثيين بإمكانهم الآن تخليق جينات جديدة معملياً، واستحداث تباينات في الجينات المعروفة والتي هي نتيجة طبيعية لتطوّر الحياة، أي أن الأطقم الجينية لصوَر الحياة المختلفة يمكن أن توضع على مائدة العمليات الوراثيَّة لتصبح مطوّعة للجراحة الوراثيَّة لتغيير وظائفها البيولوجية من أجل تبديل الإمكانات الوراثيَّة للكائن الحيّ. إما لتخليق صفات مرغوبة، كالذكاء والنبوغ والمواهب والمَلَكات الفائقة، أو لإضافة خاصيّة أو صفة لم يكن يمتلكها من قبل بالتحكّم في التشكّل والنمو وإنتاج الإنسان العملاق Gigantic Man [17].

وهكذا أمكن العَبَث بأهمّ خصوصيات الإنسان وهي شفرته الوراثيَّة، فقد سيطرت موجة من الذعر الشديد على كافة المخلوقات البشرية في العالم عقب ظهور صورة "العنزوف" على غلاف مجلة " Nature"  عام 1983، وهو حيوان يجمع بين جنس العنز وجنس الخروف. إذن بات بالإمكان التلاعُب بالجينات، وإنتاج النسخ من الكائنات الحيّة عن طريق خلية مُنتزعة منها. 

وعلى الرغم من الرفض الشديد الذي قوبلت به هذه التقنية والتنديد بتطبيق هذه التكنولوجيا على البشر، إلا أن هناك مَن يؤيّدون استخدامها من دون وضع حدود أو قيود عليها. بل هناك مَن يدافعون عنها ويدعون إلى تطبيقها لما لها من فوائد شخصية "فاستنساخ البشر سيتيح للنساء اللاتي بلا بويضات، والرجال الذين بلا حيوانات منوية أن ينجبوا ذريّة لها علاقة بيولوجية بهم، كما سيمكن الزوجين أيضاً الذين يكون أحدهما مصدر خطر لنقل مرض وراثي خطير من أن ينجبوا من دون التعرّض لهذا الخطر [18].

وإذا كانت هذه التقنية تمثّل تقدّماً علمياً هائلاً يمكّن البعض من تحقيق سعادتهم وأمانيهم عن طريق الإنجاب، وكذلك عن طريق تلافي نقل بعض الأمراض الوراثيَّة إلى ذريّتهم المُستنسخة، فإن هناك العديد من الباحثين مَن يعتبرها نتاج الغطرسة العلميَّة [19]، فهي تقنية تفتقد إلى مبرّرات شرعية لوجودها. كما إنها تخلّف العديد من المخاطر الجسيمة، فهي ستخلّف نسخاً طبق الأصل من البشر، ما يلغي واحدة من أهمّ الخصائص التي خصّ بها الخالق سبحانه وتعالى المادة الوراثيَّة وهي المقدرة على إحداث التباين بين الأفراد ليصبح كل فرد من بين كافة البشر، وإلا لما كان للحياة معنى. ولنا أن نتخيّل كيف يكون شكل الحياة لو أن الله خلق كل البشر طبق الأصل من بعضهم. كما أن الأفراد المُستنسخين سيعانون من مشكلات الشيخوخة المُبكرة وهو الأمر الذي تسبّب في موت النعجة (دولّلي) قبل الأوان. كما يعمل الاستنساخ على حرمان الفرد المُستنسخ من عائلة حقيقية وهويّة مميّزة، فيقضي على مفهوم الوالدية فلا حاجة في ظلّ تطوّر كهذا إلى وجود الأب أو الأمّ، وبالتالي إلغاء مفهوم العائلة والأمومة والإرث والزواج.. وغيره. 

كما يعمل الاستنساخ على تهديد الأجيال القادمة بالفقر البيولوجي وبالانقراض؛ لفصل الإنجاب عن الجنس. وتحويل الإنسان إلى كائن مصنوع سيفقد الخصائص البشرية بالتدرّج [20].

 كما حذَّر البعض من حدوث تسرّب كائنات خطيرة "ميكروبات أو فيروسات" من أحد معامل الهندسة الوراثيَّة، فإن أحداً لن يستطيع محاصرتها أو وقفها، أو استخدامها في تقنية الهندسة الوراثيَّة في الحروب[21].

تتمثل الغاية الأساسية لــ "البيوإتيقا" في اقتراح المبادئ الأخلاقيَّة التي يجب أن تنظّم ممارسة الأطباء والعاملين في ميادين الطب والبيولوجيا والصحّة، إلا أن هذه المبادئ تتجاوز المستوى الطبي/البيولوجي كي تشكّل نواة للتفكير في كيفيّة تنظيم أخلاقي وقانوني مُتّفق عليه - نسبياً - للممارسة والبحث العلميين، ولكل الممارسات المهنية بشكل عام؛ ووسيلة لتدعيم حقوق الإنسان والحفاظ على بيئته، وحمايته من تجاوزات العلماء والباحثين، خاصة وأن هذه المبادئ تتعلّق بقضايا تهمّ الجميع مثل صون كرامة الإنسان والحفاظ على وحدته وهويّته، ومراعاة العدالة والإنصاف في إطار استفادة كل أفراد المجتمع من العلاجات الطبية، ومن كل فوائد التقدّم العلمي/التكنولوجي في المجال الطبي/البيولوجي، وكذا احترام حقّ الفرد في الاختيار واستقلاله الذاتي وحقّه في تقرير مصيره بنفسه في ما يتعلّق بحياته أو موته أو ذاته بشكل عام.      

 كما أنَّ الاستنساخ سيخلق شكلاً من أشكال اللا مساواة بين الفرد المنسوخ والفرد العادي، فإذا حدث وكان الفرد المنسوخ أكثر ذكاء وعبقرية من الإنسان العادي، فإنه سيحتلّ مكانه في كل شيء – في المدرسة والجامعة والمصنع والعمل- وهو ما يعني أن الآباء الأغنياء سيحاولون بفضل المال الحصول على أطفال لم يكن بمقدورهم إنجابهم في الظروف العادية، وهذه الإمكانية لا تتحقّق لباقي الآباء الفقراء. كما سيؤدّي هذا إلى وجود شركات خاصة لصنع الأفراد المُستنسخين. ومَن يدرينا ألا يكون هؤلاء المُستنسخون على شاكلة هتلر أو موسوليني.. فإذا كان من حقّ البعض أن يكون لديه أولاد، فيمكنه تحقيق ذلك من خلال الإخصاب الصناعي داخل الرحم أو خارجه، وإن كنا نضع في اعتبارنا أيضًا بعض المخاطر الاجتماعية والقانونية التي نراها في ذلك، لكننا نعتقد أنها أقلّ وطأة من عواقب الاستنساخ [22].

وهذا ما حدا بالأنظمة التشريعية في العديد من البلدان إلى أن تسنّ القوانين التي تحدّ وتنظّم القيام بأبحاث الهندسة الوراثيَّة، وبذلك تهدّئ من رَوْع البشرية وقلقها.

وقبل ختام هذه الورقة البحثية نتوقّف قليلاً عند ما يميّز البيوإتيقا كفكر أخلاقي جديد، وهو تخلّصها من الطابع الديني وسعيها أن تكون مقاربة علمانية، وتتناسى تماماً الدور الفعّال للدين في نفوس البشر. كما يعكس هذا البحث مدى قدرة الفلسفة في كل عصر مهما كانت التغيّرات على القيام بواجبها أمام هذه الأخطار التي تهدّد البشرية، فلم تقف موقف المُتفرّج إزاء هذه المشكلات وبرهنت على أنها متجدِّدة وحيوية وقادرة على مسايرة العصر.

خاتمة

  • يطرح الموت الرحيم العديد من الإشكاليات الاخلاقية، منها أنه قد يكون أهوَن من الانتحار في بعض الحالات
    يطرح الموت الرحيم العديد من الإشكاليات الاخلاقية، منها أنه قد يكون أهوَن من الانتحار في بعض الحالات

هكذا ينتهي بنا بحث موضوع الأخلاق الطبية والحيوية في ظلّ تحديات الثورة العلمية والتكنولوجية إلى عدّة نتائج، أهمّها:

أولاً: نشأت الأخلاق الطبيَّة والحيويَّة كاعتراض فلسفيّ على جموح التطوّرات العلميَّة الحديثة في مجالات الطب والبيولوجيا، غير عابئة بانتهاك قداسة الجسد الإنساني. ونشأت بشكل رسمي – رغم إيغال إرهاصاتها في التاريخ – مع بداية سبعينيات القرن الماضي؛ حيث استُخدم لفظ البيوإتيقا لأول مرة عام 1970م من قِبَل العالم الأميركي فان بوتر في مقالته المُعنوَنة بـــ "البيوإتيقا عِلم البقاء". وقد حرصت في المقام الأول على ضرورة الامتناع عن كل ما يهدّد بانتهاك الكرامة الإنسانيَّة أو بإحداث التغيير في الطبيعة الإنسانيَّة.

ثانياً: إن الأخلاقيات الطبيَّة والحيويَّة ليس المقصود منها فقط أخلاقيات الطبيب أو أخلاقيات عالم البيولوجيا، وإنما المقصود بها تلك الدراسة الفلسفيَّة للجدل الأخلاقي حول التطبيقات البيولوجية والطبيَّة، وما ترتّب على هذه التطبيقات من تدخّلات بالغة الحساسية على الجسد الإنساني، خاصة بعد التقدّم الكبير الذي أحرزته العلوم البيولوجية والطبيَّة وما أفرزته من إشكاليات ومسائل أخلاقية لا تتعلّق بمجالات علوم الحياة والتكنولوجيا الحديثة في عِلم الطب فحسب، بل بمجالات عديدة أخرى مثل السياسة والقانون والدين إلى جانب الفلسفة. فكان من الطبيعي أن تثير مناقشات عميقة لقضايا فلسفية أصيلة ترتبط بالذات، والشخص، والحياة، والموت، والوجود، والمصير، والعلاقة مع الآخر.. إلخ. وهي أهمّ المشاكل التي يهتمّ بها الفكر الفلسفي عبر تاريخه وحتى يومنا الراهن.

ثالثاً: تعكس هذه الورقة البحثية أهمّ الموضوعات التي تهتمّ بتناولها الأخلاقيات الطبيَّة والحيويَّة، وأهمّها: الإنجاب ومدى مشروعيّة عمليات تتعلّق به مثل: الإجهاض والاتّجار أو التبرّع بالسائل المنوي، والإشكاليات الأخلاقية حول تأجير الأرحام. ومناقشة مدى مشروعية تعقيم المعوّقين والتدخّل لتحسين النسل وعمليات التحويل الجنسي. ونقل الأعضاء بين الأحياء والموتى ومدى مشروعية الاتّجار بالأعضاء وتبعات ذلك. ومدى مشروعية التجريب على الأشخاص والأجنّة البشرية، ومشروعيّة الاستنساخ البشري على وجه الخصوص. وكذلك الموقف الأخلاقي من القتل الرحيم أو ما يُعرَف بالمساعدة على الانتحار، ومتى تبدأ حياة الإنسان بالمعنى الدقيق ومتى تنتهي؟ ومتى تكون للإنسان حقوق أخلاقية؟ ومناقشة الإشكاليات المترتّّبة على عمليات التجميل، وخاصة التي لا يكون هدفها فقط تدارك العيوب أو القضاء على التشوّهات، بل لمجرّد الاستجابة لرغبات الأشخاص وإدامة مظاهر الشباب. ولذلك كان من الطبيعي أن تثير إشكاليات أخلاقية تثير اليوم وعلى كافة الأوساط الكثير من الجدل الفلسفي والقانوني.

رابعاً: نبّهت الأخلاقيات الطبيَّة والحيويَّة العالم إلى خطورة الأبحاث الطبية/ الحيوية بشكل خاص والأبحاث والتجارب العلميَّة بشكل عام، ليس على حاضر البشرية فحسب، بل ومستقبلها أيضاً. فحقوق الأجيال القادمة من أهمّ أولويّات البيوإتيقا وعلى رأس هذه الحقوق الحفاظ على هوية الإنسان والتنوّع الإنساني، فهذا الحقّ يتعرّض حالياً للانتهاك، خاصة في إطار التصرّف في الجينات الحاصل في مجال الهندسة الوراثيَّة، وما يصاحبها من تفكير في استنساخ الإنسان. 

خامساً: أثارت الأخلاقيات الطبيَّة والحيويَّة إشكالية أخلاقية فلسفية كبيرة هي: قدسيّة الجسد الإنساني في مقابل حرية البحث العلمي، حيث تبلورت هذه الإشكالية من خلال التساؤل: هل نمنع البحث العلمي من الاستمرار في طريق تقدّمه، مع أن تقدّمه هذا يهدّد قِيَماً إنسانيَّة لها ما يشبه القداسة، أم نتركه يواصل تقدّمه من دون قَيْد أو شرط حتى لا نضحّي بحرية البحث العلمي؟ أم نضع بعض القيود الأخلاقيَّة والدينية والفلسفيَّة والاجتماعية التي تضبط الجموح العلمي، لأن العِلم بلا أخلاق يصبح مدمّراً؟

قائمة المصادر والمراجع

أولاً: المراجع العربية والمترجمة

- أحمد عبد الحليم عطية، الفكر الأخلاقي الجديد، القاهرة، دار الثقافة العربية، 2006.

- أحمد عبد الحليم عطية، الأخلاقيات الحيوية الطبية، القاهرة، مجلة أوراق فلسفية، العدد 36، 2013.

- جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة عادل العوا، بيروت، عويدات للنشر والطباعة، 2001.

- عبد الرازق الدواي، حول إشكالية ميلاد مفهوم جديد، مقالة بكتاب "المفاهيم تكوّنها وسيرورتها" منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانيَّة في الرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 87.

- عمر بوفتاس، البيوإتيقا– الأخلاقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا، الدار البيضاء، دار افريقيا الشرق، 2011.

- عمر بوفتاس، البيوإتيقا– نحو فكر أخلاقي جديد، القاهرة، مجلة أوراق فلسفية، العدد 36، 2013. 

-  كمال نجيب الجندي وآخرون، الفلسفة وقضايا العصر، القاهرة، طبع وزارة التربية والتعليم، 2015-2016.

- مارتسي.نسبوم، كاس. ر. سانشتين، استنساخ الإنسان: الحقائق والأوهام، ترجمة مصطفى إبراهيم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003.

- مختار الظواهري، مقدّمة كتاب: ناهدة البقصمي، الهندسة الوراثيَّة والأخلاق، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يونيو1993.

- ناهدة البقصمي، الأخلاق والهندسة الوراثيَّة، الكويت، سلسلة عالم المعرفة(174)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يونيو/حزيران 1993.

- وجدي خيري نسيم، الفلسفة وقضايا البيئة- أخلاق المسؤولية (هانز يوناس نموذجاً) ، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2009.

Hans Jonas, Ethics and Biogenetic Art, in Social Research, Vol. 52, No.3, 1985.                                  

Lewis, M.A, Law and Ethics in the Medical Office  F.A Davis Company Philadelphia, 1983.                            

ثانياً: المراجع الإلكترونية

- عمر بوفتاس، الأخلاق التطبيقيَّة ومسألة القِيَم، المغرب، مجلة الإحياء، الرابطة المحمّدية للعلماء، على الرابط  الإليكتروني التالي: 

http://www.alihyaa.ma/Article.aspx?C=5636

- عمر بوفتاس، موقع "البيوتيقا" في إطار المعرفة الإنسانيَّة المعاصرة ، مقال إلكتروني تمّ الإطّلاع عليه في 23/12/2021 على الرابط الإلكتروني التالي: http://belkis73.arabblogs.com/archive/2008/4/532571.html                                                

 [1] ناهدة البقصمي، الأخلاق والهندسة الوراثيَّة، الكويت، سلسلة عالم المعرفة(174) المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، حزيران/يونيو 1993، ص38-39.
 [2] عمر بوفتاس، البيوإتيقا – نحو فكر أخلاقي جديد ، القاهرة ، مجلة أوراق فلسفية، العدد 36، 2013، ص 5.
 [3] نقلاً عن عمر بوفتاس، الأخلاق التطبيقيَّة ومسألة القِيَم، المغرب، مجلة الإحياء، الرابطة المحمّدية للعلماء، على الرابط التالي: http://www.alihyaa.ma/Article.aspx?C=5636
 [4] عمر بوفتاس، البيوإتيقا – نحو فكر أخلاقي جديد ، ص 7.
 [5] نقلاً عن أحمد عبدالحليم عطية، الفكر الأخلاقي الجديد ،القاهرة، دار الثقافة العربية، 2006،  ص 235.
 [6] المرجع السابق، ص 235. وانظر أيضاً: جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة عادل العوا، بيروت، عويدات للنشر والطباعة، 2001، ص 110 وما بعدها.
 [7] عمر بوفتاس، موقع "البيوتيقا" في إطار المعرفة الإنسانيَّة المعاصرة، مقال إلكتروني تمّ الإطلاع عليه في 23/12/2021 على الرابط الإلكتروني التالي: http://belkis73.arabblogs.com/archive/2008/4/532571.html                                         
 [8] أحمد عبدالحليم عطية: الأخلاقيات الحيوية الطبية، القاهرة، مجلة أوراق فلسفية، العدد 36، 2013، ص 27.
(*) ومنهم على سبيل المثال عمر بوفتاس في كتابه: البيوإتيقا – الأخلاقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا، الدار البيضاء، دار افريقيا الشرق، 2011. ويتابعه في ذلك أحمد عبدالحليم عطية في مقالته الموسومة " الأخلاقيات الحيوية الطبية"، مرجع سابق. 
 [9] عمر بوفتاس، البيوإتيقا: نحو فكر أخلاقي جديد، ص18.
 [10] أحمد عبدالحليم عطية، الأخلاق الحيوية الطبيَّة ، ص 28.
 [11] عمر بوفتاس،  البيوإتيقا، نحو فكر أخلاقي جديد، ص21.
 [12] المرجع السابق، ص38.
 [13] المرجع السابق، ص 36-37..
 [14] المرجع السابق، ص 31.
 [15] ناهدة البقصمي، الهندسة الوراثيَّة والأخلاق، ص 50. وأنظر أيضاً : Lewis, M.A:" Law and Ethics in the Medical Office " F.A Davis Company Philadelphia,1983,p.117.                                                                               
 [16] عبدالرازق الدواي، حول إشكالية ميلاد مفهوم جديد، مقالة بكتاب "المفاهيم تكوّنها وسيرورتها" منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانيَّة بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 87، ص 27.
 [17] مختار الظواهري، مقدّمة كتاب: ناهدة البقصمي، الهندسة الوراثيَّة والأخلاق، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يونيو1993، ص 17. 
[18] مارتسي.نسبوم، كاس. ر. سانشتين، استنساخ الإنسان: الحقائق والأوهام، ترجمة مصطفى إبراهيم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2003، ص 144، 145. 
[19] Hans Jonas, Ethics and Biogenetic Art, in Social Research, Vol. 52,  No.3, 1985, p. 491.                                     وانظر أيضاً: وجدي خيري نسيم، الفلسفة وقضايا البيئة- أخلاق المسؤولية (هانز يوناس نموذجا)، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2009، ص128.
 [20] كمال نجيب الجندي وآخرون، الفلسفة وقضايا العصر، القاهرة، طبع وزارة التربية والتعليم، 2015-2016، ص25.
 [21] مختار الظواهري، مقدّمة كتاب ناهدة البقصمي: الهندسة الوراثية والأخلاق، ص 18.
 [22] وجدي خيري نسيم، الفلسفة وقضايا البيئة، ص 128-129.