كينيث وايت: شاعر رحّال يسكن الأرض بطريقة شعرية

مشروعه الشعري جزء من حركة فلسفية وعلمية أظهرت الحاجة إلى الخروج من الميتافيزيقا الثنائية والقطيعة الأنطولوجية بين الإنسان والعالم.. من هو كينيث وايت؟

  • كينيث وايت
    كينيث وايت

في ترحاله الشعري والفكري يتصيّد كينيث وايت الجمال والبساطة المُعقّدة في التفاصيل الصغيرة للطبيعة ويقدّمها في قالبٍ شعري بخلفيّةٍ فلسفية شرقية وغربية. فمَن يكون عَرَّابُ الجِيُوپُوِيتيقا هذا؟

وُلِدَ الشاعر والمفكِّر الأسكتلندي كينيث وايت Kenneth White في غلاسكو عام 1936 لعائلة بروليتارية كانت تتميّز في التقليد الأسكتلندي الجيّد بوعي سياسي وثقافي. كان في الثالثة من عُمره عندما انتقلت عائلته إلى ساحل المحيط الأطلسي جنوب غلاسكو في قرية فيرلي الصغيرة، حيث عاش طفولة ومراهقة سعيدتين متجوّلاً خلالهما بمفرده على الشاطئ وفي المناطق النائية المُشْجِرة.

هناك، أمضى وقته في انسجام مع العالم الطبيعي، والأشجار، والحجارة، والحيوانات، وخلق طقوساً سيكتشف لاحقاً أنها ديانات طبيعية مثل الشِّنْتُو الياباني؛ كان يمارس الشَّمَانِية تلقائياً، يقرأ كثيراً ويكتشف أولئك الذين سيصبحون "رفقاء سفره" الرئيسيين كرامبو، ويتمان ونيتشه، فيما اكتشف في الوقت نفسه النصوص العظيمة للهندوسية والبوذية.

عاد إلى غلاسكو لِيَدْرُسَ في الجامعة - الفرنسية، والألمانية، واللاتينية والفلسفة - ما دفعه إلى البقاء في ألمانيا حيث واصل قراءة نيتشه، نوڤاليس، هولدرلين، ريلكه وهايدغر، وبعدها في فرنسا، بلاد سيغالين، وبروتون، وآرتو، ورامبو. كان طالباً متمرّداً ولامعاً.

في العام 1963، أصبح أستاذاً مساعداً في جامعته، وعلى مدى السنوات الأربع التالية قام بتدريس موسوعيي القرن الــ 18 والشعراء الفرنسيين في القرن العشرين. نشر في لندن مجلّدين من القصائد، النسخة الإنكليزية من "رسائل من غورْغونِيل"، ومجلّدين من ترجمته لقصائد أندريه بروتون، بما في ذلك قصيدته "نشيد إلى شارل فوريي".

وبسبب معارضته الاتجاه الذي اتّخذته بريطانيا في مجال النشر والتعليم والمشهد الثقافي بشكل عام، استقال من منصبه بعد 4 سنوات، وعاد في عام 1967 ليستقرّ في فرنسا مع زوجته ماري كلود، التي أصبحت مترجمته الرئيسية (يكتب مقالاته باللغة الفرنسية ولكنه يظلّ مخلصاً للغة الإنكليزية السحرية بسبب نثره القصصي وشعره). كما يعود له الفضل في نحت مفهوم "الجِيُوپُوِيتيقا/ الجِيُو- شِعرية" في سبعينيات القرن الماضي، حيث واصل تطويره في العديد من مقالاته وكتبه وأشعاره. 

استقرّا أولاً في پُّو، ثم في منطقة بريطانيا الفرنسية في عام 1983، بالقرب من تْرِيُبورْدَن، في كُوتْ دَارْمُور. عندما عاد كينيث وايت إلى فرنسا تلك السنة، شغل منصب محاضر، وهو موقع هامشي خصوصاً بالنسبة إلى الأطروحة المميّزة التي أعدّها حول "التِّرْحَال الْفِكْري"، وناقشها عام 1979 أمام لجنة علمية (كان جيل دولوز أحد أعضائها).

يشكّل مشروع كينيث وايت الشعري بمعناه الأوسع جزءاً من الحركة الفلسفية والعلمية والجمالية الواسعة التي أظهرت، منذ بداية القرن العشرين على الأقلّ، الحاجة إلى الخروج من الميتافيزيقا الثنائية، ومن القطيعة الأنطولوجية بين الإنسان والعالم. تلك القطيعة التي سمحت بالتقدّم المطرد للعلوم والتكنولوجيا، والمسؤولة أيضاً، وبشكل كبير، عن الحال العصبية التي تؤثّر على حضارتنا وعلى الأفراد.

وفي العام 1983، عُرِض عليه كرسي شعراء القرن العشرين في جامعة "السوربون" حيث قدّم بعض الشعراء الأنجلوفونيين في القرنين التاسع عشر والعشرين، وخاصةً الأميركيين الذين كانوا، بشكل أو بآخر، قريبين منه (والت ويتمان، ويليام كارلوس ويليامز، ولاس ستيفنز، غاري سنايدر) ليرسم حولهم خريطة ثقافية، كما أنه أدار حلقة دراسية طوَّر من خلالها، بكل حرية، الموضوعات المختلفة لرحلته الفكرية.

إلى جانب إلقاء المحاضرات والقراءات الشعرية في فرنسا والخارج، واصل كتابة ونشر النثر، والسِيَر ذاتية، والمقالات والأشعار، والتي نال عن بعضها جوائز مرموقة، بما في ذلك "جائزة ميديتشي للأدب الأجنبي" عن كتابه "المَحَجّة الزرقاء" (1983)، و"الجائزة الوطنية الكبرى من الأكاديمية الفرنسية" (1985).

قرّر عام 1996 الانسحاب من الجامعة للتفرّغ بالكامل لإبداعه، ولتطوير "المعهد الدولي للجيوبويتيقا" الذي أسّسه في باريس عام 1989، وفتح له فروعاً في بلدان عدّة بهدف تأسيس علاقة جديدة بين الإنسان والكون، إذ يقول وايت: "ليس التواصل بين الإنسان والإنسان هو الأهمّ، بل التواصل بين الإنسان والكون، اجعل الناس على اتصال مع الكون، وسوف يتواصلون مع بعضهم البعض".

لكينيث وايت أعمال شعرية ونثرية كثيرة، من بينها: "أرض الألماس" (1983)، و"ضفاف الصمت"، (1997)، و"حدود وهوامش" (2000)، و"الممر الخارجي" (2005)، "المَحَجّة الزرقاء" (1983)، و"الفكر الرَّحَّال" (1983) فضلاً عن "حوار مع دولوز" (2007)؛ و "هضبة القطرس: مدخل إلى الجيوپويتيقا (2018)".

كينيث وايت مؤلّف عمل متعدّد وواحد في الآن نفسه، وهو واحد من بين أقوى الأعمال في عصرنا. أفرد وايت للنشاط الشعري منذ البداية دوراً رئيساً وضرورياً في حياة المجتمع البشري - ومن غير وجود نماذج يجب تقليدها -، يشير بشكل صريح على سبيل المثال: إلى دور الشعر الهوميروسي في الثقافة اليونانية، وكذا في الثقافة الأكثر بدائية، إلى دور الشَّامَان في جماعة بَّالْيُوثِيَة ونْيُولِيثِيَة.

إن نقطة انطلاق المشروع التي تناولها في مختلف أشعاره ونثره وحتى في محاضراته كذلك، هي الطاقة الأولية: الطاقة البشرية، طاقة الطبيعة، الطاقة الكونية، بحكم التعريف فالكون هو "كُلٌّ جميل" حيث تلتقي الأضداد الأولية. على سبيل المثال في اللوحة الصينية الكلاسيكية العظيمة حيث العناصر الطبيعية تعبّر عن الزائل والدائم، المتحرّك والصلب، الماء، السحب والصخور، الغابات والمعادن، والمنفصلة تماماً عن المنظور الإنساني الموجود في الثقافة الغربية منذ عصر النهضة.

في ترحاله الشعري والفكري يتصيّد كينيث وايت الجمال والبساطة المعقّدة في التفاصيل الصغيرة للطبيعة، من أحجار، أشجار، صخور وطيور برية وبحرية.. يقدّم، هذا الشاعر/ المفكّر المُتَفَرِّد العالم والطبيعة في قالب شعري بخلفية فلسفية شرقية وغربية.

وتظهر قصائد كينيث وايت عَظَمَة العالم المادي. لمنح صوت للخارج، يتنحّى الشاعر جانباً ويكشف أن العالم هو أيضاً نظام وجمال، كما يقول في:

الجمال في كل مكان

حتى

في البيئة

الأكثر بشاعة وعدائية

في منعطف زاوية

في عيون

وعلى شفاه

غريب

في أكثر المناطق فراغاً

حيث لا يوجد أمل

حيث وحده الموت

يدعو القلب

الجمال في كل مكان

يظهر

غير مفهوم

متعذّر التفسير

ينشأ وحيداً وعارياً

وما يجب علينا تعلّمه هو

كيف نستقبله

فينا.

يشكّل مشروع كينيث وايت الشعري بمعناه الأوسع جزءاً من الحركة الفلسفية والعلمية والجمالية الواسعة التي أظهرت، منذ بداية القرن العشرين على الأقلّ، الحاجة إلى الخروج من الميتافيزيقا الثنائية، ومن القطيعة الأنطولوجية بين الإنسان والعالم. تلك القطيعة التي سمحت بالتقدّم المطرد للعلوم والتكنولوجيا، والمسؤولة أيضاً، وبشكل كبير، عن الحال العصبية التي تؤثّر على حضارتنا وعلى الأفراد.

تعمل هذه الحركة الواسعة متعدّدة التخصّصات على الاقتراب من حقيقة أكثر جوهرية، وهي حقيقة تدرك وجود قوى غير مرئية وروابط بين الإنسان والعالم، بحيث يتّضح هذا الواقع في الرسم التجريدي (كما هو الأمر لدى كاندينسكي، موندريان، والتعبيريين الغنائيين الأميركيين)؛ في موسيقى كل من يَانِيس كْسِينَاكِيس Xenakis وشْتُوكْهَاوْزَن Stockhausen، اللذان يصرّحان أيضاً أنهما يسعيان إلى الإمساك بهذه القوى الكونية؛ في فينومونولوجيا هوسرل وهايدغر، وخاصةً في الإبستيمولوجيا ما بعد الكوانطية التي تَحَدَّت، في مستوى معيّن من الواقع، المنطق الثنائي الأرسطي.

يشكّل مفهوم "الفراغ" أهمّ وأعمق ما يجده "التِّرحَال الْفِكْري" لكينيث وايت في الفلسفات الشرقية، وخاصةً في الطاوية والبوذية. ذلك "الفراغ" الذي يحضر فيه الترابط القائم بين كل الأشياء في العالم المخلوق (والتي ليس هناك شيء آخر غيرها). ذلك "الفراغ" الذي يشكّل انفتاحاً للذات على الخارج الذي تنتمي إليه.

قد لا نبالغ إن قلنا إنه يصعب على قُرّاء كينيث وايت استيعاب مضامين أشعاره ومقالاته وكتبه ومحاضراته، إذا لم يكونوا مسلَّحين بمرجعية فلسفية متينة؛ بحكم الخلفية الفلسفية التي تؤطّر أشعاره ومقالاته وكتبه على نطاق واسع، انطلاقاً من هيراقليط، بارمينيدس، أفلاطون، دونز سكوت، سبينوزا، ديفيد هيوم، كانط، هيغل، نيتشه، شوبنهاور، هوسرل، هَايْدِغر وميرلوبونتي، يقتبس من/ ويحاور أفكار فوكو، دريدا، ميشيل سِير وجيل دولوز. 

***

الأيام الأخيرة للأكاديمية 

بأمر من المسيحي

أُغْلِقَت الأبواب 

لذلك ذهب هؤلاء السبعة 

إلى المنفى

دَامَاسْيُوس السوري

سِيمپْلِسْيُوس القِيْلِيقِي

يُولاَمْيُوس الفْرِيجِي

هِيرميس وديوجين، الفينيقيّان 

وإزيدوروس، الذي كان مِن غزَّة

ذهبوا أولاً إلى بلاد فارس

ثم تفرّقوا 

كل واحد منهم،

يتقدَّم وحده في الفراغ.

(أَثِينَا، القرن ٦م)

***

يحاول "التِّرحَالُ الْفِكْرِي" الذي يدعو إليه كينيث وايت، الهروب من علامات تَشْوير" طريق الغرب السَّيار" المرسوم في خط مستقيم منذ أرسطو، من أجل رسم طرق بديلة للعبور إلى جميع الثقافات لمعرفة كل أبعادها من أجل زيادة الإحساس بالحياة.. ولا يتظاهر هذا "التِّرْحَال" بالهروب من كل تكييف وإنما على العكس من ذلك، فهو يبحث عن أفضل الظروف لأفضل تكييف ممكن، بغرض العمل على خلق مساحة للتنفّس وللتركيز... فـــ "ليس الرَّحَّالَة الْفِكْري، يقول وايت، مثقّفاً مثالياً على الطريقة الأفلاطونية، ولا مثقّفاً ملتزماً بالمعنى الوجودي السَّارْتْرِي، ولا هو مطلقاً فيلسوف إعلامي يعلّق على الأحداث، وإنما هو رَحَّالَةٌ فِكْرِيٌّ واعٍ تماماً بـ "العدمية السلبية" -كما يسمّيها نيتشه - الحالية، فلم يعد أحدٌ يؤمن بالتقدّم أو بالتاريخ؛ ولم يكن الإنتاج الثقافي على نفس القَدْر من الأهمية من حيث الكمّ، أو الرداءة من حيث الكيف، وفراغ الضمائر مليء بالترَّهات؛ فمنذ أواخر القرن التاسع عشر فضّلت بعض العقول النيِّرة، من قبيل: فريدريك نيتشه، وآرثور رامبو، مغادرة " طريق الغرب السَّيار" هذا، من أجل رسم طرق بديلة للعبور، ومن جهتي أحاول تمديد طرق العبور هاته لاستعادة ما لم يتمّ تدميره بعد ومحاولة اقتراح شيء آخر".

هناك فكرة شائعة مفادها أنه إذا أردنا " التفكير"، فيجب أن نتّجه صوب الفلسفة، بحيث يكون الفيلسوف هو وحده الممثل الرسمي للفكر، بينما ينحصر الشعر في الإحساس، الفنتازيا والمتخيّل. إن التمسّك بهذه الفكرة الشائعة هو ترجمة عملية لجهلٍ تام ليس فقط بالعمل الشعري الذي تمّ إنجازه على مدى المائة عام الماضية أو نحو ذلك، ولكن أيضاً ببعض التطوّرات المُبْتَكَرة داخل الفلسفة نفسها.

ليس الفراغ هو اللا شَيْء. لا يقول فكر الفراغ ألا شيء يوجد، بل يقول: لا شيء هو. وهذا يعني ألا شيء " موجود"  في ذاته. فالشجرة من دون أرض، من دون ماء، من دون غيوم، من دون رياح هي " لاشيء".

يشكّل مفهوم "الفراغ" أهمّ وأعمق ما يجده "التِّرحَال الْفِكْري" لكينيث وايت في الفلسفات الشرقية، وخاصةً في الطاوية والبوذية. ذلك "الفراغ" الذي يحضر فيه الترابط القائم بين كل الأشياء في العالم المخلوق (والتي ليس هناك شيء آخر غيرها). ذلك "الفراغ" الذي يشكّل انفتاحاً للذات على الخارج الذي تنتمي إليه.

***

مشي على طول الشاطئ 

لإبقاء الحياة على قَيْد الحياة

في ظلّ التعقيد

والتواطؤ

مع كل الوجود -

لا يوجد سوى الشعر.

وربما مَن يعرف

ولو مجرّد صخرة واحدة حقّ المعرفة

في مختلف صفاتها

وصلاتها

مع السماء والبحر

هو الأقدر

على التحدّث إلى إنسان آخر

أكثر من سواه الذي يعيش ويتعفَّن على الدوام

في مجتمع مزدحم

لا يعلمه

شيئاً جوهرياً.

***

في تصوّره للشعر والشاعر، يقول كينيث وايت: "الشاعر كاتب لغة كثيفة، لغة راقصة. هو مَن يسكن الأرض بطريقة شعرية ولو بصمت. وحدها القصيدة صوت مَن يسكن الأرض شعرياً.

يرتفع الغناء من أعماق الأرض عبر الإنسان. يتحدّث عن حضوره في الأرض، وعن حضور الأرض فيه. هناك شعر جغرافي فقط. وحدها الجيوبويتيقا، التي لا غنى عنها، هي التي بمقدورها تذكيرنا بحقيقة الشعر الثرثار الذي لا معنى له، الذي يلعب باللغة من دون أن يتحدّث عن الإنسان في اللغة، أو الذي يتحدّث بشكل تجريدي فقط..

يحيا الشاعر الأرض التي يسكنها. يقرأها، يتحدّث عنها كما يقرأها. يمشي عليها، يجوبها. ينظر إليها، يشعر بها ويختبرها". 

***

بَدَوِيَّةٌ 

بسبب الجفاف وندرة العشب

جاؤوا من تَنْدْرَارَة (*) 

تعطّلت الشاحنة المُسْتَأْجرة

لذا نصبوا خيامهم

في هذه المنطقة من الرياح والأحراش

"هل تحتاجون إلى شيء ما؟"

كانت عجوز، قصيرة ونحيفة

بوشوم زرقاء على وجه مُجَعَّد

ويدين وقدمين مغطاتين بالغبار

هي مَن اقتربت لتتحدّث إلينا

"لا، شكراً لك، نحن فقط ننتقل

من مكان لآخر في الشرق

نتوقّف هنا وهناك لنلقي نظرة على الأرض"

"من الجيّد أن تمشي وتنظر

طالما أنك على الأرض، انظر إلى العالم

فتحت الأرض، لا يمكنك رؤية أي شيء"

ضوء وردي على صخور زرقاء داكنة

أصداف حلزونات بيضاء متناثرة على أرض صلبة وجافّة

وباز أسود الجناحين

"فليحفظك الله وينر طريقك، آمين".

(المغرب، الجهة الشرقية)

"ليس لدى الرّحال الذي يسكن كل واحد منا كحنين إلى الماضي، كإمكانية، فكرة عن الهوية الشخصية. فهو لا يقول " أنا أفكّر" ولا " أنا موجود"، وإنما يبدأ بالتحرّك وينطلق في رحلته، يقوم بما هو أفضل من "التفكير"، إنه يربط الزمان والمكان بنقاط محورية متعدّدة تشبه رسماً تخطيطياً للعالم".

في الفرق بين الجيوبويتيقا والجيو فلسفة

هناك فكرة شائعة مفادها أنه إذا أردنا " التفكير"، فيجب أن نتّجه صوب الفلسفة، بحيث يكون الفيلسوف هو وحده الممثل الرسمي للفكر، بينما ينحصر الشعر في الإحساس، الفنتازيا والمتخيّل. إن التمسّك بهذه الفكرة الشائعة هو ترجمة عملية لجهلٍ تام ليس فقط بالعمل الشعري الذي تمّ إنجازه على مدى المائة عام الماضية أو نحو ذلك، ولكن أيضاً ببعض التطوّرات المُبْتَكَرة داخل الفلسفة نفسها.

بدأ الأمر مع نيتشه الذي قال في لحظة حاسمة ما، إنَّه كان شاعراً (لم يكنْ لديه إعجابٌ كبيرٌ بالمفهوم التقليديّ للشعِر، ولا بمعظم الشُعراء). ليتمّ تطوير هذا الاتّجاه من قِبَلِ هَايْدِغر الذي اعتبر أنَّه إذا رغبنا في البدء بالتفكير حقاً، فمن الضروري أن "نخرج من الفلسفة".

هذا الذي فَضَّل الحوار مع شعراء مثل هُولدَرلين أو رِيلْكِه، بدلاً من مُعاصريه من الفلاسفة. وللمضيّ قُدُماً إلى الوراء  - إلى الماضي-؛ فإن أكثر من فرنسي لديه معرفة بديكارت، "معرفةٌ مُقْتَصرةٌ على الديكارتيّة المدرسيّة"، سوف يُفاجَأ بلا شك عندما يسمع فيلسوفنا يقول: "تتمّ مصادفة الأفكار العميقة في كتابات الشعراء أكثر من أفكار الفلاسفة (...) كان الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو على صواب عندما قال في ثلاثينيات القرن الماضي إنه سيتم " توجيه شعراء المستقبل نحو فلسفة هايدغر كما تتّجه الفراشات نحو الضوء". وسيراً على خطى ماتشادو، يمكن القول إن هايدغر كان منجذباً للشعراء أكثر من أيّ فيلسوف آخر. وهذا ما جعله ينتقل من مجال الفلسفة الخالص إلى الحوار مع مَن يعتبرهم أَنَاهُ الآخر".

ليست الجيوبويتيقا جغرافية أدبية غامضة ولا شعراً جغرافياً غامضاً، وإنما هي محاولة لإجابة جذرية على أسئلة الحضارة والثقافة، فالذي منح، منذ زمن بعيد، القوّة والسلطة لثقافة الإنسانية كانت الأسطورة (كتفسير للكون)، والدين (كطموح نحو الإلهي)، والميتافيزيقا (كبحث عن الخير والجمال والحقيقة). أما اليوم فقد تراجعت الأساطير والدين والميتافيزيقا، ولا يشدّني، يقول وايت، الحنين إلى هذا أبداً، فأنا أعمل على ما يعادلها، وذلك بالعودة إلى أساس أية ثقافة، والمتمثّل في العلاقة القائمة بين الإنسان والأرض، ومن هنا جاءت "جيو" في هذا التعبير الجديد.

إذا كانت الفلسفة بالنسبة لدولوز وغاتاري ليست أكثر من ممارسة لــــ "تِرْحالٍ فَلْسَفِيٍّ" وإبداع مفاهيم ذات صلاحية مؤقّتة ومحدودة بغرض التفكير في الأرض والحياة على نحو "محايث"، فبمقدور الشعر والفكر الشعري كَـــ "تِرْحَالٍ فِكْريٍّ "، في نظر كينيث وايت، إبداع "مفاهيم جَديدَة" من شأنها أن تصالحنا مع الطبيعة التي انقطع الاتصال والتواصل بيننا وبينها من جهة أولى، وبيننا وبين بعضنا من جهة ثانية، منذ زمن بعيد.

أما بالنسبة إلى"بويتيقا/شِعْرِية" أعطي لهذه الكلمة حمولة توجد لدى بعض العلماء رفيعي المستوى، الذين يتحدّثون باسم الذكاء الشعري، لذلك فإن مقاربتي "الجيوبويتيقية" هي إذن علمية وفلسفية وأدبية في الآن نفسه. وبعبارة أكثر تركيزاً، تراهن الجيوبويتيقا على التأسيس لأورغانون كوسمو - شعري Organum Cosmopoeticum لليوم والغد كبديل عن الأورغانون الأرسطي الكلاسيكي، والأورغانون الجديد Novum Organum (أو أورغانون الحداثة) لفرنسيس بيكون.

يُحدِّد كينيث وَايْت الجيوبويتيقا في مسلّمتين إثنتين:

1 - حاول أن تتخيّل فضاءً ذهنياً ليس أسطورياً، ولا دينياً، ولا ميتافيزيقياً، ولا سيكو - اجتماعياً ولا خيالياً. على الشعر أن يَحصر الفكر عند ولادته في الإحساس، في اللحظة الدقيقة عندما يكون هذا الإحساس، الذي لم يتمّ تصوّره بعد، مُدْرَجاً في الجسدي والفيزيولوجي، على مستوى الخبرة، إنها مسألة التقاط الكلمات البسيطة، الانطباعات، الألوان، الحركات والأصوات.. وقولها مباشرةً من دون تحويلها، ومن دون تجميدها في رموز أو إعدادها في أساطير.

2- حاول أن تتصوَّر فضاءً، حيث يتقاطع العِلم والفلسفة والشعر، بعيداً عن الحدود القديمة المرسومة بينها، بطريقة غير مسبوقة. تدعونا الجيوبويتيقا إلى الخروج من النصّ التاريخي والأدبي للعثور على شعر في الهواء الطَلْق حيث يتدفَّق الذكاء كنهر.

صباح ثلجي في مونتريال

بعض القصائد ليس لها عنوان

هذا العنوان ليس له قصيدة

كل شيء هناك.

على الرغم من أن وايت يتحدَّث "اللغة التي تتحدَّث بها الأشياء من دون استعارة"، إلا أنه يخلق جمالية قادرة على إظهار العالم وقوله بطريقة جديدة.

ويقول وايت: "ليست الجيوبويتيقا نشاطاً "فلسفياً" ولا "علمياً" ولا "شعرياً" بالمعنى العادي للكلمة. فالعِلم يتغذَّى على عالم المظاهر ويزن كل شيء بمقاييس المادة. والفلسفة تميل كثيراً إلى تسلّق المجرَّد. أما الشعر، فكثيراً ما يهدف، للأسف، إلى جعلنا نتذوَّق الجمالي فقط (...). وهذا ما دفعني إلى محاولة الجَمْع بين العِلم الجديد والفلسفة والشعر في كلٍ متماسك. بتعبير أدقّ، تشكِّل الجيوبويتيقا مجالاً للقاء والتحفيز المتبادَل بين الشعر والفلسفة والعِلم من خلال طرح السؤال الأساسي: ماذا عن الحياة على الأرض، وماذا عن العالم؟".  

إذا كانت "مهنة الفيلسوف هي صناعة المفاهيم " كما يصرّ على ذلك كل من جيل دولوز وفيليكس غاتاري. فكينيث وايت يرى من جهته أن " الشاعر مُبْدِع مَفاهيم". ولا يدعو وايِت في هذا القول، الذي قوبِلَ بنوعٍ من الاستغراب وحتى الاستهجان من طرف بعض المشتغلين بحقل الفلسفة في الغرب، إلى إقامة مُفاضلة بين الفيلسوف والشاعر، بقَدْرِ ما أنه يدعو إلى ضرورة التخلّص من "وَهْمِ" الحدود المرسومة بين الحقول المعرفية، من: عِلْمٍ، فلسفة وشعر، والتسليم بالتقاطع القائم بينها.

كان دولوز عضواً في لجنة مناقشة أطروحة الدكتوراه التي أعدّها كينيث وايت عام 1979 تحت عنوان "التِّرْحَال الْفِكْري"، وَهُوَ "تِرْحالُ" عَلَى غِرَارِ "التَّرْحَالِ الفَلْسَفيِّ" الذي أسَّس له دولوز بمعيّة فيليكس غاتاري، والذي ليس في نظرهما مجرَّد ترحال يقوم على الانتقال من مكانٍ إلى آخر، بقدر ما أنه "تِرْحالُ" متواصل في الأرض وفي الفكر الذي ننتجه بصَدَد هذه الأرض/ العالم، وبصَدَد ذواتنا كجزء من هذا العالم.

إن "الفَيْلَسوفَ الرِّحالَ"، في نظر دولوز وغاتاري، هو مَن يتحرَّك كثيراً بين الأفكار والمفاهيم ويبدع أخرى بلا توقّف. إنه فيلسوف يؤسِّس لِ "جِيُو- فَلْسَفَة " تعمل على ربط التفكير بالأرض التي يتموجد فيها، أي ذلك الذي بمقدوره أن يؤسِّس لممارسة فلسفية مُحَايِثَةٍ Immanente للأرض، للجسد وللحياة في عنفوانها.

بعد الوسط اليوناني، يستعرض دولوز وغاتاري الأوساط الفرنسيّة والإنكليزيّة والألمانيّة. وإنْ كانا لم يهتّما بإيطاليا وإسبانيا؛ فذلك لأنَّهما في نظرهما لمْ تقطعا علاقاتهما بعد مع الكاثوليكيّة. فرنسا بلدُ التأمُّل والتفكير، و"الفرنسيون يشبهون مُلاّك الأراضي الذين يغدو الكوجيتو رَيْعهم". ألمانيا هي "أرض المُطْلَق المفقود"، الذي يجب استعادته عن طريق الغزو. أمّا بالنسبة إلى إنكلترا، فهي "أرض مستنقعاتٍ متحرِّكة"، فبدلاً من الفكر، لدى الإنكليز عاداتْ، وبدلاً من المفاهيم لديهم اتّفاقيات.

إن ما يدعو إليه دولوز وغاتاري، في هذا الإطار، ليس في عمقه سوى امتداد لما أسّس له كل من سبينوزا ونيتشه، اللذان يُدين لهما دولوز وغاتاري بالكثير في تصوِّرهما للفلسفة كممارسة مُحَايِثَة للحياة.

إذا كانت الفلسفة بالنسبة لهما ليست شيئاً آخر أكثر من ممارسة لــــ "تِرْحالٍ فَلْسَفِيٍّ" وإبداع مفاهيم ذات صلاحية مؤقّتة ومحدودة بغرض التفكير في الأرض والحياة على نحو "محايث"، فبمقدور الشعر والفكر الشعري كَـــ "تِرْحَالٍ فِكْريٍّ "، في نظر كينيث وايت، كذلك إبداع "مفاهيم جديدة" من شأنها أن تصالحنا مع الطبيعة التي انقطع الاتصال والتواصل بيننا وبينها من جهة أولى، وبيننا وبين بعضنا من جهة ثانية، منذ زمن بعيد.

تَقْرِيرُ أُوڤِيد 

لطالما بحثت

في الفن والحب

ونادراً ما عثرت

على ما من شأنه

أن يأخذني أبعد من ذاتي

سئمت من الأماكن

حيث يتباهى الإنسان بنفسه

رأيت ما يكفي من المسرح البشري

إيماءات دماه

كل قصصهم الصغيرة

ما يهمّني الآن

هي الحقول الصامتة

التي تمتدّ من حولي

حركات البحر

السماء المليئة بالنجوم

العلاقة

بين جسدي والكون

بين السدم ودماغي.

الحقل الفلسفي- الجيوبويتيقي    

  • جيل دولوز
    جيل دولوز

لمْ أجد مطلقاً، يقول كينيث وايت، مفهوم "الجيو فلسفة" الذي طرحه دولوز وغاتاري، عام 1991 في كتابهما "ما الفلسفة؟" مثيراً جداً للاهتمام. أستخدِم هنا عبارة "مثير للاهتمام" بالمعنى القوي عندما أقول إنني لا أجد الجيو فلسفة شيّقة جداً بالعلاقة مع ما يشغل ذهني أكثر، وما أعتبره ضرورياً للغاية. فالكمُّ الكبير لما يسمّى بـ "الفلسفة" و"الفن" و"الثقافة" لا يثير اهتمامي على الإطلاق. دعوني أقولها على هذا النحو: شعوري هو أن دولوز وغاتاري وضعا "الجيو فلسفة" من أجل الحصول على موطئ قدمٍ في مجالٍ ناشىء، إنْ لم يكن بهدف احتلاله، ولكنني أجد أنّه من المهم التعليق عليه، وخاصة في السياق الذي تقع فيه الجيوبويتيقا بالعلاقة مع "الجُغرافيات" الجديدة الأخرى. 

تُشكّل فكرة الجيو فلسفة موضوعَ مقال مكوّن من 25 صفحة ضمن كتاب من حوالى 200 صفحة، حيث تتعلّق بشكل رئيس بثالوث: "المفهوم، الإدراك والانفعال". وباختصار، هي عمليّة تعريف للفلسفة في ما يتعلّق بالفن والدين. 

ويضيف: "في قراءتي للسّياق الجيو فلسفيّ، فإنّ العبارة الرئيسة التي يدور حولها كلُّ شيء، هي: "كوننا نفتقر إلى خطّة حقيقية". ولكن، في إطار خطابٍ فلسفيّ كامل، يمكن أن تمرّ من دون أن يلاحظها أحد. بعد قرون من الفِكر الغربيّ، ليس هناك نقصٌ في المفاهيم، ولكن "لا نعرف أين نَضَعُها"؛ لأنّنا "انْحرفنا عن المسار بسبب التعالي المسيحي". 

تمّ تخصيص الصفحات الأولى من المقالة لليونان القديمة كموقعٍ للفلسفة بامتياز. إذا كان الفلاسفة الأوائل أجانبَ من آسيا (كان هيراقليطس الأَفْسُسِي هو مَن ابتكر لفظ فِيلُوسُوفُوس Philosophos ،(مُبْعَدِين عما يستطيع دولوز وغاتاري رؤيته فقط، مع بعض الاستثناءات النادرة جداً، في الشكل الإمبريالي "للاستبداد الشرقيّ" (والذي لا أحد يستطيع إنكار وجوده)، فقد كان أفلاطون هو مَن دشَّن الفلسفة في بيئة يونانيّة أرستقراطيّة. وقد قيل - وهناك ما يُبرّر ذلك - إنَّ الفلسفة منذ ذلك الحين ليست إلا مجرَّد هوامش وحَوَاشٍ للنصّ الأفلاطوني.

إن ما نفتقر إليه منذ أفلاطون - هو شيء أساسي للغاية حسب نيتشه - هو "تحليقٌ أسرع عبر فضاءاتٍ أكثر رحابة".

بعد الوسط اليوناني، يستعرض دولوز وغاتاري الأوساط الفرنسيّة والإنكليزيّة والألمانيّة. وإنْ كانا لم يهتّما بإيطاليا وإسبانيا؛ فذلك لأنَّهما في نظرهما لمْ تقطعا علاقاتهما بعد مع الكاثوليكيّة. فرنسا بلدُ التأمُّل والتفكير، و"الفرنسيون يشبهون مُلاّك الأراضي الذين يغدو الكوجيتو رَيْعهم". ألمانيا هي "أرض المُطْلَق المفقود"، الذي يجب استعادته عن طريق الغزو. أمّا بالنسبة إلى إنكلترا، فهي "أرض مستنقعاتٍ متحرِّكة"، فبدلاً من الفكر، لدى الإنكليز عاداتْ، وبدلاً من المفاهيم لديهم اتّفاقيات.

كل هذا لا يخلو من الأهميّة، ويمكننا أن نُضاعف الدراسات حول الأرض والشخصيّات. سنقوم كذلك بالجيو فلسفة، لكننا سنظلُّ في الوسط، لنْ نتعامل أبداً مع السؤال الأساسي المتعلّق بمُسطَّح محْتمَل للمُحايثة. 

هذا هو السؤال الذي حاول دولوز وغاتاري معالجته في كتابهما "ألفُ هضبة" عبر إجراء تحليلٍ للرأسماليّة، ما أدّى في النهاية إلى تدمير الأوساط، واستكشاف الشيزوفرينيا، التي يُرَجَّح أن تفتح مساحة جديدة العقل. لكن هذه الحركة المحمومة لآلة الحرب المفاهيميّة عبر آلاف الهضاب، حتى وإن كانت قد تمكَّنت من التنقّل عبر ممراتٍ مثيرةٍ للاهتمام هنا وهناك، فهي لم تكن قادرةً أبداً على الاقتراب من مُسَطَّحِ مُحَايَثَةٍ جديد.

إن المراحل النهائيّة من الفكر (بما في ذلك الجيو فلسفة) لدولوز وغاتاري، تدلّ بشكل كبير على وجهة النظر هذه. 

يمكننا أن نقرأ في الصفحات الأخيرة من مقال الجيو فلسفة، والذي كان مناورةً أكثر منه تقدّماً حقيقيّاً في الفكر، ما يلي: "الفكر نفسه أحياناً أقرب إلى الحيوان المُحْتَضِر منه إلى الإنسان الحيّ". والدعوة إلى "شكل مستقبلي للأشياء"، إلى "أرض جديدة وشعب لم يوجد بعد"، إلى "دستور أرض وشعب مفقودين، كعلاقة ارتباط بالخلق". هو أمرٌ مثيرٌ للشفقة.

لدخول الأرض الجيوبويتيقية، بعد الأَلف هضبة وسقوطها المدوّي، أصعدُ الآن إلى هضبة إِنْغادين Engadin، من أجل لقاء آخر مع نيتشه.

تعرّفت على جيل دولوز في سياق نيتشوي. يَحضُرني هنا مقاله: " الْفِكْرُ الرَّحَّالُ"، الذي نُشِرَ ضمن وقائع مؤتمر "نيتشه اليوم؟" (باريس، 1973)، حيث يمكننا أنْ نقرأ هذا: "إنَّ الهدف من الماركسيّة والتحليل النفسي - البيروقراطيَّتينِ الأساسيَّتيْن لثقافتنا - هو إعادة ترميز ما يتمّ فَكّ تشفيره في الأفق طوال الوقت. على العكس من ذلك، فإن قضيّة نيتشه ليست موجودةً على الإطلاق. مشكلته في مكانٍ آخر. بالمرور عبر جميع الرموز، رموز الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ما سيفعله هو أن يعطي معنىً لشيء لا يمكن ترميْزُه ولن يكون أبداً؛ "هناك انجراف، حركة انجراف، دعونا نَقول حركة تَرْحِيلٍ Deterritorialisation "، أعرف إن ما أقوله مشوّش بعض الشيء، إنه مجرَّد شعورٍ لديّ، فرضيّة تتعلّق بأصالة تلك النصوص النيتشويّة"؛ "يؤسِّس نيتشه الفكر والكتابة في علاقة مباشرةٍ بالخارج. الآن، ربطُ الفكر بالخارج هو ما لم يفعله الفلاسفة على الإطلاق، حتى عندما تحدَّثوا عن السياسة، عن المشي أو عن الهواء النقيّ (...) يتقاطع مصطلح "حركة ترحيل Deterritorialisation" مع السياسة والمجتمع، وكذلك العالم الفني. والذي يعني: ترك عادة، أسلوب حياة مستقرّ. وبشكل أوضح، هو هروب من اغتراب، من عمليات تَذْيِيتٍ محدَّدة.

 في ذلك الوقت، كنت، يقول وايت، منشغلاً للغاية بمفاهيم مثل: "التِّرْحَال الفكري"، بنوع جديدٌ من الكتابة. وبصَدَد إعداد أطروحةٍ عن "الترحالِ الفكري"، وكتبٍ شعرية ونثرية أخرى.

كان من الواضح إننا تقاسمنا أرضاً معيّنة. لهذا السبب تمّت دعوة دولوز ليكون عضواً في لجنة مناقشة أطروحتي، ووافقت على حضوره. وقد أوضَحْتُ " دفاعي عن أطروحتي " وكذلك آثاره (العرض غير المباشر لعملي في كتاب "ألف هضبة") في كتابي: "حوار مع دولوز".

أعتقد أنه لو بقي دولوز على حاله "الأصليّة" (ما بَعدَ نيتشوي)، بدلاً من الانغماس في "الرأسمالية والشيزوفرينيا"، لكان قد طوّر مجالاً مختلفاً تماماً. إنّ ما هو مؤكّد هو أنّه إذا ما اطّلعتم على كل كتابات دولوز (وليس فقط على مقالة "الجيو فلسفة")، فمن المُمكن أن تروا هنا وهناك عناصر قريبة من الجيوبويتيقا: "إن الذات والموضوع يقدّمان مقاربةً سيِّئة عن الفكر. ليس التفكير بخيطٍ مشدودٍ بين الذات والموضوع، ولا بثورةٍ لأحدهما على الآخر. يتمّ التفكير بالأحرى داخل علاقة الإقليم بالأرض" انطلاقاً من هذه العلاقة، تظهر الجيوبويتيقا ليس كـ "شعر طبيعي" أو كإيكولوجيا شعريّة غامضة، كما يودّ ذلك البعض من أجل راحته العقلية، ولكنها تظهر كنوعٍ من التفكير، كطريقةٍ غير منهجية في الكتابة، كطريقةٍ للوجود في العالم، وكأساسٍ مُحْتَمَلٍ للثقافة.

فإذا كانت الإيكولوجيا تسعى إلى فَهْم "العالم المحيط" والحفاظ عليه. فعلى العكس منها، تهدف الجيوبويتيقا إلى إعادة التفكير جذرياً في علاقة البشر بالعالم، في أفق خلق تحوّل ثقافي حقيقي.

في النهاية، ليست الجيو فلسفة سوى سيكو- سوسيو نسبية، في حين أن الجيوبويتيقا هي كوسموكوكبية تهدف إلى تجديد إدراك الإنسان للعالم، وتكثيف وجوده فيه. إنها مساحة محتملة تنفتح وتشتمل على مناهج فنية، علمية، فلسفية وشاعرية، ورؤية متعدِّدة التخصّصات للعالم، وعاطفة تتواجد فيها الإنسانية والطبيعة. 

المراجع 

(*)  Kenneth White: Panorama géopoétique, entretiens de Kenneth White avec Régis Poulet. Éditions de la Revue des Ressources, collection « Carnets de la Grande ERRance », 2014 

 (*) Le monde ouvert de Kenneth White. Essais et témoignages. réunis par Michèle Duclos. Éditions Presses universitaires de Bordeaux 1995

(*) Kenneth White: Les archives du littoral. Trad. de l'anglais par Marie-Claude White. Collection Poésie, Mercure de France 2011

(*) Kenneth White: Open World. The Collected Poems 1960-2000, Polygon Books, Edinburgh 2003 

(*) Kenneth White: Handbook For The Diamond Country. Collected Shorter Poems 1960-1990 Mainstream Publishing 1993

(*) Kenneth White: Le plateau de l'albatros. L'Introduction à la géopoétique. Editions Le Mot et Le Reste. 2018

(*) Kenneth White: Dialogue avec Deleuze. Isolato Eds 2007

(*) تَنْدْرَارَة  TENDRARA، هي بَلْدَة تقع في الشمال الشرقي للمغرب

*ملحوظة: كل النصوص من ترجمتنا. [عبد النور زيّاني]