"وشوشات" عايدة سلوم: معرض تجريديّ للحريّة المطلقة

في معرضها "وشوشات" في "غاليري جانين ربيز" في بيروت، تختبر عايدة سلوم التضاد الذي يشكل بنظرها الحياة والكون. ولذلك، تسرد مروحةً من الأفعال المتناقضة في مجموعة من اللوحات التجريدية.

 مفعمة بالانطباعات والتحولات هي الفنانة عايدة سلوم، ومتفجرة بالآهات والرموز والبحث عن الذات وتكوينها، وإعادة تكوينها في آن. ذلك قليل من كثير مما يختلج به معرضها بعنوان "وشوشات" في "غاليري جانين ربيز" في بيروت - المدينة المعشوقة على الدّوام، والتي تشكل فضاءات سلوم، المتعلّقة بها، واللصيقة في تحوّلاتها وتقلّباتها وانفعالاتها حتى باتت جزءاً منها. 

المعرض أعمال مجسّمة بأبعادٍ ضوئيّة تعتمد سلوم فيه التّجريد التّام، تاركة للمشاهد البحث عن تفسيراته لما يرى. هناك، في التجريد المطلق، يمكن للمشاهد أن يأخذ مداه في التفسير، الذي يختلف بين راءٍ وآخر، وبين محبٍّ للفن وآخر؛ يبحث في اللوحات عمّا يمكن أن يعكس فيها ذاته، وفي الوقت عينه، باحثاً عن ذات الفنان الذي انبعثت اللوحات منه وفيه. 

ليست الأعمال التجريدية مشواراً عصريّاً يسبق المغيب، ولا مشقّةً يركبها الفنان لبلوغ هدفه. ربما بلوغ ذاته غير المحدّدة في إطار معين. إنه الفضاء الذي يرتع الفنان فيه بأبعاد الذات، ومكنوناتها المتعددة، الدفينة والمتجليّة؛ يبحث عن ذاته في اللوحة، ويبحث عن اللوحة في ذاته، يتفاعلان تفاعلًا جدليّاً، فلا الفنان قالب جامد، ولا اللوحة صورة جاهزة، مُسْبَقة التشكّل، والانبثاق؛ اللوحة كأنها حفلة تجريب، وتغيير، وتفاعل، وغَوْصٌ بعيداً عن الواقع، وكلما ابتعد الواقع، كلما تألّق التفاعل والتعبير، والانغماس نحو الأعماق.

"أن ترسم أو تصور يعني أن تدخل في ذاتك كأنك تدخل إلى بيتك. تتفقدها، تنظر في أحوالها، تحاورها، تتذكر، تتأمل، وتفكر، وتحاول الاتصال بالأنا الداخلية الثانية الشغوفة واليقظة"، هكذا ترى سلوم الفن، وتقول في حديث مع "الميادين الثقافية" إن "كلّ واحد منا، والفنان بشكل خاص، يريد أن يبتدع معنى، أن يصوّر لوناً أو ضوءاً، والقلق المتوقّد لا معنى له إلا بالفن". 

تجد سلوم في داخلها بُعداً واسعاً ممتلئاً، حيث تجد المسافة تتفتح، والمساحة تتهيأ، وكما تقول، "هناك في اللوحة، يصبح للانسان فضاء من اليقظة والانتباه؛ أحاول أن أطير وأحلّق، بما يتيح لي تلمّس الحضور، وحركة الأشياء".

وعند تكوُّن اللوحة، يكون لدى الفنان مخزون ذاكرة بصري من الطبيعة، ومن كل ما يشاهد، "فالمخزون الذاتي والثقافي عندما أصل معهما إلى اللوحة، تبتعد صور الواقع تدريجياً، وأجد في داخلي فضاء واسعاً عامراً بالأبعاد الخفيّة للحياة، إن كان في حضورها المَهيب، أو الحزين"، تُعَبِّر سلوم عن ذاتها في ضوء تجاربها الفنية الكثيرة.

  • الفنانة عايدة سلوم
    الفنانة عايدة سلوم

"مهرجان" التجريد في معرض سلّوم حمل عناوين كثيرة، تَعْبُر في متاهات الحياة، متحديّةً الموت، الذي لا ينجو إنسان منه، إن بمصيره، أم بأذاه، فيستحضر عُدَّته للتغلب عليه ما استطاع. وإذا كان الموت هو الظلام، فالضوء هو الحياة، فكانت أعمالٌ بعناوين "نسيج الضوء"، و"دروب الضوء"، و"ظلال الضوء"، إضافة إلى "حديث الأحمر"، و"نحو بعد آخر"، و"نسيج الجذور"، و"معاً وحيدان"، و"وشوشات"، وسواها من عناوين. 

سلوم تختبر كم هي الحياة قائمة على التضاد، فمثلما الحياة تضادٌّ للموت، كذلك الضوء تضادٌّ للظلام، والوحدة نقيض للافتراق، وبنظرها التضادٌّ هو الحياة والكون، لذلك تسرد مروحةً من الأفعال المتناقضة، كأنها حالة متفجِّرة في الفعل وردّ الفعل، في الصراع مع الخارج، والسلام مع الداخل. همّها أن تحيا وتتغلب على الموت، وتقول: "حين أصوّر، أرسم أخطّط، أشعر أفكّر، أدرك ألاحظ، أؤلّف أشكّل، ألوّن أصوّر، أصغي أغطّي، أكشف أحجب، أتجمّع أتبدّد، أغادر أعود، أخفي أظهر، أنسج أحوك، أكتب أمحو، أنثر أُثبّت، أغيب أحضر، أختفي أظهر، أعيش أموت.. فأكون".

يبدو الموت هاجساً لدى الفنان، وفي لوحته حيث الخلق والإبداع، انتصار للحياة: "الموت يطرح عليك أسئلة الوجود"، تقول سلوم مردفةً إنه (الموت)، يجاورنا، ويعيش معنا رغم تجنبنا له، ينتزع أحبّتنا، وأجزاء من ذواتنا، كأصدقاء ومعارف نحبهم"، وتتحدث عن معايشتها للحروب في مدينتها بيروت، وتجارب الموت العديدة التي طالت أحبةً لها، قائلة: "عايشتُ كل هذه الحروب من دون أن يموت فيّ التّوقُ للحياة، وخاصة حياة اللوحة ملاذي وبيتي". 

وتضيف: "العلاقة بالواقع علاقة جدليّة، فيها فعل ونقيضه، وإذ الحياة أفعال متناقضة، متضادة، بين الواقع واللاواقع، والمرئي واللامرئي، والمادي والروحي". 

في مساحات التجريد الواسعة، يبدأ البحث عن الذات وعن المعاني، واحتمالات الرؤى المختلفة، وبنظر سلوم، "في مرحلة نضج، وتفتيش، وتعمّقٍ بالتجربة، ومحاولة إيجاد حرية وأسلوب خاص، وبحث عن ذات، أجدني متجهة للتجريد، كنوع من اختصار أحاول أن أجد فيه بداهةَ الأشياء، لذلك ذهبت بألواني في منحى لا استعراضي، وغير واقعي".  

بين معرض وآخر، يخوض الفنان تجربة فيها إضافة ما إلى نزوعه الفني، يصقلها، ويُشَذِّب موهبته، وفي معرض سلوم الجديد، تجربة جديدة، و"في كل تجربة تجد حرية، وحريتك تدفعك أكثر نحو التجريد"، كما تقول، وتفصح أنها مأخوذة بــــ "تفكيك العناصر البصريّة التي في ذاكرتي، وتركيبها وترميم الأشكال والخطوط".

وترى سلوم أن "اللوحة ملاذي وبيتي من دون حيطان، وهي كشجرة تلمع أغصانها دون رؤيتي لجذورها - جذور جديدة لعالم آخر"، كما رأت في اللوحة "نافذة مفتوحة من دون عمارات، وغيمة تنتظرني متأهّبة للسفر".

  • من أعمال عايدة سلوم
    من أعمال عايدة سلوم

أما الوشوشات فهو ذلك الصوت الخفي الذي تتلمّسه وتسمعه حتى في احتكاك الريشة مع الشاشة التي آثرت اعتمادها في لوحاتها، لأنها ترى "الشاشة التي نداوي بها جراحنا، يمكن أن تشكل فاصلاً ورابطاً بين فضاء اللوحة والواقع".

سلوم أستاذة مساعدة في "معهد الفنون الجميلة" في "الجامعة اللبنانية"، حيث تخرجت في أول مستوى جامعي، قبل أن تنتقل للدراسات العليا في جامعة الروح القدس (الكسليك). لها الكثير من المشاركات في معارض جمعية، و 5 معارض فردية أولها سنة 1991 في "دار الندوة" في الحمراء.

اعتمدت في تجاربها الفنية مختلف أساليب الفن ومنها الانطباعي التعبيري، وتنقلت في ممارستها الفنية بمراحل كثيرة، وصولاً إلى التجريد الغنائي.