جولة في الضنية اللبنانية: تاريخ وآثار وبيئة وسياحة

تقع منطقة الضنية في أخدود كبير بين جبلي المكمّل جنوباً، وجبال عكار شمالاً، وقد يكون الأخدود هو الأضخم في منطقة الشرق الأوسط، ففيه أعلى القمم "القرنة السوداء"، وأعمق الوديان "وادي جهنم".

  • معبد السفيرة
    معبد السفيرة

سمّي وادي جهنم بهذا الاسم لأن من يقصده يعرف أنه لن يعود نظراً لشدة انحداره، ووعورة أرضه، والغابات الكثيفة التي تغطيه، بأشجارها، والمتكاثر فيها من نباتات، ولا تزال أجزاء من الوادي لم يصلها الإنسان.

ينتهي الوادي بمنبطح تتجمّع فيه السيول من السلسلتين، فيتشكّل فيه نهر بارد المياه، أطلق عليه اسم "النهر البارد"، وعليه بحيرتان للري، وتوليد الطاقة الكهربائية بتوربينات خاصة، وتحوطهما المروج، فإذا المنطقة السفلية من الضنية سياحة جميلة، ومناظر ساحرة معروفة بـ "عيون السمك".

 

"القرنة السوداء"، أعلى قمم لبنان، ارتفاعها زهاء 3080 متراً عن سطح البحر، ومنها يمكن الإطلال عبر رادار، على العراق وإيران شرقاً، ومضيق جبل طارق غرباً، ومصر والسودان جنوباً، ولا يقف سدّاً أمامه إلّا جبال أرارات التركية لجهة الشمال. لذلك تتعدى أهمية القمة منطقة الشرق الأوسط، وتطال مسافات بعيدة من القارات القديمة. 

جرد النجاص

تجاور القرنة السوداء منطقة بشري، والأرز الشهير لجهة الشرق والجنوب، لكن القمة تتبع عقارياً لمنطقة الضنية، ونزولاً منها إلى عمق يناهز الثمانمئة متر، يصل المشّاؤون إلى منبسطات بساتين فاكهة تعرف بـ"جرد النجاص" (الإجاص) الذي تكثر أشجاره البرية، فاستغله أهالي المنطقة وحوّلوه إلى بساتين فاكهة إجاص، وفاكهة وخضار متنوّعة، يستخدمون أنابيب جرّ المياه من ذوبان الثلج عن سفوح القرنة السوداء.

بقي جرد "النجاص" حتى السنوات القليلة الماضية محميّة طبيعية قائمة بحدّ ذاتها، حيث لم تصلها الطرق المُعبّدة إلا مؤخراً، ولم يصلها التيار الكهربائي، لكن سكان الضنية الذين حوّلوا أراضيها بساتين زراعة خصبة، جعلوها مصيفاً لهم، يقيمون فيه من أول الربيع، وحتى الخريف، ويجنون منه مؤنة العام من مختلف الأصناف الزراعية.

غابة اللزاب

ومن القمم العالية امتداداً للقرنة السوداء جبل يعرف بـ"جبل الأربعين"، تغطيه الثلوج حتى الربيع، وتمتد تحته في الأعالي غاباتٌ أشهر أشجارها "اللزّاب" التي تتمايز عن بقية الأشجار بصلابتها حيث يصعب دق مسمار فيها، وهي الشجرة الوحيدة التي تستطيع النمو فوق الألفي متر، ويحتاج تكاثرها لعبور بذارها في بطن طير "الكيخن". 

غابة "اللزاب" تمتدّ شمالاً نحو جبال عكار، وتصل "القموعة" حيث غابات الأرز المعروف بـ"التنوب"، والشوح، والعزر، وسواها، والمشكلة الأساسية إن الغابة عرضةٌ للإبادة بتقطيع أشجارها الدهرية النادرة.

جرود نائية

أعلى مناطق مأهولة في الضنية، تقع عند أطراف جبال الأربعين وتعرف بـ"القمامين"، وفيها بلدة "دبعل" ذات الآثار الرومانية، والصليبية، والأرض المتحركة دوماً التي تشكّل أزمة دائمة لسكانها الذين يضطرون لترميم منازلهم بصورة متواترة كلما اتسعت شقوقها نتيجة تحرك الأرض، كما أنه عليهم إعادة مسح بساتينها التي تتداخل حدودها من جرّاء هذه الحركة كل بضع سنوات.

الحصن الروماني

نزولاً من جرود الضنية العالية، تقع أول بلدة كبيرة هي "السفيرة" المشهورة بمعلمها الهام والكبير المعروف بـ"حصن السفيرة" وإن هو إلّا قلعة في أعالي الجبل، ومعبد في أسفله لكن أعلى نقطة معمورة في البلدة، والمعلمان رومانيان شهيران.

لا يزال قسم كبير من المعبد قائماً، والقسم الآخر مدمّر بفعل عوامل الطبيعة، لكن ما تبقّى من المعبد يظهر طبيعته، وحقيقته التاريخية، وتشكُّله وفق الهندسة الرومانية المعروفة، ومنه يمكن الإطلال على مواقع رومانية مماثلة حيث كانت هذه المواقع تستخدم كنقطة تواصل بالنار، ومنها حصن "أكروم" على الحدود الشمالية اللبنانية-السورية، ومعابد "عين عكرين" و"يزيزا" في الكورة جنوباً.

سير

ومن أهم البلدات في الضنية بلدة "سير"، مركز القضاء، يمكن الوصول إليها من السفيرة عبر وادٍ عميق، لكن طريقها الرئيسي من غربها باتجاه مدينة طرابلس اللبنانية، عاصمة الشمال، وعاصمة لبنان الثانية.

تتميّز سير بعوامل حضارية، وعمرانية، وطبيعية لافتة، تؤدي غزارة مياهها دوراً هاماً في تحويلها منطقة سياحية بامتياز، حيث تتدفّق الينابيع من الجبال المحيطة بها، وتتوزّع على مسافات طويلة توازي الطريق العام حيث أقيمت سلسلة من المقاهي والمطاعم الظليلة، ذات المناخ المنعش، يرتادها المصطافون والسيّاح لتمضية أوقات جميلة، ويمكنهم الإقامة في أحد فنادقها المتعددة، والتي يعود أقدمها إلى أربعينيات القرن الماضي وهو "أوتيل سير بالاس" المعروف شعبياً باسم أوتيل "الجزار" نسبة إلى بانية جزّار رعد على الطريقة الأوروبية.

أوتيل عصري

حمل الفندق اسم مؤِّسسه الجزار رعد- العائلة الإقطاعية التي حكمت الضنية في فترة الخلافة العثمانية- مضافاً إليه تسمية فندق "البالاس"، اسم يشي بالانتقال من الماضي التقليدي إلى الحداثة الإفرنجية التي وفدت مع الاستعمار الفرنسي إلى المنطقة. 

الجزار كان مزارعاً فقيراً أوائل القرن العشرين، يعمل في الأرض مع والدته، وكان عليه أن ينقل إنتاج حقله على ظهر حماره إلى مدينة طرابلس، زهاء 35 كيلومتراً بعيداً من بلدته المرتفعة عن سطح البحر الطرابلسي ما يقارب الثمانمئة متر، وفي طريق ضيق لا تسلكه إلا الدواب. 

كان الجزار يقضي طوال النهار في ذهابه المبكر إلى طرابلس ليرجع منتصف الليل مُرهَقاً لكي يتمكّن من بيع إنتاجه، وذات يوم وهو في طرابلس، سمع صفارة باخرة، فدفعته حشريته إلى ميناء المدينة لرؤية السفينة، فتوجّه إليها على ظهر حماره، وعلم بأن السفينة تنقل الركاب إلى أنحاء العالم، فباع الحمار مع حمولته، وسافر على السفينة عاملاً في توقيد الفحم الحجري من دون أن يخبر والدته بذلك.

حطّ الجزار في جنوب أفريقيا حيث عمل في منجم لاستخراج الذهب، وبعد 15 عاماً، عاد إلى سير ناقلاً سبائك ذهب، فبنى منزلاً، وشقّ طريقاً معبّدة إلى طرابلس طالما قضى عليها أوقاتاً شاقة، وسنة  1934، بنى فندق "بالاس أوتيل"، أناره بمعمل لتوليد الطاقة بالمياه، ووزعّ منه تيار إضاءة لمبة واحدة لكل بيت في القرية.

شهد الفندق أحداثاً هامة، أبرزها تحضير انقلاب أديب الشيشكلي في سوريا بحسب مستثمري الفندق.

مغارة الزحلان

وفي نقطة خفيضة من سير، اكتشفت منذ أكثر من ثلاثة عقود، مغارة "الزحلان" في بلدة "القطين"، وجرى تحويلها إلى موقع سياحي على غرار مغارة جعيتا، وفيها ما يتوافر في مختلف مغاور الجبال اللبنانية من متدليات ومتصاعدات، ومجاري مياه رقراقة داخلها. 

تتكوّن المغارة من 3 طبقات عليا، وأخرى سفلية، ولا تزال أجزاء منها غير مكتشفة.

دفع وجود المغارة كمعلم سياحي مستثمرها محمد جواد فتفت إلى توسيع آفاق السياحة في المنطقة الجبلية البكر، حيث الوديان العميقة، والغابات الكثيفة، فأنشأ عليها جسوراً معلّقة على ارتفاعات كبيرة، وتلفريكاً سياحياً، ومطاعم متعدّدة.