تكوين العرب الحديث وأثر القرون الخمسة الأخيرة فيه

تكوين العرب الحديث وأثر القرون الخمسة الأخيرة فيه.. ما هي مفاصل التحولات العربية ومسألة الوعي وأسباب التراجع الحالي؟ وما هو حال العرب المعاصرين وماذا عن دورهم المستقبلي؟

نص الحلقة

<p>غسان الشامي:أحيّيكم، واقع العالم العربي معرفياً يستدعي التفكُّر فيه وفي المآلات التي وصل إليها، وهذا التفكُّر مؤشّرٌ على كيف نستقرىء مستقبل العرب وحضورهم في العالم المعاصر. تكوين العرب الحديث محور بحثٍ متواصل عند الدكتور سيار الجميل، وهذا مسطورٌ في كتبٍ عدّة له، كذلك التحوّلات العربية التي فكّك مجالاتها وصولاً إلى دور العرب ومستقبلهم. في هذه السياقات الثلاثة من نِتاجه المعرفي سنحاوره رغم اتّساع هذا النِتاج وغزارته وأهميّته وانتشاره، والدكتور الجميل مؤرّخٌ وكاتبٌ وأكاديمي وصاحب مشروعٍ معرفي من عائلةٍ موصليةٍ موصولةٍ بالعِلم والثقافة، يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة سانت أندروز الإسكتلندية، درّس في جامعاتٍ عربية وغربية عدّة، وله العديد من الكتب والدراسات والمُتابعات والمنشورات ويعيش حالياً في كندا، سنحاوره بعد تقريرٍ عن دور العرب في القرن العشرين.</p> <p>تقرير: &nbsp;</p> <p>كانت للعرب إسهاماتٌ كبيرة في مجالات المعرفة والعلوم ودرسوا وزادوا على علوم مَن سبقهم، وتحوّلت مؤلّفاتهم إلى مراجع أساسية لكل طلاب العِلم في العالم.</p> <p>وفي القرن العشرين برز العديد من العلماء منهم منير نايفة عالم الذرَّة الفلسطيني ولديه 23 براءة اختراعٍ في صنع جُزيئات السيليكون النانونية، ومصطفى عمرو السيّد عالِم الكيمياء المصرية الحاصل على قلاّدة العلوم الوطنية الأميركية لإنجازاته في مجال تكنولوجيا النانو وتطبيقاتها في علاج مرض السرطان.</p> <p>فاروق الباز العالم المصري الأميركي الذي عمل في وكالة ناسا للمساعدة في التخطيط للاستكشاف الجيولوجي للقمر، وأحمد زويل العالم الكيميائي المصري الأميركي الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لأبحاثه في مجال كيمياء الفيمتو، حيث اخترع ميكروسكوباً يقوم بتصوير أشعة الليزر في زمن مقداره فمتوثانية، وسعيد الطيبي الفلسطيني ومجاله الطب الوراثي وقد اكتشف 35 مُتلازمةً جينية، ومايكل عطية عالم الرياضيات اللبناني المُتخصّص في عِلم الهندسة والحاصل على جائزة فيلدز في الرياضيات، ومحمّد النشائي عالِم الفيزياء المصري الذي صحّح بعض الأخطاء والمفاهيم العلمية التي حوتها نظرية النسبية العامة لأينشتاين وصاحب نظرية القوى الأساسية الموحَّدة، وصالح جواد الوكيل عالم الكيمياء العراقي الذي ترأّس قسم الكيمياء الحيوية في كلية بايلور للطب في هيوستن، ووصفته مجلة نيوزويك بأينشتاين الطب، وجعفر ضياء جعفر العالِم النووي العراقي.</p> <p>هناك أسماءٌ عربية كثيرة أخرى أسهمت في خدمة الحضارة في القرن العشرين، لكن بشكلٍ فردي وفي بلادٍ غير بلادها وفّرت لها مراكز أبحاثٍ تسمح بتقدُّم العلوم.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: تحيّةً لكم من أجراس المشرق، أحيّيك دكتور سيار الجميل، أشكرك سيّدي على تلبية هذه الدعوة ونحن منذ زمنٍ نفكِّر في هذا الحوار وكنا نأمل أن نستقبلك في بيروت، لكن لله والكورونا أمرٌ عجيب. سيّدي أبدأ بالحديث معك بخلاصاتٍ أولى، بماذا يرتبط تكوين العرب الحديث؟</p> <p>سيار الجميل: بادئ ذي بدء أشكرك عزيزي الدكتور غسان وأعتزّ اعتزازاً كبيراً ببرنامجك الفكري والثقافي الذي أستمتع به من حينٍ إلى آخر، وكنت آمل أن أكون معكم في الاستديو ولكن الظروف لم تسمح لنا بذلك كما قلت.</p> <p>غسان الشامي: ونحن نرحِّب بك ضيفاً عزيزاً.</p> <p>سيار الجميل: شكراً عزيزي. بالنسبة إلى هذا التكوين فهو تكوين تاريخي مُتنوّع مُتعدّد، بنيته قوية جداً في التاريخ، وهو مُتلوّنٌ أيضاً منذ أعماق هذا التاريخ حتى يومنا هذا، وقد مرّ بمساحاتٍ ومسافاتٍ يتموّج فيها صعوداً نحو الأعلى ثم يهوي إلى الأسفل في حركةٍ حلزونية كالأمواج تمشي به نحو المستقبل، ولكنه غير مُنقطِع رغم التحديات الكثيرة مقارنةً بتكوينات شعوب أخرى تاريخية، وتنوُّعه ليس تاريخياً فقط بل هو تنوّعٌ جغرافي أي بيئات ثقافية مُتنوّعة ربما تنسجم ضمن محاور أساسية وربما تختلف ضمن محاور فرعية، وتكوين العرب الحديث الذي اشتغلتُ عليه منذ أربعين سنة.</p> <p>غسان الشامي: العمر المديد.</p> <p>سيار الجميل :أدامك الله، فيه المزيد من التعقيدات والكشوفات والتراكيب ولكنه تاريخ مُمتع جداً ولا ينتهي عند فجوةٍ واحدة بل له اتّساعه وله تعدّديّته الاجتماعية، الأنثروبولوجية كعلم إنسان، الثقافية لأن ثقافته لم تنقطع أبداً، وعبثاً قالوا إنه تاريخٌ مظلم أو فترة ظلامية، صحيح أنه كانت هناك تحديات واجهت هذا التكوين في المشرق والمغرب.</p> <p>غسان الشامي: دكتور ولكن بعد إذنك ألا يوجد انقطاع في تكوين العرب، مثلاً هناك فجوات، في أمكنة لم يتّكئوا على تاريخ العرب القديم بل اتّكأوا على المُتأخّر منه. &nbsp;</p> <p>سيار الجميل :رؤيتي مختلفة عما هو سائد في الرؤية إلى هذا التكوين، إنه تكوينٌ يختلف إذا كان سياسياً عنه اجتماعياً. التكوين الحضاري لهذه الأمّة هو غير تكويناتها السياسية وما واجهته في السياسة، التاريخ السياسي شيء والتاريخ الحضاري لها شيءٌ آخر، لكن الانقطاعات موجودة في كل الأمم، ليس هناك أممٌ من دون انقطاعات ولكن لنقُل إن هناك أمماً اندثرت منذ زمنٍ طويل وماتت، ماتت لغتها، ماتت آثارها، التكوين العربي حيٌّ يُرزَق حتى يومنا هذا منذ 2500 سنة، هو موصول أي أنه قد يصعد نحو الأعلى ثم تنزل به المقادير إلى الأسفل ولكنه يستعيد عافيته من جديد.</p> <p>غسان الشامي: البعض يرى أن الاتّكاء في تكوين الشخصية العربية الحديثة يعتمد على انفصالٍ مُعيّنٍ عن العصر القديم والوسيط، وهو يتّكئ على الخمسمائة سنة الأخيرة من تاريخ العرب.</p> <p>سيار الجميل: اليوم لأننا في القرن العشرين عشنا بقايا أربعة قرونٍ مضت وهذا أمر طبيعي، لكن اليوم هو حال مُتجدّدة وقد نشرتُ ذلك. أنا أتأمّل أن هناك بداية جديدة ولكن مع نهاية هذا القرن أي عندما يكتمل هذا العصر الذي بدأ مع نهاية الثامن عشر ستنتهي ثلاثمئة سنة كي يبدأ التكوين من جديد ويقفل تكوينه الحديث هذا الذي عشنا بقاياه. أنا دائماً أقارن بينه وبين تكوينات الأمم الأخرى، صحيح أنه واجه تحديات كبيرة جداً على امتداد هذه الثلاثمائة سنة ومن قبلها الثلاثمائة سنة التي سبقتها ولكنه حيّ ولم يمت حتى الآن. ربّما نجد الانتكاسة في الثقافة، في المجتمعات التي تتمزَّق، في الحروب التي صنعتها السياسات المختلفة ولكن يبقى التكوين موجوداً ويمشي نحو المستقبل.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: مررتَ على السياسات في تكوين العرب الحديث،الاستعمار واحد من هذه السياسات، بعد الحرب العالمية الأولى ساهم الاستعمار في زعزعة تكوين الدول العربية وهي كانت دولاً عربية ناشئة، إلى أيّ مدى أثّر الاستعمار في فكفكة بنية التكوين العربي؟&nbsp;</p> <p>سيار الجميل :التكوين العربي لم يكن ما قبل مرحلة الاستعمار في حالٍ زاهية أبداً، كانت هناك مجتمعات بدائية، وكانت هناك مدن مزدهرة في الصناعات وفي الثقافات المُتداولة التقليدية، لكن عندما جاءت الحرب العالمية الأولى بدأت مرحلة جديدة، هذه المرحلة قد نُسمّيها من صناعة هذا الاستعمار أو ذاك سواء كان فرنسياً أو بريطانياً أو إيطالياً أو إسبانياً، لكن لو عدنا إلى مفهوم الدولة لم تكن هناك دولة بالمعنى الحقيقي أولاً لأن هناك تكوينات عربية واسعة تخضع للدولة العثمانية. هناك دول تقليدية كالمغرب، سلطنة عُمان، دول تقليدية تعيش منذ القرن السابع عشر أو الثامن عشر أو التاسع عشر كالسعودية. مفهوم الدولة الحديثة لم يتبلور، صناعة هذه الدول التي أسمّيها بالكيانات وقد قلتُ هذا مراراً لأنه حتى الآن لم يكتمل بناء الدولة العربية، الدولة بمفهومها الحقيقي لأن الدولة هي مجموعة مؤسّسات، هذه المؤسّسات لم نجدها في هذه الدول العربية حتى يومنا هذا، هناك أجهزة ودوائر لكن كمفهوم دولة لم نجدها حتى الآن، مخاضات عديدة سواء في مرحلة ما بين الحربين أو مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أو الثلاثين سنة الأخيرة من القرن العشرين، وما عانته المجتمعات العربية ككل. أيضاً العقل الاجتماعي لم يتوفّر، ليس فقط أدين هذا الاستعمار بأشكاله المُتنوّعة كيف مزَّق هذه المجتمعات وصنع منها كيانات، لكن هناك بقايا قديمة أثّرت تأثيراً سلبياً على تفكير الإنسان، على أسلوبه في الحياة رغم أن المجتمعات عاشت في القرن العشرين وكانت هناك تحديات واسعة من قِبَل الأنظمة السياسية التي عاشت في القرن العشرين، ولكن اليوم نعاني من مشاكل أخرى، من تمزُّق هذه المجتمعات على نفسها وهذا هو الخطير في الموضوع، وربّما سيأخذ فترة طويلة كي يُعالج نفسه بنفسه خلال القرن الواحد والعشرين.</p> <p>غسان الشامي: دكتور سيار أنت ذكرتَ هذا التمزّق، الواقع أن المجتمعات العربية هي مجتمعات مأزومة تكوينياً، وبحثُك في تكوين هذه المجتمعات ودليل مأزومية التربية فَهْم الدين أو توسُّله داخل المجتمعات العربية. هذه المأزوميات كيف يمكن الخروج منها لتكوين هذه الشخصية العربية؟&nbsp;</p> <p>سيار الجميل :كان هناك مجال مهم جداً في القرن التاسع عشر وخصوصاً في النصف الثاني منه في بعض البيئات العربية، مثلاً أقارن مصر ولبنان، التكوين الحديث ظهر في كل من البيئتين واستمرّ وأثّر على بقية أجزاء المجتمع العربي أو المجتمعات العربية، لكن الأزمة تضخّمت يوماً بعد يوم بفعل سوء التفكير الموجود، غلبت الأيديولوجيات السياسية على المجتمعات من خلال الأحزاب، وظهور هذه الأحزاب السياسية الكثيرة في القرن العشرين كانت تعبيراً عما تعيشه المجتمعات العربية من تمزّقات لكن بأغطية، بأوراق توت سياسية، منها ما سبق الحرب العالمية الثانية، منها ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنها ما جاء في زمن الديكتاتوريات. إذاً نحن الآن نعيش مخاضاً صعباً أو صراعاً بين أجيال، أجيال تركها لنا القرن العشرين تعيش حتى هذا اليوم وهي كبيرة في السن، وأقول إنها إنْ لم تعش هذا العصر فلتنعزل قليلاً لأن هذه الأجيال المُتطلّعة إلى عصرٍ جديد لا يفهمه القدماء. اليوم هو عصر جديد لأجيال قادمة تبني نفسها على أسسٍ غير الأسس التي عاشتها الأجيال الثلاثة في القرن العشرين وكانت مأزومة وشعاراتية، لم تكن واقعية، لم تقرأ تلك الأجيال الثلاثة في القرن العشرين حال التكوين العربي، حال أن هناك تعايشاً كان موجوداً على امتداد قرونٍ طويلة في المجتمع، لماذا افتُقِد ذلك التعايش؟ لماذا رُكِّز على الأقليات والأغلبيات وغاب مفهوم المواطنة، أسئلة عديدة، لماذا بقي جيلٌ كامل يدور ضمن منظومة فكرية أيديولوجية واحدة من دون أن يُغيّر نفسه؟ إذاً نحن الآن أمام مأزق في بناء القرن الواحد والعشرين، لا يتدخّل أبناء القرن الماضي في تفكير أبناء الجيل الجديد.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: أليس هذا محاولة قطع معرفية أيضاً؟&nbsp;</p> <p>سيار الجميل :لا تُسمَّى بالقطيعة التاريخية بل القطيعة المعرفية بمعنى أنّ مَن لم يجد نفسه صالحاً لهذا العصر فليركن جانباً ولا يتدخّل في شؤون هذا العصر لأن هذا العصر يحتاج إلى تجديدٍ في المناهج التعليمية. نحن منذ سبعين عاماً لم نجدّد مناهجنا على طول الساحة العربية، في حين أن أمماً أخرى تجدّد مناهجها كل خمس سنوات أو كل عشر سنوات في بيئاتٍ أخرى. ثانياً القوانين لم تُجدَّد حتى اليوم وقد قلتُ هذا مراراً وتكراراً، التشريعات ما زالت موجودة سواء قوانين أساسية أو دساتير تقليدية، كل واحد يأخذها من الآخر من دون أن تجد هذه الدساتير والتشريعات والقوانين تجديداً لها في مثل هذا العصر، العصر هذا يختلف تماماً عن القرن العشرين كما اختلف القرن العشرين عن سابقه القرن التاسع عشر، ولكن علينا إحياء الرموز الأساسية التي ساهمت في النهضة لأن النهضة التي شهدتها هذه المجتمعات وخصوصاً في عهد الاستنارة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، علينا أن نستعيدها كرموزٍ لكي نبني شيئاً جديداً للقرن الواحد والعشرين، وإلا إذا بقيت هذه الحال فسيستمر الزمن، يأكل المجتمع بعضه بعضاً وتستمر التقاليد كما هي كما كانت مألوفة في القرن العشرين ونتأخّر تماماً عن حياة العصر.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: دكتور برأيك لماذا وكيف أُجهضت النهضة العربية الثانية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين؟</p> <p>سيار الجميل :العوامل عديدة، تاريخية، فكرية، سياسية وأخطرها العوامل السياسية، الانبهار بالغرب من دون فَهْمه، كما يجري اليوم الانبهار بالصين من دون فَهْمها، من دون فَهْم المجالات الحيوية في العالم، كيف نحن في أي مكان من العالم نتوسّط العالم ولكننا لا نفهم مواقعنا الجغرافية منه اليوم وأهميّتها. التأثير الخارجي علينا كان كبيراً جداً بحيث أخذ هو يُهَنْدِس حياة هذه المجتمعات، في حين أن هناك أقاليم أخرى في الشرق الأوسط هي التي هَنْدَست نفسها، هي التي قادت حروب الاستقلال بذاتها واستطاعت أن تكوّن دولها ومؤسّساتها من جديد بعد مخاضاتٍ طويلة وإرثٍ إمبراطوري واسع. المجتمعات العربية أيضاً وهذا ما ألحّ عليه لا بدّ من أن تجدّد أسلوب التفكير وترجع إلى نفسها لكي تعيش، لماذا كان هناك روّاد نهضة؟ لأنهم بدأوا بنقد ذاتهم، نحن لم نعش حال نقد ذات.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: دكتور سيار إسمح لنا أن نذهب إلى فاصل على أن نعود للحوار معك، وكم كنت أتمنّى أن يكون هذا الحوار وجاهياً. أعزائي انتظرونا بعد الفاصل في حوارنا مع الدكتور سيار الجميل عن تكوين العرب الحديث وأشياء أخرى.</p> <p>المحور الثاني:</p> <p>غسان الشامي: تحيةً لكم مُجدّداً من أجراس المشرق، دكتور سيار الجميل سيّدي أين تكمُن جذور العروبيين في تكوين العرب الحديث؟&nbsp;</p> <p>سيار الجميل: هذه إشكالية أثرتها أكثر من مرة.</p> <p>غسان الشامي: نعموأنا استللتُ ذلك مما كتبتَ.</p> <p>سيار الجميل: أرى أن هناك فرقاً شاسعاً جداً بين مُصطلح العروبة والعروبيين ومُصطلح الفكرة القومية والقوميين لأن هذه العروبة عمرها أكثر من 2500 سنة أي أنها موغلة في التاريخ، والشواهد كثيرة تاريخياً ولا يمكن حصرها ولكن الفكر القومي وليد التأثّر بالفكرة القومية الأوروبية كحال بقيّة الشعوب، وجاءت مع بداية القرن العشرين، فمَن تقصد يا عزيزي؟ هناك دمج أو حاولوا دمج المُصطلحيْن مع بعضهما ولكنهم لم يوفَّقوا لأنهم لم يفهموا تاريخ العرب كما يجب. قال السياسيون إن الفكرة قومية وأدخلوا فيها العروبة وتمّ تأليف كتب باسم العروبة أولاً والعروبة ثانياً وثالثاً ولكن هل يقصدون بذلك العروبة القديمة المتوارَثة في المجتمع؟ في المدارس؟ في الأشعار؟ في التراث الموغِل حتى كِندة واليمن القديم أم أنهم يقصدون الفكرة القومية التي تختلف تماماً عن هذا الميراث العروبي التاريخي.</p> <p>غسان الشامي: بماذا تختلف؟&nbsp;</p> <p>سيار الجميل: تختلف بأنها أخذت غطاءً سياسياً وتأسّست فيها جمعيات وأحزاب واتجاهات وتيارات، ولا تزال بقاياها موجودة حتى اليوم، تنشط باسم البعثيين أو الحركيين أو الناصريين أو الحركة العربية إلى آخره، لكن العروبة بشكل كبير هي مفهوم تاريخي يجمع الثقافة، التفكير، التعايش، القِيَم القديمة المُتوارَثة، يجمع الفرق الكبير في أسلوب الحياة بين مجتمعاتٍ قديمة جداً، بين مجتمع البدو ومجتمع الحَضَر والفرق الكبير بين الجانبين، فيها مُتنفَّس غير سلطوي لكنه قد يكون موروثاً حتى عند الأطفال، اللغة، هذه اللغة العظيمة التي لم تمت أبداً عكس عائلة لغوية أخرى مثل الآرامية والهيبرو من نفس العائلة، تلكما اللغتان ماتتا، الآرامية اندثرت أوتكاد تكون ميّتة اليوم إزاء العربية التي هي من نفس العائلة ولكنها باقية حتى يومنا هذا. هناك أشياء كثيرة في العروبة أتمنّى أن تفهمها الأجيال الجديدة مع وجود الفكرة القومية وتنظيفها مما علق بها سياسياً وليس ثقافياً أو تاريخياً أو ما شابه ذلك. &nbsp;&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: سيّدي إذا انتقلنا أو جاز لنا الانتقال من تكوين العرب الحديث إلى تكوين العرب المعاصر أي ما نعيشه الآن، هذه العروبة في التكوين كيف توصّفها؟&nbsp;</p> <p>سيار الجميل :لا يمكن التخلّي عنها، وجدتُ في أماكن عديدة من العالم أن هناك أقليات في الظاهر تكره العربية والعروبة، هي أقليات قديمة موجودة أو مُستحدثة ولكن لا تستطيع الاستغناء عنها في التجارة، في التسويق، في الثقافة، في الإعلانات، في العالم ككل. العروبة تحتاج إلى فَهْمٍ جديد وهو ما أُطلق عليه "العروبة الجديدة"، ليست المُتداولة سابقاً والمُنحصرة سياسياً أو أيديولوجياً ضمن أحزاب، الاهتمام بتعليم هذه العروبة وتاريخها، ما هي الأشياء الأساسية التي يُغالي بها حتى بعض المُستشرقين عندما يُجيدون التحدّث بهذه اللغة ويعتزّون بالعروبة. العروبة هي نزعة حضارية ولن تأخذ الناس إلى الجحيم أو إلى حالٍ مُتردّية من التوحّش، فقط إذا تعلّم الجيل الجديد كيف يستخدم لسان العرب بمجلّداته العديدة، كيف يتمتّع بهذه السِمة التي طغت على تكوين العرب الثقافي، الشعر العربي الذي تميَّز به العرب. قد تكون هناك شعوب أخرى تميّزت بالإلياذة، بالمسرح، بالمصارعة الرومانية، بالقصّ في الهند، بالفلسفة إلى آخره، أما العرب فهم أصحاب المَلَكة الشعرية، هذا يحتاج إلى تدريب، ألا أترك الجيل الجديد بمواهبه. ترى اليوم يا عزيزي أن هناك أزمة في الطرب العربي، لم نجده كما كان سابقاً وعماده الشعر العربي، نجد أزمة في التعليم العربي، أساتذة ودكاترة وأصحاب ألقاب علمية لا يجيدون تركيب جملة مفيدة واضحة.</p> <p>غسان الشامي: الفعل والفاعل والمفعول به.</p> <p>سيار الجميل :هذا غير موجود، هناك أمور كثيرة ترتبط ارتباطاً أساسياً بهذا الموضوع "العروبة"، لم نستورد شيئاً من أماكن أخرى، ربّما نستفيد من شعوبٍ أخرى في طُرق التفكير، في طرق التعليم، في المناهج كما نجدها اليوم في أكثر من مكان، في أكثر من جامعة لكن هذا الانغلاق، هذه التقاليد الرثّة الموروثة، هذه التصدّعات برفع الشعارات، ما زلنا نرفع الشعارات منذ 50 أو 60 سنة، هذه لا تفيد سواء باسم القومية أو باسم نزعات سياسية أخرى عديدة شبعت منها الأجيال القديمة.</p> <p>غسان الشامي: دكتور سيار أنت تتكلّم عن الماضوية، الماضوية لصيقة بالعقل والتكوين العربي، هل يمكن أن يذهب العرب إلى المستقبل وليس لديهم سوى أمس وما قبل الأمس؟&nbsp;</p> <p>سيار الجميل: القطيعة التاريخية هنا شيء والقطيعة المعرفية شيء آخر، القطيعة هي فَهْم الشيء لا التخلّي عنه، عندما أفهم هذا التاريخ بشكلٍ يمنحني ليس فقط الثقة وإنما المعرفة بما هو جيّد وغير جيّد وبما هو إيجابي وسلبي، هذا حسن لدراسته في بناء الأجيال القادمة. هناك أمور كثيرة، نُحسِن تربية أبنائنا على تفكيرٍ جديد لا يتخلى تماماً، ربّما تجد اليوم فوّهة فكرية حول تاريخنا هذا سواء القديم أو الإسلامي أو الحديث، ليست هناك مناهج حتى هذا اليوم كي توحّد الفَهْم، كيف نرى من خلال القطيعة المعرفية التاريخ العباسي ب 550 سنة، كيف نرى التاريخ العثماني ب 631 سنة، كيف نرى التواريخ الأخرى التي نحن أصحابها، لا يأتيني مستشرق ويدرس هذا التاريخ ونتعلّم من طريقته ولكن المفروض أن أبناء هذا التاريخ هم الذين يفهمون تاريخهم ويعلّمونه لأبنائهم من خلال القطيعة المعرفية وليس من خلال هذا التاريخ الانقسامي، أسبّ وأشتم في هذه الإمبراطورية وبهذا التاريخ، هذه المحنة ستستمر كما قلتُ طوال القرن الواحد والعشرين ولكنها لن تسوء.</p> <p>غسان الشامي: بشّرك الله بالخير دكتور سيار.&nbsp;</p> <p>سيار الجميل :هذا التكوين ليس عقيماً، قد نشهد نماذج مُتعدّدة، صراعات، منافسات، متى ما توفّر جيل يفكّر، يستوعب، يرسم خطوطاً مشتركة بعيداً عن الفكر السياسي لأن الفكر السياسي هو الذي يتحدّى الفكر المعرفي، أن يحترم الإنسان الآخر.</p> <p>غسان الشامي: نحن عشنا فترة طويلة تحت سطوة الفكر السطحي الشعاراتي ولكن أريد أن أسألك في مسارب أخرى من أبحاثك، أعتذر من السادة المشاهدين الأبحاث كثيرة للدكتور سيار ولكن هناك تحوُّلات حصلت في بلاد العرب وأنت كتبت عنها، أنا أتمنّى عليك أن تلخّص لنا قليلاً مفاصل التحوُّلات العربية الكبرى.</p> <p>سيار الجميل :لو أخذنا فقط المئتي سنة الماضية أي القرن التاسع عشر والعشرين ونقف وقفةً نقدية وتأمّلية ومقارنة بين الصدمة التي جاءت مع نابليون والتي يختلف بها الإخوة المصريون خصوصاً حول إذا ما هي إيجابية أم سلبية، هي صدمة تاريخية نقلت المجتمع المصري من السابع عشر والثامن عشر بكل توحُّشه إلى حال جديدة توفّرت لها زعامة نهضوية باسم محمد علي، وبدأت مصر تنطلق على مدى 150 سنة. الاتصال أيضاً مع العالم في لبنان في القرن التاسع عشر، التنظيمات وتأثيرها في الثلاثين سنة الثانية من القرن التاسع عشر، الفكرة الدستورية التي نادى بها العرب قبل أي شعبٍ من الشعوب في المنطقة، خير الدين باشا التونسي أظهرالفكرة الدستورية قبل غيره في تونس، ثم جاء المُستنيرون في فترة الاستنارة في نهاية القرن التاسع عشر واستمرّت ذيولها ما بين الحربين، استنارة في اللغة، استنارة في كتابة التاريخ، استنارة في المقالة، في الصحافة، هذه الاستنارة يجب أن نعيد النظر فيها، ماذا نستفيد من الأوائل؟ ماذا نستفيد من الناس الذين كتبوا قواميس ومعاجم ونشروا خرائط وأطالس في المنطقة ككل، ترجموا الفلسفة الإغريقية إلى العربية، كُتب أرسطوطاليس وأفلاطون تُرجِمت إلى العربية، الكتابات الموسوعية سواء جرجي زيدان أو غيره، الوعي بالتمدّن كيف كان إلى آخره من الانطلاقة عند المُستنيرين كُبح جماحه من قِبَل السياسيين والسلطات التي جاءت بعد ذلك، ولا ننسى أن العرب انشغل تفكيرهم بعد الحرب العالمية الثانية بكيانٍ خطير ساهم الاستعمار بصنعه في قلب أمّتهم ألا وهو إسرائيل. أخذتنا أيضاً موجة من الشعارات والسياسات منها ما كان صادقاً، منها ما كان قد لبس هذا اللبوس، من أجل فلسطين نفعل ما نشاء، ولم تحقّق هذه الكيانات ولا الأجيال التي جاءت بعدها أي حيّزٍ يمكن أن ينطلق منه المجتمع ثانيةً حتى وصلنا إلى عهد المُستبدّين، المُستبدّون في مجتمعاتنا نخروا هذه المجتمعات، ساهموا في تدمير العقل العربي وإن كنتُ أضع علامة استفهام حول كلمة العقل العربي لأن العقل واحد وليس كما يقول المرحوم محمد عابد الجابري إن العقل هو واحد، ولكن الثقافة ضعُفت خصوصاً بعد 1967، التعليم ضعُف كثيراً، سيادة القانون غير موجودة.</p> <p>غسان الشامي: دكتور سيار لا يمكن أن ننهي هذا الحوار معك إلا بأن نترك ملامح ضوء للمستقبل، سؤالي هل من خطابٍ عربي للمستقبل؟ إذا لم يكن موجوداً كيف يمكن أن نبتدعه؟ هل يمكن أن نصبح نحن أبناء هذه المنطقة أبناء الغد وبعد الغد وليس أبناء الأمس وما قبل الأمس؟ &nbsp;</p> <p>سيار الجميل: طبيعي لكن بمعزلٍ عن السلطات، عزيزي لا أنت ولا أنا ولا كل هذه الفئات التي تدّعي الثقافة مثلاً يمكنها أن تفعل شيئاً إلا بالمُناداة لأن الذي يصيغ القوانين ويصدر التشريعات هي حكومات، إذا لم تنتبه هذه المجتمعات إلى حكوماتها لكي تطالبها بتحسين التعليم، رعاية الجيل الجديد، رعاية الموهوبين أساساً، تغيير المناهج، إصدار قوانين جديدة، والمشكلة مضاعفة لأنه مَن يقوم بذلك؟ لو بقينا ننادي مَن يقوم بذلك؟ التربية والتعليم يحتاجان إلى مُفتّشين وإلى هيئات قوية جداً، الجامعات تحتاج إلى تقويمٍ جذري لأن جامعاتنا تحوّلت إلى شبه مدارس لأمّيين مع الأسف.</p> <p>غسان الشامي: نحتاج إلى الكثير وها هو الوقت ينتهي على أمل لقاءٍ آخر، شكراً جداً دكتور سيار الجميل.</p> <p>سيار الجميل :أشكرك عزيزي دكتور غسان وتحياتي لكم جميعاً ولكل الأصدقاء في العالم.</p> <p>غسان الشامي: أعزائي كيف يمكن تجسير الهوّة مع المُتألّق من الماضي وشقّ طريقٍ نحو المستقبل؟ كيف يكون لنا مكانٌ ما تحت شمس هذا العالم؟ هذا سؤالٌ ممضٌّ لكن علينا الإجابة عليه. شكراً للدكتورسيار الجميل على حضوره في أجراس المشرق، شكراً جمّاً لزملائي في البرنامج والميادين على جهدهم، أيامكم معرفة، سلامٌ عليكم وسلامٌ لكم.&nbsp;</p> <p>&nbsp;</p>