مع الأسير الفلسطيني المحرر محمود العارضة
في هذه الحلقة الخاصة من برنامج "اذهب أعمق"، نغوص في سيرة أحد أبرز رموز الحركة الأسيرة: محمود العارضة، قائد "نفق الحريّة" ومهندس "الطريق إلى القدس". من جنين خزّان المقاومين إلى غزّة الصامدة، تتقاطع فصول النضال الفلسطيني في حكاية أسيرٍ حوّل الزنزانة إلى ميدانٍ للتحرّر. نفتح في هذه الحلقة ملف الحركة الأسيرة، ونستعرض رمزية العارضة في توحيد الساحات بين الضفة وغزة والقدس، ودوره في صياغة الوعي المقاوم داخل السجون وخارجها. حوار يقرأ في عمق التجربة، وفي المعنى الإنساني والسياسي لمقاومةٍ لا تُقهر.
نص الحلقة
مايا رزق: 139 في عِلم الأرقام يرمز هذا الرقم إلى الرسالة والإلهام. يشير إلى شخص يحمل فكرة يريد أن يعبّر عنها لخدمة الآخرين. حقيقة لم يعلمها الاحتلال الإسرائيلي عندما اختار زنزانة ضيّقة للغاية حملت رقم 139، زُجّ فيها أول أسير في الثورة الفلسطينية المُعاصرة.
محمود حجازي: الإسم محمود بكري محمد حجازي، مواليد القدس عام 1936. كان أيام الإضراب الأولى، أكبر إضراب كان في تاريخ الشعب الفلسطيني، نشأت وترعرعت في حِمَى المسجد الأقصى وقبّة الصخرة، والناس الطيّبين الصالحين، وفي أزقّة وشوارع القدس.
مايا رزق: محمود بكر حجازي، الشاب المقدسي الذي خرقت إحدى رصاصات الاحتلال جسده الصغير وهو في سن الـ12. عاش تفاصيل مجزرة دير ياسين، فكانت نقطة التحوّل وقت ذاك. استقبلت عائلة حجازي جرحى المذبحة المُضرّجين بالدماء، وكانت الصرخة واحدة: "يا للويل! لقد أتوا لأخذ بلدنا".
محمود قرّر الدفاع عن البلاد، فشارك في عملية فدائية في بلدة جبرين، فجّر جسراً يستخدمه الاحتلال ممرّاً لعملياته، وقتل 24 إسرائيلياً.
عن ليلة السابع من كانون الثاني (يناير) عام 65، يقول حجازي: "إن الإيمان بالقضية وبالتحرير كان أقوى من كل الأسلحة خلال العملية". وبعد التفجير، أُصيب حجازي بنيران الاحتلال ونُقِل إلى سجن الرملة.
حُكِم عليه لمدة 30 عاماً في زنزانة صغيرة مع صحن وكوب بلاستيكي، وحشرات لازمته صيفاً وشتاءً، بحضور جندي إسرائيلي معه كظلّه، إلى أن حصل ما لم يكن في الحِسبان:
أول صفقة تبادُل للأسرى: أسير مقابل أسير. محمود حجازي مقابل الجندي الإسرائيلي شموئيل فايزر، وكان عناق الحرية مطلع عام 71.
محمود حجازي: "أنتم يا أسرانا البواسِل، أنتم الحقّ وهم الباطل. إن الباطل كان زهوقاً. اذهبوا عن أرضنا! اذهبوا عن أرضنا! لا مكان لإرهابي بيننا. إننا طلاب سلام، طلاب حرية، طلاب حقّ. هذه أرضي، وكل حَصاها من دمي ومن بدني."
مايا رزق: مليون محمود أسَرَتهم إسرائيل منذ عام 67 بظروف لا تمّت للإنسانية بصلة. ففي زنازين الاحتلال، يتحوّل الجوع إلى عِقاب، والنوم إلى امتياز، والحياة إلى طابور من الأوامر والإهانات. وَجَبات لا تكفي طفلاً، وشاي بارد، وأجساد ترتجف على بطانيات ملوّثة تنقل المرض والقَهْر. حتى الحلاقة تتحوّل إلى طقس إذلال يومي.
زنازين لا تفرّق بين شاب وامرأة وطفل.
إبراهيم أبو غالي: عُمري سبع سنوات عندما جاء إلينا الجيش. كنت عند دار سيدي. جاؤوا عند الخامسة والنصف صباحاً، أخذونا، بَطَحُونا، عفّوا المنزل. جدّتي طلعت لتفقّد الأذان، فقتلوها. عندما أخذونا، حملوني بفوهة النمر وذهبوا بي للجلمة.
أتوا بنيلون وغطّونا به، ثم جلسوا يضحكون علينا. وضعونا ساعة في غرفة كبيرة، ثم أرسلونا إلى غرفة صغيرة. دخلوا كلهم، دخّنوا وأكلوا وشربوا، وضربوني على ظهري. وحتى الآن هناك أثر لها.
مايا رزق: وما بين محمود حجازي والطفل إبراهيم أبو غالي، مليون قصة لأسير وأكثر. قصص نسبة القَهْر والتعذيب والقتل فيها فاقت أيّ تخيّل عقب السابع من أكتوبر.
مايا رزق: مليون قصّة أَسْر وأكثر. بعضها رُويَ، وبعضها ظلّ أسير الجدران، وبعضها سطّرته أحرف من ذهب في كتب تاريخ النضال وانتزاع الحرية.
نفق الحرية الذي هَنْدَسه ستة أسرى فلسطينيين للتحرّر من سجن جلبوع، المعروف بالقلعة الأمنية الإسرائيلية.
فعلها الأسرى بطريقة ربما لم تخطر ببال أهم مُخرجي الأفلام الهوليوودية، ولا تزال أسرارها طيّ الكتِمان.
فعلها الأبطال الستة، واختصروا للعالم مسار الأسْر الذي يبدأ بظلم المحتلّ ولا ينتهي إلا بالتحرّر. عن هذا المسار النضالي الذي يمتد لقرن، نذهب أعمق مع مهندس عملية نفق الحرية، الأسير المحرّر محمود العارضة.
أهلاً ومرحباً بك محمود عبر شاشة الميادين.
محمود العارضة: أهلاً بك، أستاذة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مايا رزق: وعليكم السلام.
محمود العارضة: أقدّم لكم تحيّة لهذه القناة المباركة.
مايا رزق: محمود، يُقال إن مَن يتحرّر من الأسْر لا يعيش الفرحة كما يتخيّل البعض، بل ما يعيشه هو الصدمة: صدمة الحرية.
هل يمكن أن تضع لنا في كلمات فعلاً ما الذي شعرت به عند تلك اللحظة؟
محمود العارضة: بداية، أقدّم التحيّة لقناتكم الموقّرة ومديرها الكبير والحبيب الأخ الأستاذ غسان بن جدو، ولكِ الأخت العزيزة. فقناتكم رافقتنا طوال مرحلة العَزْل الانفرادي. ولولا الإعلام العربي المقاوِم، وكل مَن تحدّث من الإعلاميين عن قضية الأسرى، وكان وضع الأسرى المعزولين على خلفية نفق الحرية كارثياً وصعباً، وتركيز الموضوع علينا كان له أثر كبير.
موضوع صدمة الحرية هذا أمر لا يمكن وصفه إن لم تعيشي الحال. الحرية هي خاصيّة الإنسان، كما أن خاصيّة النار الإحراق. فإن خاصيّة الإحراق ذهبت من النار، لا تصبح ناراً. وعندما تنتزعين الحرية من الإنسان، تنتزعين إنسانيّته. وهو يحاول نزع إنسانيّتنا، ونحن نستعيدها بكل الطرق، ونحاول استعادتها من خلال نفق الحرية. بذلنا جهداً كي نستعيد إنسانيّتنا.
الصدمة التي نواجهها الأكبر كأسرى: أن الأسير عندما يدخل ويتمّ اعتقاله، قطار يتوقّف. تدخل لأربعة جدران، لا يرى الإنسان سوى أربعة جدران. في اليوم التالي: أربع جدران. والذي يليه: هناك روتين يومي يتكرّر 40 عاماً. عندما يخرج الأسير، يجد كل شيء مُتغيّراً. أنا أول ما دخلت القرية وشاهدت الناس، تفاجأت جداً بحجم البيوت الكبيرة والسيارات الكبيرة. كل شيء مختلف. كانت صدمتنا كبيرة جداً. وهذه المرة، عندما انتقلت، انتقلت من الحافلة، والحافلة لم تتغيّر منذ 30 عاماً، نزلت من الحافلة للحافلة المصرية. كانت صدمتنا كبيرة بالتكنولوجيا والجوّ. تنفّسنا هواءً لم نتنفّسه من قبل. فقط نحن جرّبناه بعدما خرجنا من النفق. لكن عندما دخلنا الحافلة المصرية، كان الفرق كبيراً وهائلاً وسنوات ضوئية.
مايا رزق: والأمر جليّ على وجهك. وهذه الابتسامة... سأسألك بعد قليل كيف رأيت هذا العالم. ولكن نعود قليلاً: أربعة أيام إلى الوراء، الإثنين الثالث عشر من أكتوبر 2025. كيف تلقّيت خبر التحرّر؟ ومَن أخبرك به؟
محمود العارضة: حقيقة، كنا مقطوعين من كل الوسائل. كل وسائل الاتصال مقطوعة في حصار كبير وشديد، وخصوصاً على المعزولين. حتى القسم كنا نتلقّى الأخبار من القسم، نقلوا القسم من جانبنا حتى لا يوصِل لنا الأخبار، وأبعدونا عن الأقسام كثيراً، وعزلونا عن الأسرى الجنائيين حتى لا يوصِلوا لنا أية معلومة.
في ليلة جَمْع، الأسرى سمعوا إدارة السجون أخّرت العدد، ودخلت على أقسام، وبدأت تخرج بعشرات الأسرى. كان هناك إحساس أن هناك أمراً يجري. أولاً اعتقدنا أن هناك عملية نقل، لكن لم نسمع صوت الكلاب، ولم نسمع صوت إطلاق النار أو القنابل الصوتية. لأنهم عندما يريدون نقل قسم أو غرفة، يدخلون بالقنابل الصوتية، ويفلتون الكلاب البوليسية، وتحدث ضجّة كبيرة. لكن في ذلك اليوم كان هناك هدوء. وسمعنا صوت الأسرى: "استعجل، وما في وقت". فنحن بدأنا نستشعر أن الموضوع جدّي، والأمر اقترب من النهاية.
عند الساعة الحادية عشرة، جاء مسؤول القسم وأخبرني: "أنت محمود، مُفْرَج عنك". ارتديت الزيّ الرسمي للسجن من دون أغراض. كانت المفاجأة الكبيرة والصدمة الكبيرة. في البداية، حقيقة، نحن كلنا - الأسماء كل الأسماء - الأعلام الموجودة: حسن سلامة، وأبو إبراهيم حامد، وقيادات القسّام موجودة، وقيادات السرايا موجودة، أنس جرادات. توقّعونا، خصوصاً وأننا سمعنا بعض الوعود أن الأسماء التي تمّ الاعتراض عليها في الصفقة السابقة ستكون هي الأسماء الأولى في الصفقة الثانية. كانت صدمتنا كبيرة جداً أن الإخوة لم يخرجوا معي. وكنت متروّياً كثيراً، لأنه في شهر واحد وحدثت الصفقة الأولى، قالوا لي: "محمود، أنت ستغادر". وجهّزت أغراضي، وأخرجوني ثلاثة أيام للطريق، وعذّبوني وضربوني، وكان المسير قاسياً، وصلت لمجدو ولم تكن محرّراً.
مايا رزق: في أعماقكم، محمود، هل كنت تشعر بأنك ستتحرّر في هذا التوقيت؟
محمود العارضة: كان عندي يقين تام أنني سأغادر. الرجال الذين فعلوها في غزّة، كنت على يقين. سمعت الأخ أبو عبيدة والسرايا وكل الرسائل، كنت على يقين أن الوعد سيتحقّق. وعندما شاهدت طوفان الأقصى، تأكّدت أن الحرية اقتربت.
مايا رزق: يقول محمد العارضة، وهو شريكك في ما يخصّ عملية نفق الحرية، بأنه عندما سمع بعملية طوفان الأقصى جهّز ملابسه، وكان على يقين بأن الحرية باتت قريبة.
ماذا عنكم؟ كيف سمعتم عن عملية طوفان الأقصى؟
محمود العارضة: في البداية، صلّينا الفجر ونمنا في فترة للنوم جيّدة قبل انخفاض العدد. استيقظنا حوالى السادسة صباحاً. كانت أصوات الانفجارات تهزّ منطقة جنوب فلسطين كلها. للوهلة الأولى، حجم الانفجارات، قلت: "إنه تم استهداف الشيخ صالح العاروري"، لأن الإعلام الأمريكي كان يتحدّث كثيراً عن الشيخ صالح العاروري رحمه الله. فتحت التلفزيون وتفاجأت أن كتائب القسّام كانت داخل أسدود، ومشهد لا يمكن وصفه. فرحت فرحاً شديداً وكبيراً. لكن أدركت بعدما رأيت حجم الجنود الذين دخلوا وحجم الانهيار الذي حصل في الجبهة الأخرى، خلال عشر دقائق، معظم الغزّيين هم يبشّرون الأسرى. قلت: "إن هذه الفرصة، وإن ما جرى، ستكون له تداعيات قاسية، وسنخرج، لكن هناك ثمن كبير سيُدْفع نتيجة لذلك".
مايا رزق: بالعودة إلى لحظة إعلان التحرّر من السجن، عادة يُقال بأن مَن يقبع في الأسر =لسنواتٍ طويلة، عند التحرّر، يشعر بنوع من الذَنْب حيال مَن رافقه في هذا المسار على مدى سنين.
إلى أيّ مدى هذا الشعور بالذَنْب يُخالجك الآن حيال مَن ظلّ في السجن؟
محمود العارضة: هذا كلام صحيح ودقيق. وربما أنا كنت أعترض على بعض الأسرى بالأمر، وأقول إن هذا مجرّد مُجاملة أسمعها من أسرى يخرجون من السجن، ونحن محزونين. ولكن حقيقة، عندما دخلت في نفس الحالة وعشت في نفس الظروف، الأمر قاسٍ جداً وقاسٍ وقاسٍ وصعب، خصوصاً أننا تركنا إخوة كبار لنا وقادة ومرضى. ونحن في نفق الحرية، تركنا أخونا يعقوب وهو مريض، وكان هو أكثر الأشخاص الستة استحقاقاً للخروج لأنه بحاجة للعلاج. وكان أمراً صعباً جداً. حتى أنا، في لحظةٍ من اللحظات، مضى يوم ويومان، ورفضت الحديث مع أهل يعقوب، وكنت خَجِلاً جداً جداً منهم، ورفضت الحديث مع كثير من الأسرى. وهذه قصة نسأل الله أن لا يعيشها أحد، لكنها قاسية وصعبة وصعبة جداً. نسأل الله تعالى أن يتمّ الإفراج عنهم، وأن يُنزل السكينة عليهم ويصبّرهم.
مايا رزق: مَن ترك فيك الأثر الأكبر من الإخوة الأسرى في السجون؟
محمود العارضة: حقيقة، الأكثر يعقوب، لأنه صديقي ورفيقي في نفق الحرية، ونفق سجن شطّة، وخصوصاً أنه مريض، وكنا نتوقّع أن يكون على رأس القائمة. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يصبّره ويُنزل السكينة عليه ويفرّج كَرْبه بأذن الله. وكثير من الإخوة الأسرى أمضوا 35 عاماً، وبلغوا من العمر 75 عاماً: أخونا أبو إياد جبّارين. وهناك مسألة أخرى أحزنتني كثيراً: كنا نعيش أمل أن يخرج القائد الكبير مروان البرغوثي، ومجموعة من القيادات على رأسهم أحمد سعدات وعباس السيّد وحسن سلامة. وهؤلاء كانت في جعبتهم الكثير الكثير للشعب الفلسطيني. أنا جلست مع مروان، كنت أخالطه، تعرّفت عليه من جديد وهذا الرجل فاجأني وهو قريب. كنت أعتقد أنه ستكون انعطافة تاريخية في تاريخ الشعب الفلسطيني إن خرج هؤلاء.
مايا رزق: نعود إلى لحظة التحرّر، إلى هذه المسافة التي قطعتها في ما يخص الإبعاد: أن تكون الآن في القاهرة. إلى أيّ مدى هذا ينتقص من فرحة التحرّر؟
محمود العارضة: قليلاً إن شاء الله. أنا لا أؤمن بالحدود ولا بالسدود. هذه حدود وضعها الاستعمار. هذه بلدي وبلد كل عربي، وهي مصر أم الدنيا، وهي عمقنا التاريخي والإنساني والإسلامي.
مايا رزق: ما قصدته هو موضوع الإبعاد عن الأرض، وليس تحديداً في القاهرة. في أيّ دولة بعيداً عن الأرض، عن فلسطين؟
محمود العارضة: حقيقة، الإنسان يحبّ مولده وموطنه والبقعة الجغرافية التي تركناها. عندما حصلت عملية نفق الحرية، كان في الحدود الأردنية، والأردن بلدنا. كانت الحدود الأردنية قريبة منا بمسافة 5 كيلو، والحدود اللبنانية أيضاً كان بإمكاننا أن نمضي باتجاه لبنان أو باتجاه الأردن أو باتجاه سوريا. لكن أنا كمبدئي، الخروج مرفوض، لأن هذا العدو يريد منا أن نرحل. هذا العدو يريد منا أن نرحل بأية طريقة. لذلك ركّز في عملية التبادُل أن يكون كثير من الأسرى خارج فلسطين. يعني ذلك الكثير. مبدئياً، أنا أرفض ذلك. أرفض مبدئياً الخروج. حتى في نفق الحرية، قلت: "لا أريد الخروج لا للأردن ولا لسوريا ولا للبنان. نريد أن نبقى شوكة في حلق هذا العدو المجرم".
مايا رزق: محمود، بعد ثلاثة عقود من الأسْر، الحرية ليست حدثاً. نحن نتحدّث عن رحلةٍ نفسية طويلة. كل شيء من حولك جديد. حتى الضوء ربما قد يكون مزعجاً بالنسبة لك.
هل اعتدت على الطعام؟ اللباس؟ النوم من دون أوامر سجّان؟ تابعناك وأنت تتذوّق الكنافة بعد 3 عقود؟
محمود العارضة: هناك بعض النقد لتذوّق الكنافة، لكن قلت أنا: "إن الغزّيين ضحّوا وقدّموا، وهُدِمَت منازلهم وبيوتهم من أجل أن نفرح". وقلت: "سنفرح وسنأكل، وسنري الغزّيين ماذا فعلوا من أجلنا". وهذه لفتة مهمّة. كل شيء مختلف. أنا ما زلت أعيش، لأننا موجودون في فندق. إغلاق الأبواب أحياناً يلفت انتباهي. تنبّهت أكثر من مرة: لا أخرج الفجر، رغم أن هناك إمكانية لأخرج مرة، مرتين. أقول: "لِمَا لم أذهب؟ هناك إمكانية للتحرّك. لِمَا لم أتحرّك؟" واليوم، الناس الغزّيون، الشهداء، أسر الشهداء، والفلسطينيون يأتون على مدار 24 ساعة. وأودّ استغلال كل دقيقة من أجل غزّة، ومن أجل الشهداء، وما يحدث هناك.
حقيقة، في نفق الحرية، عندما خرجنا، في اللحظة الأولى التي وضعت قدمي على التراب، نسيت كل ما مضى. وهذا كان مقتلي. كانت هذه نقطة ضعفي: أنني نسيت أنني كنت مسجوناً، فاطمأننت. كان هناك اطمئنان كبير في قلبي عندما دخلت أراضي الـ48. وكان هذا المقتل، لأنني خفّفت من درجة الحذر الموجودة عندي. كنت مُطمئّناً وفرحاً جداً. لكن عندما تمّ الإفراج عني بهذه الدفعة، ما زلت أعيش بعض الهواجِس، حقيقة.
مايا رزق: سنتحدّث عن هذه الهواجِس، وسنتحدّث عما حصل عقب نفق التحرّر من سجن جلبوع. ولكن قبل ذلك، سنخرج من فوق الأرض، كما قهرناهم من تحت الأرض. ووعد المقاومة لنا نراه قريباً.
قالها أحد أبطال نفق الحرية، أيهم كممجي، وصدقت المقاومة: 3985 أسيراً فلسطينياً انتزعوا الحرية من السجّان في الصفقات الثلاث خلال عامين من معركة طوفان الأقصى.
من بين هؤلاء، 486 من ذوي الأحكام المؤبّدة، و319 من ذوي الأحكام الطويلة الأمد. كذلك تحرّرت 114 امرأة و297 طفلاً.
طوفان الأحرار هذا يمثل بداية انتصار لغزّة وفلسطين والمقاومة، بعدما عرفت الحركة الأسيرة أكثر المراحل دموية في تاريخها: 77 أسيراً تمّ الإعلان عن استشهادهم نتيجة التعذيب والتجويع والإهمال الطبّي المُتعمّد. العشرات من مُعتقلي غزّة هم رهن الإخفاء القسْري.
ويحتجز الاحتلال جثامين 85 أسيراً شهيداً، أقلّه هذا ما نعلمه، من بينهم 74 منذ بدء الإبادة.
هذا، ووثّقت المؤسّسات الحقوقية استشهاد 314 أسيراً منذ عام 67، وحتى تشرين الأول (أكتوبر) من هذا العام. كان عدد الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية أكثر من 11100، هذا من دون احتساب المحتجزين في المعتقلات التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. إنه العدد الأعلى منذ انتفاضة الأقصى عام 2000.
ويبلغ عدد الأطفال الأسرى 400 في سجنيّ عوفر ومجدو. وفي الضفة والقدس، نتحدّث عن 20000 حالة اعتقال خلال حرب الإبادة على غزّة، من بينهم 1600، ورافقت الاعتقال انتهاكات بالغة، ومنها الضرب والتنكيل وعمليات إرهاب =منظّمة بحقّ المعتقلين وعائلاتهم.
أما مُعتقَلو غزّة، فقد شملت الانتهاكات بحقّهم التعذيب النفسي والجسدي والتجويع والجرائم الطبية، وما هو بطبيعة الحال أصعب من ذلك، حيث كشف نادي الأسير، مشاهدينا، بعد مُعاينة جثامين الأسرى المُفْرَج عنهم، أن عدداً منهم أُعدِمَ بيدين مُكبّلتين، آثار التعذيب واضحة على الأجساد، حتى إن أعضاء الأسرى الشهداء تمت سرقتها.
أسألك عن هذا الموضوع، محمود: هل فاجأتك هذه الوحشية في ما يخصّ الاحتلال، عِلماً وبأنك عايَنت مستويات منها؟
محمود العارضة: حقيقة، إجراءات إدارة السجون كان عملهم الأكبر داخل الأقسام، وابتعدت عن العزل الانفرادي. فقلت في نفسي: "هل أخطأنا بحق هؤلاء الناس في الحُكم؟ التصوّر الذي نحمله عن هؤلاء الناس، هل أخطأنا بحقّهم؟"
الشاب استُشهد، الشهيد الأول الذي أُعلنوا عنه في عوفر. نحن نعتقد أنه قُتِل في سجن ريمون، لأنه في الوقت الذي تمّ فيه الإعلان عن الشهيد في عوفر، كان الضرب القاسي والأكبر يتعرّض له أسير داخل سجن ريمون، وفي غرف الانتظار، وكان ضرباً واضحاً، ويظهر أن مَن قد تعرّض لهذا الضرب قد قُتِل. ونحن من اللحظات الأولى قلنا: "سيحدث قتل داخل السجون". وحشيّتهم كانت مفاجئة. اعتقدنا أنه ممكن أن يتم سحب مُنجزات الأسرى، أو التفتيش بقسوة، وعدم الاحترام، والإهانة. لكن أن نُمْنَع الطعام والشراب، ونُكبَّل للخلف، ويُجبَرَني على السجود له، وأن أمشي على أربع، وأن يُضرب الناس حتى الموت وهم مكبّلون... سمعنا نحن، وكانت لدينا أخبار، وسمعنا من الأسرى الجنائيين، كانوا يسمعون من السجّانين الذين تباهوا أمامهم كيف يقتلون الأسرى، وكيف يضربون وينكّلون بالناس، ويمزّقون المصاحِف، ويدوسون على الناس.
لذلك، ومن أجل هذا، هم فصلونا في العام الأخير عن الأسرى الجنائيين. وأنا وجّهت نداءً لمؤسّسات حقوق الإنسان المعنية بهذا الأمر أن تحاول رَصْد شهادات الأسرى الجنائيين. وهناك إخوة جريؤن يمكن لهم أن يدلوا بشهادات القتل وكل ما يجري للأسرى. نحن كنا نشاهده في الأماكن التي لا يتمّ تفريغها من أجل التصوير. بن غفير قال لهم: "افعلوا ما شئتم، لن تتم مُحاسبة أحد". تجاوزوا كل التعليمات. مدير السجن كان يعطينا بعض المسائل نطلبها من مدير السجن، مثل آلة الحلاقة. إن كان السجّان لا يريد إعطاءنا إيّاها، لا يعطينا، ولا يمكن أن يعترض المدير على قرار السجّان الأدنى رتبة. وكانن معهم صلاحيات كبيرة، وفعلوا الكثير الكثير. لكن قال لهم: "افعلوا ما شئتم، لكن الأهمّ أن لا يكون ذلك أمام كاميرات المُراقبة الموجودة في السجن". وكان الوضع قاسياً جداً. وأقسى الوحشية الكبرى الموجودة هي الموجودة في المعابر، مثل معبر سجن أوهليكدار، معبر الرملة، معبر الجلمة. يتمّ التنكيل بالأسرى.
مايا رزق: محمود، هل بن غفير يقتحم السجون ويعتدي لفظياً، ربما وحتى جسدياً، ويهدّد الأسرى الفلسطينيين؟
محمود العارضة: قبل ثلاثة أسابيع، كان بن غفير موجوداً عندنا في عزل سجن ريمون، ودخلوا عند أخونا الكبير القائد القسّامي أبو علي حامد. وقبلها بشهر، دخلوا إلى القائد الكبير حسن سلامة. ومنذ ثلاثة أشهر، دخلوا عند القائد الكبير مروان البرغوثي، وقالوا لمروان البرغوثي: "ستخرج من السجن ميتاً، وستُعْدَم على كرسي كهربائي". وهو مشرف من اللحظة الأولى. أول تجربة كانت له. نحن رصدناه من خلال الأسرى الجنائيين، وبعض الأخبار التي كانت تصلنا. ذهب إلى سجن النقب، وشاهد، وطلب من إدارة السجن أن تريه كيف يتمّ التعامل مع الأسرى. وكان هو مشرفاً على عملية قمع قُتِل فيها أحد الإخوة، على ما أعتقد استُشْهِد فيها، إسمه أبو عصب. وتمّ تسريب بعض المعلومات عنها. بن غفير يعتبر السجون مقرهّ، ولا يمضي شهر من دون أن يكون موجوداً في سجن من السجون، ومشرفاً على عملية التعذيب والتنكيل بالأسرى، ويعطي تأييداً كبيراً. والسجّانون يحبّونه حبّاً كبيراً، وأغلبهم يعبّرون عن تأييدهم له، لأنهم حصلوا على صلاحيات كاملة منه. ونحن شاهدنا ذلك: إن مدير السجن لا يملك على سجّان.
مايا رزق: من الواضح أن هدف الأسر ليس فقط كَسْر الأسير، بل أيضاً من خلاله كَسْر عائلة الأسير، كَسْر الشعب الفلسطيني كله.
لكن كيف فعلتموها كحركة أسيرة على مرّ كل هذه العقود، برغم ظروفكم القاهرة التي تحدّثت عنها؟ كيف فعلتموها، وصدّرتم من داخل الأسْر صموداً، والأهم: الوحدة الفلسطينية؟
محمود العارضة: الحركة الأسيرة، النضال الفلسطيني للحركة الأسيرة، هو مصدر النبع الذي يخرّج القادة والعظماء. من الحركة الأسيرة هم قادة الشعب الفلسطيني. كثير من قادة الشعب الفلسطيني هم من الأسرى الفلسطينيين. حركة النضال، تاريخ النضال في السجون طويل منذ الاحتلال البريطاني. لم يهدأ الأسرى، وخاضوا كثيراً من المعارك التاريخية والمشهورة والمشهودة، وفجّروا ثورات وانتفاضات داخل السجون، من خلالها حقّقوا كثيراً من الإنجازات التاريخية. وهذه =الإنجازات تمّ سحبها بعد طوفان الأقصى، لأن الحرب، كما أُعلنت على غزّة وعلى لبنان وعلى المنطقة، أُعْلِنت كذلك على الأسرى. وبن غفير، مقابل قبوله بالقيادات السياسية، كان المطلوب من نتنياهو أن يتنازل في ملفّين مهمّين جداً: الاستيطان والمُصادرة، وملف الأسرى. بن غفير أراد أن يفعل ما يريد في الأسرى، وهو فعل ما أراد. ولكن ذلك لم يكسر الحركة الأسيرة. أنا التقيت بالأسرى وتفاجأت مرة واحدة. أنا خرجت من سجن مجدو، يوم بلغت بالإفراج عني بشهر 1 بالدفعة الأولى. التقيت في الطريق - أول مرة نُقلت عبر المعابر، لم أنقل بسيارة خاصة - التقيت بالأسرى. تفاجأت مفاجأة كبيرة لأول مرة أنا أرى المساجين، ولأول مرة التقي بالناس. تفاجأت مفاجأة كبيرة بالروح المعنوية الموجودة عند الأسرى. أمر لا يُصدّق. أنا ذُهِلت. وما أذهلني أكثر: ذهبت إلى المسلخ في سجن مجدو، عزل سجن مجدو، ووجدت عبارة مكتوبة على الجدار: "17 أكتوبر، أبو شرار من غزّة"، ورسم بندقية، ويتحدّث عن المقاومة. قلت: "الله أكبر! ما هؤلاء الناس؟ كيف سيُكْسَر هؤلاء الناس؟". فأنا أطمئن شعبنا.
مايا رزق: أسطورة أنتم يا محمود، أسطورة؟
محمود العارضة: الله يرضى عنك. أطمئن شعبنا أن الحركة الأسيرة هي في قمّة الروح المعنوية، في قمّة عليائها، ولا خوف عليهم، ولا أنتم تحزنون. والنصر إن شاء الله قريب. والمقاومة، كما حرّرت الأسرى في هذه الدفعات، لن تنسى. وسيأتي يوم تندم فيه إسرائيل أنها تركت أسيراً فلسطينياً واحداً.
مايا رزق: محمود العارضة، تفضّل بالبقاء معنا، مهندس عملية نفق الحرية والأسير المحرّر، ولكن بعد هذا الفاصل.
مايا رزق: من جديد، أهلاً ومرحباً بكم، مشاهدينا الأكارم. نُجدّد الترحيب أيضاً بضيف "اذهب أعمق": محمود العارضة، مهندس عملية نفق الحرية والأسير المحرّر.
السادس من أيلول (سبتمبر) 2021، تاريخ حُفِر عميقاً في الوعي الفلسطيني والعالمي، وهزّ المؤسّسات الأمنية والاستخبارية والسياسية للاحتلال.
ستة أسرى، ومعهم جنود ظلّ، كتبوا صفحة جديدة في مسار النضال من داخل السجون. نتحدّث عن سجن جلبوع، توصيفه: "الخزنة الحديدية". إنه أحد المُعتقلات الأكثر تحصيناً: أنظمة استشعار إلكترونية من الداخل إلى الأسوار تسمح برصْد أية حركة، وبسطها أبراج مراقبة تحيط به، تفصل بينها أمتار، وكلاب موزّعة مع حراسة مشدّدة على مدار الساعة، وأرضية مصفّحة بالحديد يعلوها إسمنت.
إجراءات تحصينية مبنية على دراسات أمنية وخبرات أجنبية استعان بها الاحتلال.
الغرفة رقم 2، القسم الخامس، وفق السجّان، وغرفة شهيد القدس الفريق قاسم سليماني، وفق الأبطال. منها قرّر القائد محمود العارضة أن يبدأ الحفر.
شركاؤه في العملية: زكريا الزبيدي بالتوجيه والدعم، يعقوب قادري أحد مُجاهدي سرايا القدس في انتفاضة الأقصى، أيهم كمنجي في المراقبة والأمن، محمد العارضة أحد مؤسّسي سرايا القدس، ومناضل نفيعات اليد اليمنى في الحفر.
هذا إضافة إلى مَن وُصِفوا بأصحاب الأيادي العاملة: إياد جرادات، محمد أبو بكر، علي أبو بكر، قصيّ مرعي، ومحمود شريمة.
نفق تحت بلاطة مساحتها 60 سنتيمتراً، حفروه في الأرض على مدى تسعة أشهر، وصلوا به إلى ما بعد السياج. خرجوا إلى الحرية، جابوا في حقول فلسطين، تذوّقوا الصبّار، والتقوا أطفالاً من أبناء وطنهم وأرضهم.
مثّلت عمليتهم تحوّلاً في المسار: مسار النضال من داخل المُعتقلات. وبرغم اعتقالهم، ظلّ الاحتلال يعيش ارتدادات العملية البطولية، عملية أعادت إلى الأذهان إنجازات حَفِل بها تاريخ الحركة الأسيرة.
ففي عام 95، تحرّر الأسير محمد صالح من سجن نفحا، مُستخدماً مقصّ أظافر لقصّ الأسلاك الشائكة. أما الأسرى أمجد الديك ورياض خليفة وخالد شنايطة، فاستخدموا ملعقة في حفر نفق من سجن شطة عام 2003، ظلّوا أحراراً في الجبال سبعة أشهر قبل أن تحاصرهم قوات الاحتلال في أحد كهوف بلدة كفر نحلة.
أُجدّد الترحيب بك، الأسير المحرّر، قائد عملية نفق الحرية، محمود العارضة. سؤال المليون، محمود: كيف فعلتها؟
محمود العارضة: أهلاً بك. الحمد لله، بفضل الله سبحانه وتعالى. من اليوم الأول الذي تم اعتقالي به، أنا عشت حرّاً، أرفض الاحتلال. لم أكن يوماً في قبضة العدو. كان عندنا جبال كثيرة في البلد وأراضٍ، وكنت حراً. كلما يدخل الجيش على البلد، لا يمكن أن أهدأ، فكنت أشعر أنني حر وطني حر. بعدما تمّ اعتقالي، من اللحظة الأولى، حاولت الفرار، لكن كانت المُجازفة خطيرة. وكنت أودّ القفز من الشاحنة التي تقلّنا. وكنت — للأسف الشديد — مقيّداً للخلف. لو كنت مقيّداً للأمام، لنجحت العملية. ومن اللحظة الأولى، أردت أن أستعيد حريّتي، وقلت للعدو: "إنك أخذت حريّتي بالقوّة، ولن أُدَخّر دقيقة واحدة من دون أن أفكّر بالهروب، وأفكّر بطريقة أجِد فيها سبيلاً للخلاص".
فكّرنا كثيراً. كل الأسرى يفكّرون بموضوع الهرب. لا يوجد أسير لا يفكّر بموضوع الهرب. لكن دخول المسألة لحيّز التنفيذ يحتاج جَلَداً وصبراً وذكاءً ودقّة. والحمد لله سبحانه وتعالى، الله سبحانه وتعالى وفّقنا. وفي قوّة غلاّبة داخل الإنسان تدفعه باتجاه رفض الظلم والقهر، وأن يغيّر حاله بأيّ شكل، مهما كانت حتى لو دفع ثمنه. الظلم والشعور بالظلم يدفع الإنسان نحو العمل للتغيير، مهما كانت النتائج. أنا موجود في السجن، مطلوب مني في كل لحظة أن أفكّر كيف أهرب.
مايا رزق: هذا ما يجول في خاطري دائماً عندما أتساءل عن هذه العملية البطولية. نحن مثلاً نشاهد أفلاماً عن هروب السجناء، فتأتينا الأفكار، أو ربما نقرأ كتاباً. أنتم من أين أتتكم هذه الفكرة؟ ونعلم أنها ليست المرة الأولى التي كنت تحاول فيها التحرّر، كما ذكرت. أنت تفكّر بالموضوع ليل نهار، وحاولت قبل ذلك؟
محمود العارضة: أغنى ما يملك الإنسان أنه يملك قُدرة على التفكير العميق. ومَن يملك القُدرة على التفكير العميق، تنفتق الأفكار بطريقة مختلفة. والسجين هو لديه فرصة للخلوة، والخلوة فيها تفكير عميق. والتفكير العميق يأتي بالنتيجة. لا شيء مستحيل. فقط أنت بحاجة لإرادة وتصميم ومُثابرة، وأن لا تيأس. أكثر من مرة، في كثير من الخطوات، كان يدخل... أنا وصلت لمرحلة، في لحظة من اللحظات، أودّ أن أُغلق النفق لسبب من الأسباب، لكن أنا...
مايا رزق: ما هو هذا السبب؟
محمود العارضة: لكن كنت أنتظر عجيبة. كان في سبب: كَسْر مدخل بوابة النفق. كسرتها بطريق الخطأ، لأن حجم البوابة متر في 60 سنتيمتراً، هي بشكل مستطيل وليس بشكل مربّع. متر بـ60 سنتيمتراً. وعندما استعجلت في فتح الباب، عندما أردت أن أحرّك البلاطة، كسرت البلاطة. وعندما كسرت، كنت أودّ إغلاق النفق. وكانت إمكانية لإغلاق البوابة قبل أن أفتحها، وأعيد التجربة في منطقة أخرى. وهناك أحداث حدثت كذلك، لا أريد ذِكرها. لكن اكتشفت في ما بعد أن الكسر هو الذي كان لصالحنا بشكل كبير. عندما تُغْلَق بوابة النفق بقطعتين، أفضل مما تُغْلَق كقطعة واحدة، لأن حجم القطعة ثقيل، وبحاجة لوجود أخوين لإغلاقه. لكن عندما أصبح قطعتين، صار هناك إمكانية لأن يُغلِق النفق شخص واحد. وهذا ما نجّانا ليلة 5/5.
مايا رزق: هذا ليس عِلماً، هذا ابتكار. صراحة، هل تذكر لحظة خروجكم من فتحة النفق؟ هل تذكر وقتها الضوء؟ الرائحة؟
محمود العارضة: كرّري السؤال.
مايا رزق: هل تذكر لحظة خروجكم من فتحة النفق؟ الرائحة؟ الصوت؟ الضوء؟
محمود العارضة: نحن شعرنا بالحرية. الأخ الكبير والمجاهد الكبير محمد أبو بكر لاحظ ونحن داخل النفق، عندما اقتربنا من سور السجن، قال لي: "محمود، أنا لا أريد الأرض". باللحظة الأولى التي شعرنا فيها بحرية، عندما اخترقنا الإسمنت وقطعنا القضبان والحديد، ونزلنا تحت الأرض، وشممنا تراب الأرض، فكنا طوال تسعة أشهر نشعر بالحرية عكس الأسرى. وفي اليوم الأخير، واللحظة الأولى التي فتحنا بها فتحة النفق كانت الوردية عندي وليس عند مناضل. نزلت بعد العصر، والوردية تبدأ بعد الرابعة عصراً. أنا والأخ محمد أبو بكر، وبدأت بالصعود إلى الأعلى. والمسافة كانت متراً. كنت أتأنى أن أصل للحظة التاريخية هذه التي أحدث الثقب الأول والصغير حتى أخرج إصبعي وأرى النور. تأخّرت وقلت: "لا مشكلة إن لم أرَ النصر. أنا لا مشكلة أراه بعيني صديقي ومناضل، إنسان غالٍ". انتهى الوقت وخرجت. ومناضل هو يجازف بالوقت، وتركت المكان. وفي اليوم التالي، جاء مناضل، نزل عشر دقائق، ثم عاد، وبشّرنا بأن نور الشمس تسرّب إلى عُمق النفق.
مايا رزق: صراحة، هذه الرواية تقشعّر لها الأبدان. كل تفصيل فيها حلقة أسطورية تستحقّ التوقّف عندها. كنت أريد أن أسألك، بطبيعة الحال، تمت إعادة اعتقالكم. هل تندمون على ما فعلتموه؟
محمود العارضة: لماذا نندم؟ لا نندم. ولو قدّر لنا أن نعود، لفعلناها من جديد إن سنحت لنا الفرصة. الحمد لله، نحن حتى إن تمّ اعتقالنا، أنا قلت للإخوة أنه قد يحدث طارئ، وحدث طارئ. نحن خرجنا. لم يكن موعد الخروج في 6/9، كان موعد الخروج في 7/9، وخرجنا بسبب طارئ في 6/9، وخالفنا الموعد مع السيارة. وأخي شداد الذي كان ينتظرنا، هو لم يكن فعلاً بالنفق. وقلت لهم من قبل: "نحن النفق هو مشروع. نحن نريد صنع مسألة. يوماً ما في نفق شطة". قال لي نائب مدير سجن مجدو: "محمود، لو اقتربت أنت من السور وأخرجت رأسك، مجرّد خروج رأسك، تكسر المنظومة الأمنية". قلت لهم: "نحن في رسالة نحملها من خلال الفعل. لديّ رسالة، رسالة كبيرة لشعبي وأمّتي ولأحرار العالم". أحد الضبّاط الذي كان أسيراً جنائياً، ضابط كبير، قال لي: "محمود، النفق، أنت لا تعرف ماذا أحدثت. واحد أسير لم يستسلم، لم يتردّد، أن تحدُث هذه الأسطورة وهذه الملحمة. هذه قضية خطيرة في تاريخ الشعوب، ولها أثر كبير في مسيرة حركة التحرّر".
مايا رزق: محمود، يُقال إن الإنسان قد يخرج من السجن، أما السجن فلا يخرج من الإنسان، نظراً للندوب النفسية والجسدية. ماذا فعلت بك سنوات الأسر؟
محمود العارضة: هذا ليس صحيحاً بالنسبة لي. هذا ليس صحيحاً. الآن أنا إنسان جديد. أنا صاحب رسالة. الإنسان الأسير الفلسطيني صاحب رسالة. لديّ استعداد أن أموت. لديّ استعداد من أجل التضحية. لو بقيت طوال حياتي في السجن، لن يؤثّر ذلك، لأنني أحمل رسالة، ولديّ قضية: قضية شعبي. نحن نريد تحقيق آمالنا بالتحرّر. وفي ثمن سنَدفعه. انظروا ماذا فعل الغزّيون من أجل أسراهم. أمّة تقدّم هذه التضحيات ستنتصر، وستقترب من تحقيق آمالها إن شاء الله. لن نترك السجن. لن يكون في قلوبنا فيه ذكريات. الذكريات لا تُنسى، هذه ذكريات، لكنه لا يترك ندوباً في قلوبنا. بالعكس، هو يشكّل لنا حافزاً لأن نتقدّم، ونعطي إن شاء الله.
مايا رزق: لأنكم ثوّار حقيقيون. أريد أن أسألك، بما أنك تحدّثت عن التضحيات: كيف كنتم تتابعون حجم التضحيات الكبير الذي قدّمه الفلسطينيون في غزّة خلال حرب الإبادة الإسرائيلية؟
محمود العارضة: قلت: "إن كان تقديري، سيكون هناك عدد كبير من القتلى. إسرائيل سترتكب جريمة كبرى في غزّة". لذلك أفاجأك أنني أنا اختلفت والدكتور مروان البرغوثي. كنا نتحدّث في كثير من المسائل، تناقشنا بها. وكان في خلاف بيني وبين معظم الأسرى وقادة الأسرى على موضوع تدخّل المقاومة في لبنان وفي المنطقة. وقلت: "وكان رأيي أن لا تتدخّل المقاومة في لبنان، حتى تبقى الصورة موجّهة إلى ما سيجري في غزّة، لأن ما سيجري في غزّة كبير، ويجب أن لا تُحْرَف الأنظار، وأن تبقى المقاومة =متأهّبة، وسيكون لها أثر كبير". هذا تقديري، وقد يكون تقديري خاطئاً.
مايا رزق: لو كنت مقاوماً في لبنان، هل كنت ستصمت حيال ما يحصل في غزّة من مجازر بحقّ الفلسطينيين، الأطفال والنساء؟
محمود العارضة: أقول لك بكل صراحة ووضوح: إن كانت القراءة عميقة لما يجري، أنا عندما حدث الحدث، قلت: "هذه هاربر، هذه أحداث سبتمبر 2001، ستكون لها تداعيات كبيرة". مطلوب من المقاومة الآن أن تقلّل الأضرار، وأن توجّه كل الأنظار باتجاه غزّة. فكنت معارضاً. لو كنت في لبنان، لكان صوتي بقوّة. كنت أتمنّى من القادة الثلاثة أن يخرجوا بقوّة. لكننا في إشكالية. عندنا في العقل العربي والوعي — أنا لا أريد أن أتحدّث عن الأمر في هذه الحلقة — كنت سأفرض بقوّة على لبنان أنه يجب أن تبقى المقاومة متأهّبة في المنطقة، ولا تتدخّل، وأن يتم تقليل الأضرار قَدْر الإمكان. وإسرائيل ستكون لها حسابات كبرى. لكن ربّ ضارّة نافِعة. أنا من وجهة نظري، سمعت صوتاً وحيداً قريبًا من هذه الوجهة النظر. ما جرى في لبنان، ستندم عليه إسرائيل في يوم من الأيام. لماذا؟ نحن دفعنا ثمناً، ولبنان خرج من أجل نُصرة غزّة. الحروب نجاحها من عدمه بتحقيق أهدافها المُعلنة. خرج من أجل نُصرة غزّة.
مايا رزق: الصوت يتقطّع كثيراً. تبقّى القليل من الوقت في الجزء الأخير من "اذهب أعمق". سننقل إليك بعض الأسئلة والرسائل من الناس، وقد وصلتنا عبر منصّات الميادين.
مثلاً، تقول صبا من فلسطين وتسأل: "من المعروف أن المحتلّ لن يتركك تنعم بالحرية، وسيلاحقك ويُعيد محاكمتك. لكن استمررت في تنفيذ فكرة نفق الحرية. لماذا؟"
محمود العارضة: لم أفهم السؤال؟
مايا رزق: هي تسأل: إنك ربما كنت تعلم بأن عملية نفق الحرية قد تصل إلى مكان وتتم إعادة اعتقالك. لماذا استمررت بهذا الأمر؟ ربما أجبنا عن هذا السؤال خلال الحلقة. لذلك أذهب إلى سؤال آخر.
محمود العارضة: إن نخرج ليوم واحد ونكسر النظرية الأمنية الصهيونية، ونقول لشعبنا إن هذا العدو هو وَهْم من غبار. قلت: "نحن لم نقاتل إسرائيل، نحن قاتلنا العالم كله. ولو في نيّة حقيقية، هذا العدو سيزول في غضون أشهر. الرسالة من النفق: إن كل ما يدّعيه هذا العدو من قوّة وتقدّم سراب".
مايا رزق: كوثر من ليبيا تسأل: "كيف تلقّيتم خبر استشهاد قادة المقاومة: محمد الضيف، يحيى السنوار، إسماعيل هنية، السيّد حسن نصر الله، والقادة الآخرين؟"
محمود العارضة: كان لذلك أثر كبير، لكننا نؤمِن: عندما تقدّم القادة دماءها، هذه رسالة لن تنتهي. وحتماً، بإذن الله، ستقودنا هذه الدماء إلى النصر إن شاء الله.
مايا رزق: وختاماً، يقول كميل من البحرين: "أحيّي القائد البطل الشجاع. أريد أن أقتدي بكم. فلسطين بوصلتنا، الأسرى في عيوننا. نحن معكم".
ماذا تقول لكَميل ولكل الشباب العربي الذي ناصَر ويُناصِر فلسطين وغزّة؟
محمود العارضة: جهودكم لن تذهب هَدْراً. الكلمة التي تقولونها، والخط الذي تكتبونه، هو مثل الصاروخ الذي تطلقه المقاومة من غزّة، بل أشدّ. ناصِروا القضية الفلسطينية، وقفوا بجانبها. كل كلمة هي معركة. معركتنا في فلسطين: حَمْل البندقية في غزذة. ومعركتنا على الإعلام: الصوت والصورة. ومعركتنا مع شبابنا في الجامعات: العِلم. لأن سرّ نجاحنا: لكل رجل في الأمّة دور، قد يختلف عن الآخر، وهو في النهاية يصبّ في مصبٍّ واحد، يقود نحو التحرير والخلاص وتحقيق آمالنا بالحرية إن شاء الله.
مايا رزق: ختاماً، محمود، في الثامن من الشهر المقبل تطفئ شمعتك الـ50، وأنت تتنفّس الحرية. ماذا ستكون أمنياتك، وأنت الآن حرّ؟
محمود العارضة: ماذا ستكون أمنيتي؟ إن شاء الله تتحرّر فلسطين.
مايا رزق: إذاً ستكون الأمنية أن تتحرّر فلسطين. وعلى أمل أن تتحقّق هذه الأمنية دائماً، ونعيش جميعاً على هذا الأمل، أشكرك محمود العارضة، مهندس نفق الحرية، الأسير البطل المُحرّر. شكراً جزيلاً لك.
محمود العارضة: شكراً لكم.
مايا رزق: إلى هنا، مشاهدينا الكرام، نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة من "اذهب أعمق".