عودة أهالي جنوب لبنان إلى قراهم ومدنهم

نص الحلقة

 

تتكثّف المشاهد هنا في الجنوب نموذجاً حاضراً على وحشيّة مستعمرٍ وعناد الشعب، شعب قدّم شبابه لحمهم ودمهم والتحموا بعظامهم وجماجمهم بهذا التراب، شعبٌ أصرّ أهله على العودة إلى قراهم بكل شجاعة وانتماء ومن دون انتظار. يقول الأهل إن هذا الفعل أكبر من السياسة وأصغر من قضيتهم، فهم الآن يستنشقون هواءً حراً نقياً بفضل أبنائهم وينثرون في هذه الأرض آلاف البذور.

 

إيمان محمد سرور: لديّ ولد وحيد اسمه الشهيد رائد علي خطاب، لقد كان الجريح الأول في طوفان الأقصى وقد خضع لسبع عملياتٍ جراحية، ورغم ذلك قال لي إنه يودّ العودة إلى الظهيرة للالتحاق برفاقه، قالوا لي لا تدعي ابنك يذهب نظراً لوضعه الصحي ولكنني رفضتُ لأن ما يريده الله سيكون.

 

هبة محمود: في العادة الولد الوحيد تكون له خصوصية معيّنة ويجب الحصول على إذن من الأهل لكي يتمكّن من القتال، كيف تلقّيتِ الخبر؟

 

ليال خطاب: لقد سمعنا الغارة، لقد أوصلته إلى مركز الخدمة صباحاً واستشهد عصر ذلك اليوم، قال لنا إذا لم أتواصل معكم فسأكون قد استشهدت.

 

إيمان محمد سرور: بقي معي لمدة خمسة أيام وكأنه يودّعني، أوصاني بالدعاء والصدقة، فقلتُ له إنني حريصة على الدعاء للمجاهدين، طلب مني ألا أبكي كي لا أفقد بصري. عند الساعة الخامسة والنصف سمعتُ صوت الغارة وشعرتُ بأن قلبي ينتفض بقوة فقلتُ لليال إن أخاك استشهد، لقد فرحتُ كثيراً باستهشاده لأنه كان يريد ذلك.

 

هبة محمود: بماذا تشعر وأنت تجلس قبالة بينك المهدم؟

 

محمد حسين قاسم: كل البيوت هنا مهدّمة، بحلول المغرب لا يبقى هنا سواي وبعض الشباب في القرية.

 

هبة محمود: ما الذي دفعلك لكي تنصب خيمة هنا؟ 

 

محمد حسين قاسم: لا أستطيع أن أغادر قريتي.

 

هبة محمود: أين كنتَ في الأشهر الماضية؟ 

 

محمد حسين قاسم: في البداية نزحنا إلى عيتيت ومن ثم إلى عاشة بكار في بيروت، وبعد وقف الحرب مُنعنا من العودة التزاماً بقرار الجيش بمهلة الستين يوماً، خلال هذه الأشهر الست انتظرنا بفارغ الصبر.

 

هبة محمود: كنتم على استعداد للعودة منذ لحظة وقف إطلاق النار.

 

محمد حسين قاسم: وصلتُ إلى مفرق صربّين ولكن الجيش أرجعنا. لقد كنتُ من أوائل الموجودين وكانت سيارتي من بين السيارات الخمس في رميش، حين بلغ عدد السيارات 50 أو 60 منعنا الجيش من الدخول، فقررنا أن ندخل مشياً على الأقدام وعندما لمسوا إصرارنا  سمحوا لنا بالدخول.

 

هبة محمود: هل كان الجيش الإسرائيلي لا زال متواجداً في المنطقة؟

 

محمد حسين قاسم: خرجوا في اليوم نفسه وبقي بعضهم متواجداً في تلّة أبو طويل.

 

هبة محمود: هل لعب قراركم بالعودة  دوراً في انسحاب الجيش الإسرائيلي؟

 

محمد حسين قاسم: لقد اتّخذنا القرار بالعودة بمجرّد انتهاء المهلة، ولقد توقعنا سلفاً أن نجد الجيش الإسرائيلي وأن يسقط منا الشهداء ورغم ذلك فإن الناس عادوا وأنا منهم.

 

رضا شمعون: الاستشهاد انتصار، إن انتصرنا انتصرنا وإن استشهدنا انتصرنا، هذا كلام السيح حسن نصر الله، عند عودتنا لم نفكر بالاستشهاد، رغم الدمار ورغم الشهداء الذين سقطوا في الخيام، أعرف كل البيوت وكل الشباب أكثر من نصفهم هم مهندسين وأطباء وجامعيين، شباب متمكّنون، تركوا كل شيء خلفهم ليدافعوا عن بلدهم وانتصروا انتصار الدم على السيف.

 

هبة محمود: هذه نقطة مهمة جداً، دائماً هناك صورة تُروَّج أن هؤلاء الشباب المقاتلين ليس لديهم خيار آخر وأنهم تربّوا على فكرة القتال بينما هم في الحقيقة متعلّمون وأصحاب شهادات.

 

عاطف خريس: أرضنا هي شرفنا وعرضنا وكرامتنا، دماء أبنائنا فداء لبلادنا.   

إيمان محمد سرور: لولا دماؤهم لما عدنا إلى أرضنا.

 

هبة محمود: هل عدتم إلى عيتا؟

إيمان محمد سرور: منذ اليوم الأول عدنا مرفوعي الرؤوس. أخي ضرير فقد ابنه في حرب تموز 2006 وهذا ابنه الثاني مفقود الأثر، نحن نعتزّ بهم.

هبة محمود: كل عائلة فقدت شباباً في مقتبل العمر.

إيمان محمد سرور: أنا أعتذر من سماحة السيد حسن نصر الله لأنني كنتُ أودّ رؤيته قبل أن أفقد بصري، وأعتذر من المقاومة لأنه لم يعد لديّ ما أقدّمه، لو كان لديّ أبناء آخرون لقدّمتهم في خدمة هذا الخط.

محمد حسين قاسم: نحن أصحاب هذه الأرض وعلينا أن نتشبّث بها ونعلّم أبناءنا وأحفادنا إلى ما لانهاية حتى يندحر العدو عن أرضنا. نصبتُ هذه الخيمة واستدعيتُ ابنائي وقمتُ بإمداد الخيمة بالكهرباء لتيسير أمورنا.  

هبة محمود: الجو بارد. 

محمد حسين قاسم: نحن أقوى من البرد، الأرض تمنحنا الدفء.

ليال خطاب: عيتا باتت ثأرهم منذ اختطاف الأسيرين في خلّة وردة، عدنا مرفوعي الرؤوس، شبابنا يبيتون في عيتا منذ اليوم الأول. لو قدّمنا كل أولادنا وشبابنا وأنفسنا، نحن النساء كنا نتمّى لو تمكّنا من إعداد الطعام للمجاهدين، كنتُ أتمنّى أن أخدمهم رغم الوضع الصحي لأمي. نتساءل كيف عاش الشباب خلال الحرب، كيف تحمّلوا كل ما حصل، لو أحرقوا منازلنا هذا عزّنا. هو شهيد والشهيد أعظم مرتبة عند الخالق.  

هبة محمود: هل شعرتم بأنكم لن تعودوا إلى عيتا؟

ليال خطاب: كلا، كنا واثقون من العودة منتصرين، حين تسيرين على خطى الشباب فأنتِ منتصرة يقيناً، ربّما بعد عشر سنوات أو عشرون سنة ستعودين منتصرة إلى بيتك. 

هبة محمود: ألم يراودكم الشك رغم الأسابيع القاسية التي مرّت؟ 

ليال خطاب: في النهاية ستعودين، شبابنا لن يتركوا الحدود الأمامية في أيدي العدو، لقد قدّموا أنفسهم منعاً لذلك. 

رضا شمعون: عند سقوط النظام في سوريا لم يجابه أحد إسرائيل، بينما لم يتقدّم العدو في لبنان، هناك فارق كبير بين مَن يجابه ومَن لا يجابه.

 

ميسم حيدر: طيلة 15 أو 20 يوماً لم يستطيعوا الدخول حتى لخمسة كيلومترات.

رضا شمعون: الدليل الأكبر هو باب الدبابة هذه، ما من حي يخلو من بقايا الدبابات.

ميسم حيدر: 8 دبابات وهناك بقايا دبابات تمّ دفنها في الملعب والمرج. جنود الاحتلال عبثوا بالمنازل وكتبوا عباراتٍ بذيئة على الجدران. 

 

رضا شمعون: لقد صهينوا العالم المتقدم، التكنولوجيا وُضعت بين أيديهم وجاؤوا بهذه التكنولوجيا البعيدة عن الإنسانية إلى هنا، عدوهم واحد هو السلام، هم لا يريدون أن نحيا بسلام. أبلغ من العمر 70 عاماً وقد عايشتُ الحروب منذ العام 1967، أعلم أن الحرب ستسمر وأعود وأبني لأن لدينا نفس المواجهة. المواجهة أقل ثمناً من الاستسلام، حينما تستسلمين ستخسرين كل شيء ولكن حتى وإن خسرتِ الحرب فإن حصتك محفوظة، نريد أن نعيش في أرضنا رغماً عن الصهاينة. 

 

عاطف خريس: العدو يمنعنا من الشرب ومن بناء بيوتنا. 

هبة محمود: ألا تتردد حينما تفكر بإعادة البناء في هذا المكان المعرض للاستهداف الإسرائيلي بشكلٍ دائم؟ 

محمد حسين قاسم: إطلاقاً، سأبني في نفس المكان، ربّما يتغيّر الشكل ولكن سأبني بشكلٍ أفضل كي نحقق مقولة السيد أننا سنعيدها أجمل مما كانت، لذا علينا أن نعمّر أفضل من بيوتنا القديمة إن شاء الله. 

هبة محمود: ولكن المفارقة الغريبة أن المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة يرجون من المستوطنين العودة وهم يرفضون بينما اللبنانيون طُلب منهم عدم العودة ولكنهم أبوا إلا الرجوع.

 

محمد حسين قاسم: هذا دليل أننا أصحاب إرادة قوية، هم أجبن من أن يعودوا، هم ليسوا اصحاب أرض كي يتعلّقوا بها بينما نحن أصحاب الأرض، والشهادة بالنسبة لنا هي أسمى الآيات، الشهادة هي فخر، أتمنّى أن أنال الشهادة.  

هبة محمود: حين يبدأ الشاب بتأسيس حياته تراوده لحظات خوف أو يأس أو تعب؟ 

سامر علي قلّوط: لقد كنتُ مقيماً في الخارج وعدتُ إلى لبنان وأسستُ مشروعي الخاص وخلال الحرب ضاع كل شيء ولكننا عدنا إلى أرضنا وأرزاقنا وسنبني ما دُمّر.

 

رضا شمعون: الشاب الذي تتحدّثين عنه سيّدتي تشرّب من أهله الانتماء الوطني والإنساني وأنه صاحب حق، ولديه صفاء ذهني أكثر منا بكثير ولديه وعي واطلاع ويعرف الحق والباطل، وكما قال أبو أسعد أنه عاش في البرازيل، رغم توفر فرص العمل والمال إلا أنه عاد إلى لبنان بسبب حبّه الأرض ويربّي أبناءه على محبة الوطن.

ميسم حيدر: قد تراود الشخص أحياناً هذه الأفكار، إلى متى سنبقى هكذا؟ حين يرى الشهداء وجميع الذين عاشوا هذه المأساة، لقد تهدّمت بيوتنا ولكن الأرض تغلب، كرامتنا تغلب، تمسّكنا بأرضنا هو الذي دفعنا إلى العودة إليها رغم علمنا بأن الموضوع سيتكرر ولكن لا نكترث، إذا متنا فإن مَن بعدنا سيكملون.

رضا شمعون: هذه هي الروح التي قاتل بها الشباب وقد سلّموا أمرهم لله لأنهم أصحاب حق، مَن يفجّر نفسه في مجموعة ليس مجاهداً في سبيل الحق، مَن كان صاحب حق يكون في سبيل الله.

فادي حداد: هذا هو السلاح الأكبر والأمضى والأقوى، ابن الجنوب هو إنسان، عند اندلاع هذه الحرب البربرية بكل تقنياتها التكنولوجية وسلاح الجو المتفوّق ضد شبان مهندسين وأطباء ومنهم مَن حاز شهادة الدكتوراه بعد الاستشهاد. بعض أشقائنا في الوطن لا يريدون الحرب، أنا لا أريد أن أعيش بل أريد أن أحيا، الكلب يعيش، الصرصار يعيش، الشجرة تعيش بينما الإنسان يحيا أو لا يحيا. أنا مسيحي من إبل السقي، يقولون نحن مسيحيون أُقحمنا في الحرب والدمار والشهداء والدماء. هناك قول للسيد المسيح "ليس هناك من حبٍّ أعظم من أن يبذل المرء نفسه في سبيل أحبائه". اتّضح أن الشيعي الذي استشهد هنا هو مسيحي أكثر منا، لو كان السيد المسيح موجوداً على الأرض ماذا كان سيفعل؟ هل سيقول نريد أن نحيا، سلمّوا سلاحكم؟ سلّموا أرضكم؟ قاموا بتجريف بستان الزيتون لا مشكلة غداً سترزع بدلاً منه. أخي هناك لديه بستان زيتون فيه أشجار يفوق عمرها الألف عام زرعها أجدادنا، ربّما أباه لم يولد في فلسطين.

سامر علي قلّوط: نحن في هذا البلد سنّةً وشيعة ومسيحيون إخوة، نزحنا إلى مناطق إخوتنا المسيحيين والسنّة والدروز واستقبلونا مشكورين في بيوتهم، نحن نحبّكم، نحن نعيش في الجنوب بشكلٍ مشترك وإن شاء الله ينكون كذلك في بيروت والجبل والشمال والبقاع، تجمعنا راية العلم اللبناني ولكن نحن أهل الجنوب لدينا هاجس هو الإسرائيلي، الكنيسة بيتنا والجامع بيتنا، هنا في الجنوب لا تحدث حتى صفعة بين مسلم ومسيحي أو بين سنّي وشيعي ودرزي. الإسرائيلي يخاف منا ومَن لا يحسب حساباً لعدوّه لا يسلم. نحيّي كل الطوائف اللبنانية ونشكرها، لقد نزحنا إلى كل لبنان واستقبلتمونا مشكورين، الكلمة الأخيرة علمنا هو العلم اللبناني فقط والمقاومة تحمينا وتحمي أرضنا.

 

فادي حداد: المفهوم العام أن الجنوب شيعي، ليس هناك شيعة ولا مسيحيين ولا سنّة ولا دروز، في الجنوب هناك أبناء الجنوب، أبناء الأرض، ابن الحنوب قد يخسر ويكون منتصراً وقد يربح ويكون مهزوماً. رأيتُ النصر عندما شاهدتُ طفلاً غزياً يركع على الأرض ويدرس في الكتاب، هذا الطفل حتماً سيواجه ترسانة الناتو ويهزمها، ومشهد آخر لسيدة من النبي شيت جاءت إلى إحدى القرى لتسأل عن حسينية، كانت تبحث عن ابنها الذي استشهد في الحسينية بجانب القرض الحسن علّها تأخذ شيئاً من رفاته، هذه السيدة تهزم أميركا. جورج معلوف هو مواطن من راشيا الفخار قصف الاحتلال بيته ثلاث مرات ونسفه ورغم ذلك قام ببنائه من جديد علماً أنه لم تكن هناك تعويضات، وقد رحل عن دنيانا وما زال بيته موجوداً، هذا هو النصرالمطلق، الخراب سيترمم قريباً وأميركا وإسرائيل ومخططاتهما ليسا قدراً لا يُردّ، القدر الذي لا يُردّ هو دماء الشهداء، هو المرأة التي تسأل عن رفات ابنها، هذا القضاء المبرم. الجنوب لأبنائه والنتيجة حتمية لا لبس فيها مهما طال الزمن أو قصر، هم السارقون، هذه أرضنا وسيرحلون عنها.

 

محمود نصّار: بإذن الله نحن صامدون في بلادنا ومهما فعل الإسرائيلي فلن نتخلّى عنها.     

هبة محمود: ما لفتنا هو ضحكتكِ وتفاؤلكِ، ما هو السر وراءها؟ رأينا حالة مختلفة في الخارج ووجدنا هنا طاقة.

زهراء سويد: هناك مَن يرى في الجنوب الموت والحزن، على العكس أهالي الجنوب يحبون الحياة والفرح، لذلك هم يقاومون ليستمروا في الحياة، ثقافتنا هي ثقافة حياة.