زياد الرحباني... فنان على طريق المقاومة
رحيله ليس خسارة عادية! كما أن سيرته الشخصية والفنية، لم تكن سيرة عادية. زياد الرحباني أكثر من مبدع عبقري، إنه ظاهرة فريدة! بكلماته وموسيقاه وشخصياته المسرحية، وأسلوبه في التعبير والسخرية والنقد، شكل حالة استثنائية في تاريخ الثقافة والفن العربيين. عاش قريبا من الناس، غرف من تجاربهم وحكاياتهم وأوجاعهم ولغتهم. والآن سيبقى بينهم، سيعيش على لسانهم، وفي وجدانهم. ابن عاصي وفيروز، هو أيضاً ابن الحرب الأهلية، ابن الشارع، ابن الأسئلة الهادرة. ماذا أخذ من المؤسسة الرحبانية؟ وكيف تمرد عليها؟ وما الذي أعطاه للأغنية الشعبية العربية؟ هل يمكن الفصل بين خياراته السياسية وإبداعه؟ أوليس فنه الساخر وسيلة احتجاج، ورفضاً للظلم والاستغلال والاحتلال، وفضحا لعيوب المجتمع، ونكئا لجراحنا؟ هذا الابن المشاكس، كتب وألف وعاش «ع هدير البوسطة»، أي في قلب الواقع الشائك. أليس هذا الواقع، هو الذي قتله في نهاية المطاف؟
نص الحلقة
بيار أبي صعب: مساء الخير. رحيله ليس خسارةً عادية كما أن سيرته الشخصية والفنية لم تكن سيرةً عادية. زياد الرحباني أكثر من مُبْدعٍ عبقري، إنه ظاهرةٌ فريدة بكلماته وموسيقاه وشخصيّاته المسرحية وأسلوبه في التعبير والسُخرية والنقد شكّل حالاً استثنائية في تاريخ الثقافة والفن العربيين. عاش قريباً من الناس، غَرَفَ من تجاربهم وحكاياتهم وأوجاعهم ولغتهم، والآن سيبقى بينهم، سيعيش على لسانهم وفي وجدانهم. إبن عاصي وفيروز هو أيضاً إبن الحرب الأهلية، إبن الشارع، إبن الأسئلة الهادرة. ماذا أخذ من المؤسّسة الرحبانية وكيف تمرّد عليها؟ وما الذي أعطاه للأغنية الشعبية العربية؟ هل يمكن الفصل بين خياراته السياسية وإبداعه؟ أوَليس فنّه الساخِر وسيلة احتجاج ورفضاً للظلم والاستغلال والاحتلال وفَضْحاً لعيوب المجتمع ونكأً لجراحنا؟ هذا الإبن المُشاكِس كتب وألّف وعاش ع"هدير البوسطة" أي في قلب الواقع الشائك. أليس هذا الواقع هو الذي قتله في نهاية المطاف؟
لمحاولة الإحاطة ببعض جوانب هذه الشخصية الفذّة، شخصية زياد الرحباني نستقبل الليلة في الاستوديو الموسيقي اللبناني عصام الحاج علي، ومن عكّا المُحتلّة الممثّل والمخرج الفلسطيني محمد بكري، ومن القاهرة الشاعر والصحافي المصري محمد خير، أهلاً بكم. أستاذ عصام سأسألك سؤالاً شخصياً في البداية، أنتَ عشتَ مع زياد في نفس المدينة وواكبتَ مسيرته رَدْحاً، أولاً ما هي مكانته في حياتك؟ ثانياً بماذا أثّر على مسيرتك الفنية والشخصية وربّما حتى السياسية؟
عصام الحاج علي: زياد كان بمثابة أخي، تعرّفتُ إليه في حينما كان شابّاً، نحن من جيلٍ واحد، زياد كان ذا شخصيات مُتعدّدة وأشكالٍ فيزيولوجية ونفسية مُتعدّدة في مختلف مراحله، تعرّفتُ إليه في العشرينات من عُمره.
بيار أبي صعب: كيف تكوّنتما موسيقياً في تلك المرحلة؟
عصام الحاج علي: كان لدينا نفس الذائقة الموسيقية، زياد كان مُتأثّراً جداً بالموسيقى اللاتينية وأنا تربّيتُ على موسيقى أهله والموسيقى الغربية والبرازيلية أيضاً، كان بيننا الكثير من الأمور، وكان هذا بداية التوافق في ما بيننا وبدأنا بالعمل الموسيقي سويّاً، عزفنا البيانو ووضعنا خططاً للعمل المشترك. في العام 1972 وزّع زياد أغنية لسميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زيّاد للمقاومة الفلسطينية، تحدّثنا بالسياسة حين كان الجميع يتحدّث بالسياسة.
بيار أبي صعب: أستاذ محمد بكري أنت كمسرحيّ وسينمائي وفنان مُلتزم سياسياً بل قبل كل شيء كفلسطيني، كيف تنظر إلى تجربة زياد الرحباني بكل أبعادها ومُكوّناتها؟
محمد بكري: يصعب عليّ أن أعبّر بالكلام عن زياد الرحباني وعن تجربته وعن حياته وعن إضافاته للفن العربي والمسرح والسينما في عالمنا هذا لكنني سأحاول قَدْر الإمكان أن أعبّر عما أشعر به خلال وجوده وبغيابه، مع فارِق العُمر القصير بين وبينه وأنا أكبره بعامين ولكني لا أبالغ بالقول إنه لا يختلف عن غسان كنفاني ومحمود درويش وتوفيق زياد وعن أدب المقاومة والشعر =المقاوِم. بالنسبة لي كان شيخ إمام لبنان. في السبعينات ومع بداية تلحينه لأغاني السيّدة فيروز الأمّ الغالية العظيمة، كنتُ في بداية دراستي الجامعية وكان قد بدأ هو بالتلحين وكأننا تربّينا سوياً رغم أننا بعيدون جغرافياً عن بعضنا لكنه كان بالنسبة إليّ الضوء في مغارة والصوت الذي يَصْدَح بكل ما يجب قوله من دون أن يخشى أحداً، هو بالنسبة إليّ كغيفارا، غيفارا الموسيقى والشجاعة في الإبداع بأسلوبه الخاص ولغته الخاصة. وكما تفضّل صديقنا عصام أنه أوجد لغةً لم تكن موجودة قبلاً، ليس عادياً أن تكون إبن السيّدة فيروز التي من دونها لكانت حياتنا ناقصة، أن تكون إبن هذه الأيقونة وتكون فذّاً وتخرج عن المألوف وعن القوّة التي سيطرت عليه موسيقياً وسيطرت علينا جميعاً، لم يكن ذلك سهلاً. أعتقد أن شخصية زياد ومزاجيّته وشجاعته وفَرادته وتنويعه في الألحان والأقوال وفي ما كتبه وفكّر به هو أمرٌ استثنائي، أنا عاجز عن وصف ألم فُقدان زياد لأنه لو بقي حيّاً لَلَحنّ المزيد من الموسيقى ولقال الكثير من الكلام. اليوم تحديداً في ظلّ الحرب الحالية على غزّة وفي ظلّ الصمت العربي المُطْبَق كان سيقول الكثير مما يخشى الآخرون قوله.
بيار أبي صعب: سنستعيد =أغانيه وأقواله ومقالاته وسنعرض جملة كتبها عن فلسطين وأسألك عن رأيك بها. أستاذ محمد خير أستطيع أن أقدِّر أن هناك خيوطاً خفيّة متينة ربطت وتربط بين الرحباني كمدرسةٍ وكظاهرةٍ وبين ذائقتك وخياراتك وتجربتك الشخصية وتجربة جيلك في القاهرة.
محمد خير: التقيتُ بزياد الرحباني في القاهرة حين جاء لتقديم حفلته الأولى في مصر في مارس 2010 في "ساقية الصاوي"، وأعتقد أن الحفلة كانت مُفاجأة للجيل الشاب المصري آنذاك ولزياد الرحباني نفسه الذي ربّما كان مُتردّداً في القاهرة ويعتقد بأنه غير معروف في القاهرة. فيروز وعائلة الرحابنة تمثّل استثناءً لدى الجمهور المصري الذي لا ينتبه عادةً للتجارب الموسيقية التي نشأت وازدهرت خارج مصر، ورغم أن فيروز تمثّل استثناءً على هذا النحو إلا أن الجزء الكبير من الجمهور يُميّز فيروس كأيقونةٍ وكذلك الرحبانيْن، لكن كانت المُفاجأة لكليهما حين جاء إلى مسرح ساقية الصاوي في 2010 وربّما كانت المرة الأولى التي تزال فيها المقاعد في المسرح ليتّسع المكان وقوفاً للجمهور. أتذكّر حينها أن أسعار التذاكر كانت أضعاف أسعار التذاكر المُعتادة إلا أن المسرح امتلأ واحتشد حتى فاض، أيضاً نتيجة للخَلْط في المعلومات لدى الجمهور المصري أصرّ عليه جزء كبير من الجمهور آنذاك أن يُغنّي لأن جزءاً من الجمهور لم يكن يعرف أن هذه الأغاني التي يحبّها بصوت جوزيف صقر ليس بصوت زياد الرحباني، فحاول زياد أن يشرح لهم بأنه لا يغنّي عادةً ولكنهم ألحّوا عليه أجبروه على المُشاركة في بعض الأغاني وكانت الحفلة ناجحة جدّاً. الأجيال المصرية اكتشفت زياد الرحباني آنذاك مُجدّداً ثم استمرّت في مراحل إعادة اكتشافه حتى وفاته، الموت حَدَثٌ حزين لكن كان فيه شيء مُفرح لأننا اكتشفنا هذا التأثير الطاغي، ربّما كان يظنّ الكثيرون أن زياد يخصّهم وحدهم ولكن في معايير التواصُل الاجتماعي لو استخدمنا لفظ تريند أو رائج فإننا نتحدّث عن أسبوعين منذ وفاة زياد الرحباني ولا زال هو حديث الناس وهذه الفترة الزمنية تتخطّى مفهوم السرعة والتعفّن الدماغي ونقص الانفتاح. على المستوى الخاص في تجارب المُهتمّين بالثقافة واليسار نستيطع القول إنّ مَن اقتربوا من سنّ الكهولة نشأوا على "أنا مش كافر" وعلى تجارب زياد الرحباني الموسيقية والثورية وبنوا هذه العلاقة الخاصة معه. الجمهور الأوسع اكتشف أن فيروز التي تخصّ الجيلين الحاليين هي فيروز زياد الرحباني ثم بدأ هذا الجمهور المصري الذي استمع إلى زياد أكثر اكتشف زياد المُفكّر والفيلسوف والساخِر، زياد "العقل زينة" و"تابع لشي""، و"فيلم أميركي طويل" وإلى آخره، يكتشفه من جديد ويستعيد المفهوم الحقيقي لكلمة الفنان، وبهذا الصدى الكبير =والمُزَلْزِل الذي أحدثه رحيل زياد الرحباني استعاد الكثيرون الثقة في أن الأثر الحقيقي والرؤية والانحياز والموهبة قادرة رغم رُكام الانحطاط الفني على أن تؤثّر وأن تملأ الناس حتى الأجيال التي لم تكن قد وُلِدَت حين أصدر زياد آخر ألبوماته.
بيار أبي صعب: تصديقاً لحديثك أستاذ محمد خير، زياد الرحباني حاضرٌ بإبداعه الفريد الذي طبع عصره وترك بصماته على وعي ومزاج وذائقة أجيالٍ مُتلاحِقة في لبنان والعالم العربي. كان زياد صوت جيلٍ كاملٍ ولسان حال الناس، تعليقاته وقفشاته وعباراته دخلت قاموسنا ولغتنا اليومية وصارت كالأمثال الشعبية والأقوال المأثورة نستحضرها لنضحك من وجعنا أو لنختصر حالنا أو لنعلن رفضنا وتمرّدنا، وقفة عند أهم محطات مسيرته المسرحية.
أستاذ عصام الحاج علي، قال عاصي حين وُلِدَ زياد أخاف من أن يحبّ هذا "الجلبوط" الموسيقى ويمسحني، بالطبع لم يمسح زياد والده ولكنه حمل الإرث الرحباني وتمرّد عليه، هناك نُقّاد يتحدّثون عن قتل الأب بالمعنى الرمزي، استردّ أمّه وبدأ بعد انفصال عاصي وفيروز في العام 1979 بالإنتاج لوالدته مثل "وحدن" وصولاً إلى "إيه في أمل"، وُلِدَت فيروز من جديد عِلماً أنه تصالح مع عاصي في وقتٍ معيّن بُعد عشر سنوات على غيابه وأعاد توزيع أجمل أغانيه لتغنّيها فيروز، ما رأيك بتحربة زياد مع المؤسّسة الرحبانية كيف خرج منها إلى عالمه الخاص؟
عصام الحاج علي: هناك تشابُه كبير بين زياد وعاصي، إذا تحدّثنا عن اللغة التي وصل إليها زياد مؤخّراً، زياد مُتحوّل ومُشاكِس وغريزي، غريزة الإبداع هي التي تحكمه وهذا هو المحور الأساسي في الفن. زياد وعاصي يشتركان في اكتشاف اللغة الغريبة والسحرية، مثلاً الرحابِنة في جسر القمر ليسوا كالباقين، جسر القمر فيها سحر وحكايات وجن، تذهب فيه فوق الغيوم.
بيار أبي صعب: ولكن زياد ذهب إلى مكانٍ آخر.
عصام الحاج علي: لم ينحصر الرحابِنة في هذا الأسلوب بل عملوا على الواقع والتاريخ، ولكن كانت لديهم هذه النافذة التي تطلّ على اللغة السحرية التي طوّرها زياد في ما بعد. زياد في "بالنسبة لبُكرة شو" و"فيلم أميركي طويل" يختلف عن "شي فاشل" حيث بدأ باكتشاف لغة جديدة ووصل إلى اللغة التي يريدها في العامين الأخيرين. برأيي أن قوّة "بالنسبة لبُكرا شو" هي في موسيقاها وليس في السيناريو والتوجّه في الكتابة. اكتشف لغة الموسيقى وطوّرها في ما بعد على كل المستويات، في عملية الإبداع هناك الديونيزي والأبولوني عند نيتشه، زياد يمثّل الإثنين بشكلٍ رائع وكأنه يتقمّص شخصية نيتشه حين يتحدّث عن الفن، هو مُشاكِس، غريزي ولكنه في الوقت نفسه يسيطر على انفعالاته ويُطوّرها إلى فن.
بيار أبي صعب: أستاذ محمد بكري سأقرأ جملة لزياد وأريد أن تعلّق عليها بدقيقةٍ من فضلك، "لا أحد سيُحرّر فلسطين إلا أهلها، لديهم صبر كبير لا يُصدَّق، لذلك فإن فلسطين ستتحرَّر مهما طال الزمن"، كيف ترى الانحياز السياسي الحاسِم عند زياد الرحباني في زمنٍ صار فيه الفنّانون الكبار يتحاشون اتّخاذ موقف ولا يمتلكون الجُرأة الكافية ويخافون على مصالحهم؟
محمد بكري: المثل الفلسطيني يقول "ما حكّ جلدك مثل ظفرك"، هذا أصدق تعبير قد يُقال عن الفلسطيني المُحتلّ منذ 1948 حتى اليوم وخاصةً ما يحدث الآن في غزّة. بالنسبة إلي زياد بهذه المقولة إنه لم يقل الحقيقة فقط بل هو كسر كل الحواجز بين الطائفية وبين القومية والوطنية، زياد هو مسيحي بثقافته وتطلّعاته وفكره ينتمي إلى الفكر العربي الإسلامي، وقد حقّق رقماً قياسياً بأنه قال ما لم يجرؤ الآخرون على قوله خصوصاً الفنانين الكبار والمشهورين الذين يخشون من تصنيفهم ضمن حزب مُعيّن أو توجّه =مُعيّن، زياد تخطّى كل هذه المراحل، وأنا أحيّيه على هذه المقولة لأنها حقيقية.
بيار أبي صعب: أستاز محمد خير أنت تعرف لبنان جيّداً كيف تُفسِّر من حيث أنت من القاهرة سرّ هذا الإجماع الوطني بعد رحيله حول الفنان الراديكالي والاستفزازي من أقصى اليمين الذي أمضى وقته ينتقده ويسْخَر منه إلى أقصى اليسار الذي لم يتوانَ عن انتقاده بقسوةٍ أيضاً؟
محمد خير: أولأً لا أحد يعرف لبنان جيّداً ولكن هذا الإجماع واضح، أعتقد أن لبنان لديه اعتزاز بهذه العائلة العظيمة التي برأيي لم تتكرّم كما ينبغي، وثانياً لأن زياد كان عبقرياً حقيقياً، وثالثاً أعتقد أن المجتمع يعتزّ بالشخص الذي عاش مثالاً لأفكاره، زياد الرحباني كان يقول إن الجميع يقول نفس الكلام ولكن العِبرة في الممارسة، هذا رأيناه أيضاً في مصر حين رَحَل أحمد فؤاد نجم لأنه عاش كما قال ودفع الثمن رغم انتقاده وهجومه على الرأسمالية والحكومة إلا أن الجميع شعر بفُقدانه. زياد الرحباني كان يساريّاً وأعتقد أنه لا توجد زاوية غير الزاوية اليسارية يمكن أن تكون فيها مع التحرير وضدّ الطائفية ومع الوطن ومع الفنون في نفس الوقت، هذه الثلاثية لا يمكن أن تكون إلا من زاوية اليسار، فلستُ مُتعجّباً أن نرى هذا الإجماع عليه.
بيار أبي صعب:أعزّائي =المشاهدين فاصل قصير ثم نعود مباشرةً مع تحيّة من منال سمعان المُغنّية السورية التي شاركت في كثيرٍ من حفلات زياد الرحباني وبعدها نستأنف النقاش.
منال سمعان: أنا مُمْتنّة للحياة التي جعلتني أكون جزءاً من مسرح زياد الرحباني، مُمتَنّة للحياة التي قرّبتني من إنسان =طيّب، مُحبّ، صادق وحقيقي، مُبدع ومتواضِع مثل الأستاذ زياد. تجربتي مع أستاذ زياد غنية جدّاً فيها الكثير من الإضافات على الصعيدين الفني والشخصي. تعلّمت منه أن الفن موقف والغناء التزام، تعلّمت أن أكون أنا، زياد كان يحبّ الناس ويشعر بأوجاعهم وبالتالي كان يحبّنا ويحسّ بوجعنا. من وجهة نظري زياد إنسان غير جدَلي، زياد إنسان واضح، صاحب موقف، صاحب مبدأ، مواقفه غير قابلة للتأويل، إنسان واضح مع نفسه قبل أن يكون واضحاً مع الآخرين. كثُرَت الأقاويل بخصوص العمل مع زياد بأنه عمل صعب ومُتعِب ومُجْهِد، على الإطلاق رغم أننا كنا نمضي ساعات طويلة في البروفات بالاستديو والنوتا، كانت من أجمل الأيام وأجمل أنواع التعب، أنا لا أراه صعباً أبداً بل ممتعاً جدّاً. نتحدّث عن صعوبته ربّما إذا أردنا تمييز خيّاط يُحيك قطعة من الحرير عن خيّاط يُحيك قطعةً من القطن، هذا هو الاختلاف من وجهة نظري.أما بالنسبة لتجربتي الشخصية مع أستاذ زياد والذكريات والأيام الجميلة، سنوات طويلة وعِشْرة عُمر، لا يمكنني إلا أن أبتسم لأنه كان يحبّ الفرح، هو مصدر للفرح، كان يحبّ الضحك في كل الجلسات. من أجمل الحفلات وأغلاها على قلبي بعد الحفلات الكبيرة، الحفلات الكبيرة كانت فيها مسؤولية ولكن بالنسبة للحفلات الصغيرة وخصوصاً حفلات أبو ظبي، قضيتُ معه أربعة أشهر في أبو ظبي وتعلّمتُ منه الكثير، وأطلق هناك أغنية "ليك يا حبيبي ليك.
بيار أبي صعب: أهلاً بكم مجدّداً أعزّائي المشاهدين في برنامج على محمل الجد، أعيد الترحيب بضيوفي الفنان عصام الحاج علي في بيروت، الفنان محمد بكري في عكّا، والشاعر محمد خير في القاهرة. نصل الآن إلى القسم الثاني من الحلقة وهو بعنوان "على محمل النقد"، كما في لبنان كذلك في العالم العربي مغرباً ومشرقاً يتمتّع زياد الرحباني بشعبيةٍ واسعة خصوصاً في أوساط الشباب. نتوقّف مع شهادة الإعلامي التونسي عماد دبور، يقول قد تتّفق أو تختلف مع زياد الرحباني لكنك ستعترف أنه أخذ الأغنية اللبنانية إلى مستوى آخر وتجاوزت موسيقاه الحدود المحلية، نشاهد معاً.
عماد دبور:. زياد الرحباني هو إمضاءٌ خاص لا يشبه غيره من الفنانين والمُبدعين في العالم العربي. نتّفق أو نختلف معه تلك مسألة أخرى. زياد الرحباني علامةٌ فارِقة في إبداعه الموسيقى، في إبداعه المسرحي، في تعليقاته على تفاصيل الحياة اليومية في لبنان والشرق وفي العالم العربي. قد تكون اختيارات زياد الاشتراكية والشيوعية تصبّ في منحى أيديولوجي مُعيّن، تختلف معه كما قلتُ أو تتّفق تلك مسألة أخرى، ما لا يمكن الاختلاف عليه في تصوّرات وقراءات زياد الرحباني أنه مُبْدِع في الموسيقى ونكتة وحضور فكري للتعبير عن تفاصيل حياتنا اليومية ومشاغِلنا ومتاعِبنا. زياد هذا الذي استطاع أن يحوّل حياته ما بين فيروز وأبيه وعمّه إلى موسيقى مُنتجة لأجمل الألحان، هذا الذي أخذ فيروز إلى منحى مختلف وأخذ الأغنية اللبنانية عموماً إلى مستوى مختلف. قيل إن موسيقاه فيها جاز أو أنها موسيقى غربية أدخل عليها بعض اللَمَسَات الشرقية، فردّ زياد وقال إن موسيقاه لا تشبه هذه المعادلة، فلا يمكن خلط الهمبرغر بالفلافل، لا الموضوع أكبر من ذلك، هو يشبه زياد ويشبه العصر الذي عاشه. زياد في رحيله مثّل حزناً كبيراً لكل الناس، لمُحبّيه وحتى للمُتَمَلّقين أو المُنتفعين من إسم زياد. زياد كان يعرف الجميع وكانت له اختيارات مختلفة، اختياراته الصحية لم تكن الأفضل، زياد محبوب في مصر، في تونس وفي العالم العربي، زياد إنسانياً تجاوزت موسيقاه حدود هذا البلد العظيم لبنان، تحيّاتي وتعازيّ لكل مُحبّي زياد الرحباني.
بيار أبي صعب: أستاذ محمد بكري تقول فيروز عن زياد الرحباني كل شيء في الحياة له =وجه ساخِر، وعَظَمَة زياد أنه استطاع التقاط وتصوير هذا الوجه الساخِر، أنتَ عملتَ على السُخرية وقدّمتَ رواية إميل حبيبي "المُتشائِل"، كيف تنظر إلى هذه العلامة الفارِقة التي طبعت مسيرة الرحباني الإبن على امتداد نصف قرن قريباً؟
محمد بكري: يُقال في فلسطين إن الملامة على قَدْر المحبّة، حدّة النقد اللاذِع لزياد إنْ دلّت على شيء إنما تدلّ على مدى حبّه للبنان ولأهله مع كل الاختلاف في وجهات النظر وفي الأحزاب وفي الطوائف. أستطيع أن أعبّر عن زياد بأنه حَنْظَلة ناجي العلي لكن وجهه للناس وليس ظهره، ولا يضع يديه خلف ظهره وإنما يعمل مع الناس ويتحدّث بلسان حالهم، ينتقد الناس من حيث التوجّهات السياسية أو الاجتماعية المريضة أو الأرستقراطية أو الطبقية. زياد كان بالنسبة إليّ علامة فارِقة كما قالت السيّدة فيروز لأن سُخرية زياد لم تكن سُخرية نابعة من انتقامٍ من أجل الانتقام بل كانت من أجل التغيير، من أجل خَلْق وتغيير وضع مُعيّن يعاني منه كل إنسان في لبنان ونحن نعرف ما يعيشه لبنان من مشاكل سياسياً واجتماعياً وطائفياً، بلد صغير مليء بالمشاكل، وزياد استطاع بقلمه وعقله ولمحاته أن يُعبّر عن كل ذلك بسُخريةٍ لاذعةٍ تروق لبعض الناس ولا تروق لغيرهم ولكنها كانت تروق لي دائماً.
بيار أبي صعب: هذا هو الفن دائماً لا يمكن أن يحقّق إجماعاً بل يقسّم الناس. أستاذ محمد خير كتب زياد الرحباني كلمات أغنياته وإسكتشاته وحواراته المسرحية بلغةٍ واقعيةٍ فجّة، بلغة كل يوم، بمُفردات الناس على نقيض اللغة الرحبانية المُتْرفة والمُتأنّقة، وكان يستعيد في كل مناسبة إعجابه بالشاعر أحمد فؤاد نجم. أنت شاعر وتكتب أيضاً بالعامّية المصرية، في لبنان لحّن لك زياد آخر هو زياد سحّاب بعض قصائدك، ما رأيك في علاقة زياد الرحباني باللغة؟
محمد خير: لغة زياد الرحباني بلا شكّ كانت واضحة الاختلاف عن اللغة البيضاء للأب والعمّ وهي لغة محكية وقريبة من الشارع لدرجة أن الكثيرين في مصر ممّن يحبّون أغاني فيروز وزياد الرحباني، حتى هذه اللحظة يحبّون الأغنيات ويغنّونها ويردّدونها من دون فَهْم لبعض مُفرداتها، هذا الأمر كان يواجهه أيضاً مَن يطّلع على مقالات زياد الرحباني أو الاستماع إلى حوارته، في كثيرٍ من الأحوال ربما لا تستطيع أن تلتقط النكتة أو المُفردة بالضبط ولكن هذا كله ضمن مشروع أخذ فيروز ومشروعها وأخذ أفكار زياد الرحباني إلى الأرض فكان قادراً على التواصُل مع الناس حتى ن دون أن يفهموا كافة مُفرداته لأن كلماته ليست منزوعةً عن مشروعه الموسيقي والفكري. وأعتقد أن حبّه لأحمد فواد نجم ناتج من ذلك، أيضاً الكثير من كلمات وقصائد وأغنيات أحمد فؤاد نجم لا يمكن ترجمتها إلى أية =لغة مثل "بوتيكات النات كونّات وشقق مفروشة" لا يمكن ترجمتها، لا تستطيع أن تدركها بلغتها الأصلية فقط كالعبارة الشهيرة لزياد الرحباني، لماذا تشرح شيئاً لأناس لا يهتمّون لمعرفته بلغته الأصلية، هو استخدم اللغة الأصلية طوال الوقت حتى وإنْ كان يُخاطر أحياناً بألا يفهم الناس كلماته مئة بالمئة، أغنية "هدير البوسطة" على سبيل المثال هي إحدى أغاني فيروز المُحبّبة إلى المصريين وتختلط عليهم معاني بعض كلماتها لكنهم لا يهتمّون لذلك. في كثيرٍ من الأحوال الحِجّة الأساسية في كتابة الشعر باللغة المحكية هو أنك لا يمكن أن تفكّر بلغةٍ ثم كتب بلغةٍ أخرى.
بيار أبي صعب: أنتقل إلى الأستاذ عصام الحاج علي لنتحدّث عن الموسيقى، مصادر زياد الموسيقية تعدّدت من سيّد درويش إلى الجاز اللاتيني مروراً بالمؤسّسة الرحبانيّة التي تأثّر بها، ومن خلال البيانو جَمَعَ الشرق والغرب، هناك أيضاً العتابا والموسيقى الفلكلورية والشعبية وفي الوقت نفسه البلوز والجاز والموسيقى الكلاسيكية، هذا كله جعل له عالمه الخاص في الموسيقى والتوزيع، حين تحدّث النقّاد عن الجاز الشرقي بعد هدوء نسبي احتجّ زياد بعد سنوات وأعطى مثالاً عن الهمبرغر بطعم الفلافل، قال إن لديه موسيقاه الخاصة وليس جاز شرقياً. كيف تصنّف موسيقاه وأغانيه، هل يمكننا الحديث عن الأغنية الشعبية العربية؟ كيف يمكننا تصنيف موسيقى زياد ولونها؟
عصام الحاج علي: في البداية أودّ أن أخبرك عن أهمية الموسيقى بالنسبة لزياد،كانت لديه خيارات أخرى في الحياة، ولو خيَّرته بين المسرح والموسيقى لاختار الموسيقى رغم أنه وجد لغته في المسرح. موسيقى زياد هي موسيقى خاصة، صحيح أنه درس الموسيقى ولكنه علّم نفسه بنفسه وكان له ذوقه الخاص أما التحليل فيأتي لاحقاً ونطلق ما نشاء من التسميات.
بيار أبي صعب: هل نستطيع أن نُسمّي أغانيه بأنها شعبية؟
عصام الحاج علي: زياد تحوّل كثيراً من الشعبي.
بيار أبي صعب: مرحلة سلمى ولطيفة وأسطوانات فيروز.
عصام الحاج علي: حتى قبل ذلك، زياد أوجد لغته الخاصة في المسرح والموسيقى أنا أسمّيها بالواقعية السحرية مثل ماركيز لأنه أضفى على الواقع أبعاداً جديدة كلياً، لو شاهدتً مقاطع من "خريف البطريرك" (كيق سصف ==ماركيز البطريرك) في حفلاته بينما يتنقّل الدجاج داخل القصر، زياد يخلط السريالية بالسياسة والواقعية حين يريد ومن ثم يعيدنا إلى نقطة البداية، لذلك لا يمكنني أن أجيب على هذا السؤال بدقّة.
بيار أبي صعب: لنستمع إلى شهادة المُغنّية والمُلحّنة المصرية شيرين عبدو التي شاركت في تجارب عدّة مع زياد الرحباني، نشاهد معاً.
شيرين عبدو: حالفني الحظ لأن الأستاذ زياد اختارني لكي أشاركه في جولاتٍ صيفية كمُغنّية رئيسية في فرقته لعدّة سنوات مُتتالية، وكنتُ محظوظة بالتقرُّب منه على المستوى الشخصي والموسيقي، تعلّمتُ منه دروساً حياتية كثيرة ودروساً موسيقية وأهمّها التواضع. لم يكن يحبّ التفخيم أو التعظيم، كان متواضِعاً جدّاً لدرجة أنه كان يسألني عن رأيي في التفاصيل اللحنية في بعض الأعمال المشتركية التي كان يُفترض تنفيذها ولكن الحظ لم يحالفني. زياد كان إنسانياً، وعلى المستوى الفني كان ظاهرةً وكياناً استثنائياً لن يتكرّر، نادِر الحدوث بعيداً عن كونه رائداً سواء في مراحل عمل السيّدة فيروز أو في مشاريعة الخاصة في المسرح العربي أو في كونه مُفكّراً وفيلسوفاً وسياسياً. خسرنا كل هذا برحيل زياد كونه نموذجاً مثالياً للفنان المستقلّ المُعاصِر منذ بداية مشروعه وحتى لحظة رحيله. لقد خسرنا إنساناً لا يُعوَّض، كان يعطي من غير قَصْد دروساً عملية في الإنسانية لكل مَن أسعفه الحظ بأن يعبر في حياته ولو لدقائق معدودة. كنتُ أقول له أنت تسبقنا بسنين ضوئية، كان يخجل كطفلٍ من أية مجاملة وكان في قمّة التواضُع. لقد خسرنا رائِد موسيقى الجاز العربية ورائِداً في الموسيقى الشرقية ورائداً في كتابة الأغاني، هذا عدا عن الخسارة الإنسانية الكبيرة لشخصٍ نادر، كنت أظنّ أن الموت لن يجرؤ على أن يخطفه من بيننا ولكن حدث ذلك، لم أكن أتصوّر يوماً أن أنعاه ولكنه سيظلّ خالداً بأعماله.
بيار أبي صعب: أستاذ محمد بكري إذا طُلب إليك أن تحدّد أبرز ما يُميّز تجربة زياد الرحباني هل ستقول عبقرية المؤلّف أو موهبة الممثّل أم اللغة التي ابتكرها أم الرؤية السياسية التي حدَّدت مجرى حياته؟
محمد بكري: كل ما قلته، زياد الرحباني يذكّرني جدّاً بالتناسُق الغريب العجيب بين الكلمة والفكرة والنبض الداخلي والفكر في شعر محمود درويش. عبقرية محمود درويش تتجلّى بالجَمْع بين كل هذه الأمور في القصيدة الواحدة. الفكر المُتيقّظ النافِذ، النبض الداخلي، اللحن، الوزن، التناسُق كامل بين الكلمة والفكرة والوزن والنبض الداخلي الذي نسمّيه القافية في القصيدة. لم يحصل أبداً أن يكون هناك خَلَل في أيٍّ من هذه الأساسات، بالنسبة لي زياد يحمل نفس الصفات في المسرح، في الغناء، في الفكر وفي الموسيقى.
بيار أبي صعب: شكراً، أستاذ محمد خير زياد عاش ومات مثل أبناء الشعب، رفض دخول عالم النجومية مع أن الأبواب كانت مُشرَّعة له، مات مُنْسَجماً مع فكره وعقيدته، ما تعليقك بعدما أُسدلت ستارة الفصل الأخير؟
محمد خير: أولاً أودّ أن أضيف ملحوظة طبقاً لسؤالك عن الإجماع على زياد في لبنان، لوحِظ عند وفاته هذا الإجماع في مصر أيضاً من اليمين واليسار، يبدو أن العبقرية والصدق الفني يتخطّيان كل الحواجز. أعتقد أن جزءاً من عبقرية زياد وذكائه وموهبته أنه كان يعرف أن الممارسة =أهمّ من الكلمات فالجميع يتكلّم، ولأنه لا توجد طريقة أخرى لعَيْش الحياة، إذا أردتَ ألا تخسر نفسك وألا تخسر مشروعك فعليك أن تنتبه من الخسارة ومن الهَدْر أن تمتلك هذه الموهبة والعبقرية الفنية وألا تضيّعها بسلك مسارٍ لا يتّفق معها، وأعتقد أنه كان يعتزّ بنفسه وبيته وبلده ويرى في نفسه عن صدق وعن صحّة بأنه أكبر من كل المُغريات والأبواب التي شُرِّعت. هناك عبارة للراحل الكبير أنسي الحاج يقول "الشاعر الحقيقي إذا أراد أن يُغيّر مساره تُفْتَح له كل الأبواب، وأعتقد أن زياد الرحماني كان كذلك، هو يعرف أنه إذا أراد ألا يكون زياد الرحباني فسوف تُفتح له كل الأبواب لكنه يعرف نفسه ويعرف قيمته.
بيار أبي صعب: كلام مؤثّر حقاً أشكرك عليه. أستاذ عصام الحاج علي سنختم معك عن غياب زياد الرحباني، زياد غاب عن الساحة منذ حوالى ست سنوات وكأنه يعوّدنا على غيابه، عوّدنا بالتدرّج، هل هو إحباط؟ هل هي مرحلة إعادة نظر؟ هل هي أزمة إبداع؟ هل هو المرض أو اليأس؟ لماذا صمت زياد في الفترة الأخيرة؟ هل كان يحضّرنا لموته؟
عصام الحاج علي: لم يكن أمام زياد خيارٌ آخر، لقد شبّهته بصيّاد اللؤلؤ، صيّادو اللؤلؤ يموتون باكراً ويفقدون حياتهم أثناء الغَطْس للبحث عن اللؤلؤ، لذا يموتون قبل عُمر الخامسة والخمسين. لقد أتحفنا بما وجد من صوَر وجواهر، لم يعد قادراً على الغَطْس مرة أخرى، وهذه حال الجميع، فكان لا بدّ من أن يتوقّف كما توقّف محمود درويش. أنت تصل إلى مرحلةٍ تنقطع علاقتك بالإبداع ويختفي اندفاع الغريزة.
بيار أبي صعب: سأختم مع زياد، نترك كلمة الختام لزياد الرحباني "ما فيك تبني بلد وإسرائيل عالباب، ما فيك تعمل عدالة وحرية هنّي وعم بجبروك تختار بين أمنك وكرامتك". شكراً لضيوفي عصام الحاج علي ومحمد بكري ومحمد خير، شكراً على المتابعة وإلى الأسبوع المقبل.