السيد محمد جواد نصر الله

قبل سنةٍ من الآن لم يكن أيلول خريفاً معتاداً، اكتسى الخريف لون الدم والتضحية والفداء، وخسر أحرار العالم رمزاً ملهما وقائداً استثنائياً ومقاوِماً لا يلين، وأيقونة نضالٍ ضد الاحتلال الاسرائيلي وضد الهيمنة الاستعمارية على بلادنا وخيراتنا. لم تكن تلك الشهادة فقط فداءً للبنان وفلسطين، بل لكل مؤمنٍ بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال. كثيرون وفي مختلف أصقاع العالم عاشوا حينها مشاعر اليتم والفقدان، فما بالنا بالأقربين الذين لم يعرفون فقط كقائدٍ ملهِم ومقاوِمٍ عنيد، بل عرفوه وعاشوا معه كأبٍ عطوف ووالدٍ رحيم، وإنسانٍ دمثٍ متواضعٍ يحمل الى جانب أثقال القضية هموم الأسرة والعائلة والمجتمع والناس. مسك الكلام يستعيد بعضاً من السيرة الإنسانية بمَن مرّ مثل شهابِ في ليلٍ حالك، مسك الكلام مع السيد محمد جواد حسن نصرالله، أهلاً وسهلاً نوّرت مسك الكلام.

نص الحلقة

 

 

 

زاهي وهبي: مساء الخير. قبل سنةٍ من الآن لم يكن أيلول خريفاً معتاداً، اكتسى الخريف لون الدم والتضحية والفداء، وخسر أحرار العالم رمزاً ملهما وقائداً استثنائياً ومقاوِماً لا يلين، وأيقونة نضالٍ ضد الاحتلال الاسرائيلي وضد الهيمنة الاستعمارية على بلادنا وخيراتنا. لم تكن تلك الشهادة فقط فداءً للبنان وفلسطين، بل لكل مؤمنٍ بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال. كثيرون وفي مختلف أصقاع العالم عاشوا حينها مشاعر اليتم والفقدان، فما بالنا بالأقربين الذين لم يعرفون فقط كقائدٍ ملهِم ومقاوِمٍ عنيد، بل عرفوه وعاشوا معه كأبٍ عطوف ووالدٍ رحيم، وإنسانٍ دمثٍ متواضعٍ يحمل الى جانب أثقال القضية هموم الأسرة والعائلة والمجتمع والناس! 

مسك الكلام يستعيد بعضاً من السيرة الإنسانية بمَن مرّ مثل شهابِ في ليلٍ حالك، مسك الكلام مع السيد محمد جواد حسن نصرالله، أهلاً وسهلاً نوّرت مسك الكلام.

سيّد كنّا نتمنى أن يكون اللقاء في ظرف آخَر ولكن ألف رحمة على روح السيد حسن نصرالله، بعد سنة على استشهاده وغيابه الجسدي كيف يحظر في ذاكرته ووجدانك؟

 

 

جواد نصرالله: هو لم يغب حتى يحضر، واقعاً، صار أكثر حضوراً، في كل زاوية إذا أردت هو موجود، في كل فكر هو موجود، في كل حركة وسكون هو موجود، أصلاً لم يغب، بالعكس حتى هو ليس فقط في البيت، ليس فقط في أنفسنا فقط كعائلة هو موجود، في الخارج تجد كم أنه ازداد حضورا.

 

 

زاهي وهبي: كم تفاعل الناس مع هذا الحضور من خلال الغياب، الى درجة عدم التصديق أن السيد قد استُشهد، ماذا تقول لمَن لا يصدّق حتى الآن أو يعيش حال من النكران؟ طبعاً شقيقك السيد محمد مهدي خرج وتكلم، وقبل ذلك شقيقتك أيضاً تكلّمت، ماذا تقول حضرتك سيد جواد لمَن لا يزال في حال عدم تقبّل لهذا الأمر؟

 

 

جواد نصرالله: أولاً نحن في مفهومنا الديني أن الله سبحانه وتعالى قهر عباده بالموت والفناء، والحي القيوم هو الله سبحانه وتعالى، وأفضل الخلق في هذه الدنيا هو الرسول الأكرم صلّى الله عليه وعلى آله، والأولياء والأصفياء والرسل كلهم ختم الله لهم أعمارهم، في النهاية يوجد سنن، حتى يوجد سنّ معيّن، والسيد في المجال الذي كان به هو معرّض، فموضوع النكران هو مجرّد أمر عاطفي يسلخ عنهم المنطق، لكن رويداً رويداً الله سبحانه وتعالى يربط على القلوب ويهدئ على القلوب، بعض الوقت الناس تعود لوحدها الى الأمر الطبيعي.

 

 

زاهي وهبي: تقول سيّد جواد أن سماحة السيد كان معرّض، بمعنى كنتم تتوقعون خبر الاستشهاد ربّما في أي لحظة وليس فقط خلال الحرب، لأن كيان العدو بكل ما يمثّل ومن أمامه ومَن وراءه كان يعمل على استهداف السيد، كيف تلقيت خير الاستشهاد رغم هذا الاحتمال قائم كل الوقت؟

 

 

جواد نصرالله: هذا الاحتمال قائم لكن حين يأتي أحد يُخبرك مناماً ما تنكره ولا تحبه، رغم توقعنا ما كنّا نحب، أتكلم عن نفسي، هذا الخيال لا أحبه وكنت دائماً أدعو له بطول العمر إن شاء الله الى ظهور صاحب الأمر، وباعتقادنا إن شاء الله هو يعود مع صاحب الأمر. تلقيت الخبر على التلفزيون عند إذاعة البيان الرسمي على الميادين.

 

 

زاهي وهبي: مثلنا جميعاً.

 

 

جواد نصرالله: طبعاً.

 

 

زاهي وهبي: المشاعر، أول ما خطر في بالك؟

 

 

جواد نصرالله: لا توصَف، كان عملي أن أهدّئ مَن هم حولي الذين كانوا واقعاً هادئين لكن تقول لهم اهدؤوا وكذا لتستوعب الصدمة، هي كانت صدمة ليس أكثر، كنّا بعض الشيء مهيّئين من عزم الضربة، من زلزلة الضربة، من الإعلان الاسرائيلي أنه استهدف السيّد، من بعض التفاصيل التي بتنا نتكلم بها تلك الليلة، هل يُعقَل هو أو لا، في هذا المكان أو لا، فحين أُعلن الخبر تقريباً كنّا خمسين بالمئة مهيئين لكن لا خبر يقيني، وتعرف طبيعة الجهاز الذي كان يمسك الحماية عند سماحة السيد هو مقسَّم، يعني ليس الكل يعرف بعضه، فبالتالي توصيل خبر إلينا كان صعب بعض الشيء، نحن كنّا معزولين عن الاتّصال.

 

 

زاهي وهبي: حين تيقّنت من الأمر أول ما فكّرت به؟

 

 

جواد نصرالله: أين هو؟ انتشلوه؟ لا زال في المنشأة؟ طبعاً لاحقاً علمت أن سماحة السيّد هاشم قدّس الله روحه لم يعلن حتى تمّ سحب جثمان سماحة السيد من المنشأة، وهناك مَن جاء ونظر إليه بعينه واتّصل به قال له أنا رأيت، فجهّز البيان. طبعاً حين سمعت البيان خرجت لأرى أين السيّد، فأول مَن اتّصلت به هو سماحة السيّد هاشم، طبعاً عزّانا وكان الحال لا يوصَف، لا حالي ولا حاله ولا حال الناس، كنت أرى الدنيا حيث أقف وأمشي، نقل لي طبعاً عزاءه وعزاء الشورى والى آخره، وأنه اذهب الى فلان هو يُخبرك أين هو سماحة السيّد، لأنه حتى حين انتُشل سماحة السيّد كان مهدداً بقصف الإسعاف وقصف المستشفيات في حال وُضع في براد من براداتها. 

 

 

زاهي وهبي: وقصف الجثمان نفسه. متى رأيت الجثمان؟

 

 

جواد نصرالله: مباشرةً بعد أن تكلمت مع السيد هاشم قدّس الله روحه قال لي بمَن اتّصل، اتصلت بهذا الشاب والتقيت به قال لي هو إمّا في الحسينية الفلانية أو في المجمّع الفلاني في المغسل، ذهبت الى المكان الأول لم أجد أحد، يبدو أنهم ذهبوا الى المغتسل، ذهبت الى هناك وجدته، عند دخولي رأيته مسجّىً على المغتسل.

 

 

زاهي وهبي: ماذا فعلت؟

 

 

جواد نصرالله: أول ما نظرت كان الى يديه لأرى إن كان خنقاً أو من الضغط، فحين وجبتهما مرتاحتين برد قلبي. طبعاً ركض إليّ ابن الحاج عماد مغنية يريد تهدئتي، أنا كنت هادئ ومتماسك، أنا ابن أبي، نحن حين تصل إلينا الشهادة لا نجزع، أبداً.

 

 

زاهي وهبي: وأنتم اختبرتم الشهادة، وللمفارقة..

 

 

جواد نصرالله:  مثل السيّد لم يختبر أحد شيئاً.

 

 

زاهي وهبي: أنا تسنّى لي وتشرّفت أنني حاورت السيّد في مثل هذا التاريخ الذي نسجّل به الآن اللقاء، في ذكرى استشهاد هادي، وللمفارقة نسجّل اللقاء في نفس التاريخ بعد عشرين عاماً من ذكرى استشهاد السيد. هو وكأنه هيّأكم، يعني قال لوالدتك في اللقاء الأخير أنه قد يكون هذا اللقاء الأخير عندما ذهب..

 

 

جواد نصرالله: هو قال غير ذلك، قبل ثلاثة أشهر أنني أشعر أن هذه الفترة الأخيرة، يعني كأنه اقترب موعد الشهادة أو الاغتيال أو كذا، طبعاً كان الاسرائيلي يتكلم كثيراً ويهدد ويهوّل، وهو يبدو كان عنده معطيات حسّية، ودعني أقول لك كان عنده معطيات وجدانية ما ورائية ربّما، إلهام، الكل يجمع أن مَن يُستشهَد من خلال التجربة مع شهدائنا في الفترة الأخيرة، يصبح إنسان آخَر. ما أعرفه أنا أن والدي منذ سنة تقريباً هو يعرف نفسه في مسار الشهادة. هيّأنا نحن كأولاده! هو لم يكن يتحدث، هو حتى لا يحمّل أحد همّه لو بكوب ماء، هو في الخطابات منذ طوفان الأقصى الى حين تأبين الشهيد فؤاد شكر والكلمة التي نعى نفسه بها بشكل واضح..

 

 

السيد نصرالله: "لشهيدنا لا نقول وداعاً بل الى اللقاء، الى اللقاء مع انتصار الدم على السيف، الى اللقاء في الشهادة، الى اللقاء في جوار الأحبّة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"

 

 

زاهي وهبي: هو في الخطاب قال الى اللقاء في الشهادة، الى اللقاء في جوار الأحبة، الى اللقاء في انتصار الدم على السيف.

 

 

جواد نصرالله: هو حسمها، والذي يعرف سماحة السيّد يعرف أنه لا يتكلم بأي كلمة للمعنويات فقط، هو يقصد.

 

 

زاهي وهبي: ولكن هل فعلاً قال للسيّدة الوالدة أن هذا آخر لقاء؟

 

 

جواد نصرالله: يوم الاثنين حين أرادا الافتراق، هو سيذهب الى غرفة العمليات وهي تتجه الى البيت حيث نتواجد، لأنه كان قد بدأ "الدبك" كما يُقال، فكانا يتوادعان، قال لها هنا سنفترق، قالت له أراك إن شاء الله؟ قال لها لا هذه المرة الأخيرة التي نلتقي بها. حتى هناك أحد أخبرني أنه كان يتكلم مع الحاج نبيل وهو الشهيد ابراهيم جزيني، مسؤول أمن سماحة السيّد، سأله ما الوضع عندكن ألا تريدون أن تخرجوا وكذا؟ الظاهر أنه كان لديهم معطيات في تسلّط اسرائيلي على المنطقة جواً بالمعلومات، قال له أنا تكلمت مع سماحة السيد وقال لي كلّها أربعة أيام وننتهي، هذا الحديث الاثنين أو الثلاثاء، يعني هذه الأيام الأربعة وننتهي بالخلاص الكلّي أو لا هناك أمر ميداني؟ لكن الذي يقول هذه الكلمات نهار الاثنين وهو ذاهب الى غرفة العمليات يعني يعرف نفسه أنه ذاهب الى الشهادة.

 

 

زاهي وهبي: آخر مرة التقيت فيها بوالدك متى كانت؟

 

 

جواد نصرالله: في شهر ستة من السنة الماضية، وزرت نفس المكان في شهر ستة صدفةً، بعد سنة تبيّن أنه نفس المكان الذي زرته.

 

 

زاهي وهبي: ماذا تذكر من تلك الجلسة؟

 

 

جواد نصرالله: كان جدّي وأعمامي في هذه الجلسة وقال لي تعال، ربّما هذه من السنوات التي قابلته بها ست مرات، أنا أعدّ المرات، فكانوا يتحدثون بموضوع خاص بهم كعائلة بعد وفاة جدّتي الحاجة أم حسن، ثمّ بدؤوا يتسايرون عن الأعمار والأخوال والأعمام، وجدّي عاش كذا وجدّك، والى آخره، يعني كان حديث خاص بالعائلة والذكريات، واستحضر كل أرحامه حتى الذين توفّوا والذين كانوا معه في شرشبوك والى آخره.

 

 

زاهي وهبي: كان يذكر شوشبوك الحي الذي عاش ونشأ فيه، أنا حدّثني عنه مطوّلاً في اللقاء الذي أجريته معه عن نشأته في شرشبوك، كأن الحي بقي مرافقاً له في كل حياته، حي الشرشبوك في منطقة الكرنتينة للذي لا يعرف أين هو.

 

 

جواد نصرالله: في إحدى المرات كان يسجّل وأنا مقابله، كنت أستمع، يعني أنا أحياناً أستمع لقصص عن والدي لم أكن أعرفها، من أصدقاء، أقارب، فهو الذي كان يتكلم عن شرشبوك، لاحظ كم كان الفقر والقلّة، كان يقول حين كنّا نريد أن نلعب فوتبول ما كان المال لنشتري كنزات عليها أرقام، فكنّا نُحضر علبة دهان وكنا نلبس "بروتيل" أبيض ونكتب الأرقام بالدهان، ثمّ نقول أعاننا الله على الضرب في البيت لأنه قد خرّب قميصه، كل الأولاد هكذا، كان عمرهم خمس الى ست سنوات، ويلعبون حفاة.

 

 

زاهي وهبي: كانت تلك الطفولة قد شكّلت مدماك أساسٍ في تكوين شخصيته الإنسانية وانحيازه للفقراء، انحيازه للبسطاء، انحيازه للناس المهمّشين والمظلومين.

 

 

جواد نصرالله: طبعاً، أولاً الفقر والظلم وقسوة الحياة التي عاشها مع الذين خالطهم، يعني خالط جيرانه، أهله، ناسه، منهم كان من قرانا بقربنا، حسب ما كنت أسمع، في شرشبوك، ومخالطته، يعني كان يجلس تحت منبر السيد محمد حسين فضل الله وسماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمهما الله، وكان مسلوب ومنقاد ومنشدّ في بداية لصورة الإمام السيد موسى الصدر أعاده الله بخير، فإذا أردت أن تعرف من أين الفرد قد بنى شخصيته عليك أن ترى من أين استقى الحب والتعلّق والتأثّر، هذا ما يكوّن له توجّهه، التوجّه بتقديري الله رسمه له لكن طبعاً حيثما وُلد يجعل شخص ما ينظّر، وشخص آخَر يتكلم عن أمر عاشه وحسّه.

 

 

زاهي وهبي: هل صحيح أنه كان يتذكر بشكل خاص من شرشبوك الشتاء وصوت المطر حين تهطل حبات المطر على ألواح الزينكو، الحي كان بمعظمهم سقفه صفائح زينكو.

 

 

جواد نصرالله: صح، كان جدّي وأبي يقولان أن الأرستقراطي في شرشبوك كانت جدران بيته حجر وسقفه زينكو، كان الأغلب جدرانهم خشب وحجر، فنحن حين كنّا نسكن قبل 2006 كان موقف السيارات الخاص بالشباب زينكو، حين يهطل المطر يفتح باب الشرفة وينصت، كان يقول لي أنا أحب هذا الصوت، كنت أسأله ما الذي تحبه به؟ كان يقول حين كنّا صغاراً وننام في شرشبوك وتمطر السماء كان هذا الصوت الذي نسمعه. فحين أكون في مكان ما وتمطر الدنيا، بجانبي هناك هنغار حيث أتواجد، حين يظهر صوت الشتاء أتذكره أن هذا الصوت الذي يحبه والدي.

 

 

زاهي وهبي: لاحظ بساطة هذا الأمر

 

 

جواد نصرالله: نعم، الذكرى لا تتطلّب أمر عميق وفلسفة لتدغدغك.

 

 

زاهي وهبة أنا يذكّرني صوت المزراب في القرية مثلاً بشيء شبيه. كنّا نلاحظ أنه كان قارئ جيد خصوصاً لما يدور بوسائل الإعلام الاسرائيلية على وجه التحديد من خلال الملخّصات التي تُقدَّم له ربّما، من خلال متابعته، حتى وسائل التواصل، نلاحظ أنه يردّ أحياناً على تغريدات. أنا سؤالي داخل البيت ماذا كان يقرأ؟ في اللحظات التي كانت تتسنى لكم أن تكونوا فيها معه هل كان قارئاً جيداً وماذا كان يقرأ؟

 

 

جواد نصرالله: هو ليس قارئاً جيداً، هو قارئٌ ممتاز ونهم، يعني أنا أتذكر قصة في 1989 - 1990 كنّا في فندق استقلال بعد وفاة الإمام الخميني قدّس الله روحه، كنا نشاغب أنا وهادي، فاتّصل بالحاج عماد قال له تعال خذهما ألهِهما عني بعض الشيء لأُنهي هذا الكتاب، في هذه الساعة التي أخذنا بها الحاج عماد، نسيت ماذا فعل بنا، شغّلنا في الغرفة نظام مرصوص، أو شيء آخَر، يعني اخترع لنا شيء يلهينا ويُتعبنا حتى ننام باكراً، قرأ والدي مئة صفحة بهذا الوقت. 

والميّزة به، وكثيرون يعرفونها، أن السيّد يقرأ ويحفظ، يعني يقرأ ويغلق الكتاب نسأله يردّ عليك. هناك أمر جميل أيضاً، لا محرَّم في القراءات، لا محرّم في الأسئلة ولا سقوف، بالعكس، هو يعتقد أن المعرفة والمشاورة والسؤال وعدم وضع حدود بالحوار هذا يفتح أفق، هذا يزيد المعرفة ويرسّخها، بدليل مثلاً هو عارف ممتاز بالوضع الاسرائيلي بحذافيره الذي كان له علاقة الحرب الإعلامية والحرب النفسية التي كان يقودها وهم الاسرائيليون يعترفون له بها، غير الأصحاب.

 

 

زاهي وهبي: واضح كان حجم إلمامه السياسي والفقهي خصوصاً في محاضراته العاشورائية والرمضانية وغيرها في المناسبات الدينية، والسياسة طبعاً لا يحتاجة لشهادة، ولكن هناك جانب له علاقة بقراءات أدبية أو بكتابة شعر حسبما أعرف أنه كان يكتب، ربّما ليسوا كثيرين مَن يعلمون ذلك لكن المقرّبين يعرفون.

 

 

جواد نصرالله: منذ زمن كان يكتب، ولديه قصيدة أو قصيدتين غزل لا علم لي أين هي، حتى أكون صادق معك أمور كثيرة نحن لا نفتح موضوعها حتى لا نفتح جرحنا، لا زلنا لم نُشفَ.

 

 

زاهي وهبي: ولكن هذا إرث.

 

 

جواد نصرالله: أنا معك، لكن الإرث شيء والعاطفة شيء آخَر، العاطفة تشعر وكأنّه يحمل وزن كلّما كان يحمله يثقل أكثر، لو كان كوب ماء، هذا بالعاطفة والشوق، هذا يحتاج بعض الوقت، عليك أن تعطيه حقه وتسير بخطوات رويداً رويداً. هناك شيء للصراحة ليس عندنا بل موزَّع عند ناس، عند آخرين أحباب وأصحاب. مثلاً أنا كنت أكتب شعر كان هو يصحح لي، يعني السبك والوزن وكلمات كثيرة هو يغيّرها لي، كان يقول لي بني هكذا أجمل، لم يكن يقول غيّر هذه، لا، كان يقول بني هكذا أجملا، هكذا أمتن، يعني حتى أسلوبه تعطيه طعامك وروحك وأنت سعيد وتضحك.

 

 

زاهي وهبي: هل كان يشجّعك على كتابة الشعر وقراءة الشعر؟ على الجانب الأدبي وليس الجانب السياسي والديني؟

 

 

جواد نصرالله: بالعكس، هناك أمر جميل، ديمقراطي جداً، يعني تسأله ما تريد، تحكي معه على ما تريد، تعترض على ما تريد، يوضّح لك، ليس زجرياً، بالعكس يبيّن الأمور، هذه لا لسبب كذا، هذه نعم لسبب كذا، بالشعر هو كان يساعدني، بالقراءات ينصحك، بعض الأحيان أنا كنت أطلب منه اختيار كتب لأقرأها، لأنه للصراحة أحياناً العنوان يعجبك لكن من هو الكاتب! أحياناً السم يكون هنا، أن هذا الكاتب يدس لك السمّ في العسل وحين يخرقك شخاص ما فكرك ويضع سمّه في الداخل يتسبب لك بمشكلة ولا يمكن أن تتخلص منه بسهولة، خاصة بالموضوع العقائدي، بالموضوع الفكري، هذه أمور مخيفة. هو كان يختار لنا. 

 

 

زاهي وهبي: هل من كتب معينة تذكرها؟

 

 

جواد نصرالله: أول كتاب دائماً يقول لك اقرأه وتمعّن به هو القرآن الكريم، وهو يُفهّمك قراءة القرآن باليقين شيء وبلقلقة الألسن التي أغلبنا يقرأها وإن كان بتجويد وصوت جميل لكن هناك يقين ينطبق على عمله وسلوك حياته ومسار حياته. 

الكتب الأخرى مثلاً نحن منشدّين كثيراً الى الحركة المهدوية، يعني ظهور صاحب الأمر سلام الله عليه، وكنّا دائماً حين نجلس معه نضع السياسة جانباً، نحكي ونسأله عن حركة الظهور والى آخره، مثلاً هناك كتاب جميل جداً وهو دائماً ينصح بقراءاته من وقت الى آخر هو الأربعون حديثاً للإمام الخميني. 

لكن قلت لك السيد مثلاً عمّتي رحمها الله كانت تدرس في الجامعة العربية أخذ كتبها كلها وقرأها، كانت تدرس شيء له علاقة بالمالية والإدارة. أدبي يقرأ، سياسة يقرأ، مذكرات رؤساء ومسؤولي أجهزة أمنية صهيونية وأميركية كان يقرؤها، كان يتابع ماذا كان يفكر هؤلاء، لا حرمة على المواضيع، أنا لا أدّعي لكن بالحد الأدنى السيد كان يقرأ كتاب كل يومين، رغم كل المشاغل، كل يوم يجب أن يقرأ، هذا غير قراءة التقارير والاتّصالات والأخبار. أنا أدّعي أن السيد بالأسبوع كان يقرأ ثلاثة الى أربعة كتب. هناك أمر مكتوب في كتاب أخي مهدي، يقول كنّا "نتحركش" به لنسمع صوته ونتكلم معه.

 

 

زاهي وهبي: الكتاب الذي تتكلم عنه هو صدر حديثاً للسيد محمد مهدي نصرالله، ذكرياتي مع أبي، يروي فيه كثير من الانطباعات والذكريات مع سماحة السيد حسن نصرالله.

سأتابع مع حضرتك سيد جواد ولكن اسمح لنا أن نتوقف للحظات سريعة ثم نتابع هذه الحلقة الخاصة من مسك الكلام في ذكرى استشهاد سماحة السيد حسن نصرالله.

 

 

فاصل

 

 

زاهي وهبي: سيد جواد رأينا مجموعة من الصور التي تحكم كثير من الذكريات وكثير من المحطات في حياتكم مع سماحة السيد حسن نصرالله، سؤالي هو كوالد، كأب، قلت لي أنه كان مستمع أكثر ما هو متكلم، أسلوب التربية كيف كان يعتمد بالتعامل معكم، هل كان والد صارم، كان والد متفهّم محاوِر، واعظ، مرشد، أي نوع؟

 

 

جواد نصرالله: كلهم سوياً، يعني مثلاً الموقف الذي يحتاج الى الحزم هو حازم، لا يمد يده، والدي معروف يكفي أن ينظر إليك تتسمّر في الأرض، مثلاً حين يقول جواد خلاص، لا يمكن أن يعيدها. لكن الغالب عليه هو اللطافة والنصح، التبيين، مثلاً لا يقول لك لا اعتباطياً، كنّا نسأله أحياناً لماذا لا؟ حسناً لن نفعل الأمر الفلاني ولكن اشرح لنا لماذا لنفهم، هذه تعلّم حتى لو كان المرء بعيد يصير يفهمك غيابياً، يفهّمك السبب، لماذا هذه حرام و لماذا عيب، لماذا هذا ممنوع وكذا، هذا ما يعلّمك أكثر. 

 

 

زاهي وهبي: يتقبّل النقاش، الأسئلة، لا محرّمات؟

 

 

جواد نصرالله: لا محرّمات أبداً، أي سؤال، حتى كنّا نسأل عن أمور يجِبنا، نسأله لماذا عند الآخرين لا يمكن أن نسأل هذا السؤال، يردّ قائلاً أنهم يخطئون. هناك فرق، هناك مَن يسأل للاستدلال وكسب المعرفة والاستيضاح، وهناك مَن يسأل معاندةً.

 

 

زاهي وهبي: علاقته بكم، بين الأصغر والأكبر، بين الفتاة والشباب.

 

 

جواد نصرالله: بين البنت والشباب، زينب لها خصوصية لوحدها، هو كان يمازحنا ويقول أنا دلّلتكم جميعاً كل واحد بقدر عمره، واقعاً كان يتعاطى معنا كل واحد بحسب عمره، يعني دعنا نقول هادي رحمه الله بالحال التي كنّا بها، مثلاً أنا كان يتعاطى معي بأسلوب، يتعاطى مع علي بأسلوب آخَر، ومع مهدي بأسلوب مختلف، وعلى فكرة لا تشعر بأيٍّ من الغيرة من أخيك وأنت تجالسه، لأنه يشبّعك حنان واهتمام. أحياناً كان الشباب يمزحون قائلين الأستاذ أحياناً يقول لك اذهب واحضِر طبشورة من النظارة تشعر وكأنك قائد فرقة، فهو حين يقول لك اذهب واحضِر كوب ماء وأنت صغير كأنه وكّلني بمهمة ضخمة فهذا أمر يعطيك حال معنوي وعاطفي، خاصةً أنه لا يطلب، هذا هو السبب. كنّا نتمنى على المائدة يطلب أي شيء.

وعلى ذكر المائدة رجل مثله، حين يأتي أحد الى بيتك من الأدب والأخلاق أن تُجلسه على رأس الطاولة، كان يُجلِسني على أوّل الطاولة وهو جانباً، الرجل الوحيد الذي كان يُجلسه على رأس الطاولة غيري حين نكون عندنا في البيت هو جدّي السيد أو حسن، وأبقى واقفاً بجانبه كالعسكري حتى أكون بخدمته. سبحان الله هذا الإنسان اخدم له مَن يحبّ كأنك تخدمه هو، لأنك تشعر أن هذا الأمر يُدخل السرور الى قلبه.

 

 

زاهي وهبي: أتذكر في حواري مع سماحة السيد حين سألته عن لحظة تيقّنه من استشهاد هادي، حينها كنت أعرف أنه اختلى بنفسه للحظات أو لدقائق، هل كان يعبّر عن مشاعره أمامكم، لحظات الانفعال، لحظات الغضب، لحظات الفرح بنصرٍ ما بموقف ما، بإنجاز ما؟

 

 

جواد نصرالله: بالعكس، أنا أتذكر أن في بعض اللحظات كنت أجلس بجانبه في تحرير الألفين، سألته جيّد هذا ما يحدث؟ قال إن أكملت الأمور هكذا فهذا أمر جيد جداً وكان مسرور جداً. وقت هادي أنا رأيته حين جئت ودخلت الى مكتبته، في اللحظة التي تتفضّل بها جنابك، بعدها لا أتذكر أنني رأيته يبكي على هادي، لكن إن كان يتابع نشيد أو خاطرة أو حلقة عن عوائل الشهداء كان يبكي، دمعته سخية على عوائل الشهداء وعلى الشهداء وخاصة الحاج عماد الى آخر عمره، كان والدي رقيق الإحساس جداً وفي الوقت نفسه متماسك ويشدّ من حوله.

 

 

زاهي وهبي: نحن في البرنامج لا نتكلم سياسة ولا أريد منك أن تتكلم بالسياسة رغم أن الموضوع يحتمل حلقات سياسية، لكن تعرف نحن عشنا فترة عصيبة وهي فترة تأجيج الفتن المذهبية والطائفية في وطننا العربي والإسلامي عموماً ولا يزال البعض ينفخ للأسف في نار الفتن، هذه المصطلحات الطائفية والمذهبية هل كان لها مكان في داخل البيت في جلساتكم وحواراتكم؟

 

 

جواد نصرالله: أقول لك أمراً بصدق، نحن في البيت ولا مرة تحدّث معنا، حين خرجنا الى المدارس والحياة سمعنا سني وشيعي، وحين خرجنا سمعنا بالأمور التي يسمعها الآن الناس وقد أصبحت خبز يومي في وسائل الإعلام، أنا مثلاً كنت أسأله شيء في الفقه أو بالروايات والتاريخ والى آخره عن هذه الأمور كانت المقاربة علمية، وكان يتأذى من رمي بعض المواضيع في الشارع لأنه يتحاور بها أولاد الشوارع، للأسف، هذه المواضيع كان يقول إذا أُريد التحاور بها فعلى أهل العلم أن يتحاوروا بها ومن العيب أن تكون في هذا المكان. أبداً لم يكن هناك هذا الجو، بالعكس، وعلى فكرة واحدة من الأمور والتي قالها على المنبر، أن صراعك سياسي، عقائدي، بين الحق والباطل، هناك مَن يأخذك على صراع الزواريب والصراع الطائفي.

 

 

زاهي وهبي: ما كان حلمه الأكبر؟

 

 

جواد نصرالله: تحرير القدس.

 

 

زاهي وهبي: لماذا القدس كانت بهذا القدر محورية في خطاباته وكلامه وحياته؟ يعني شهادته كانت على طريق القدس.

 

 

جواد نصرالله: كان الشهيد السيد عباس الموسوي قدّس الله روحه يقول أنا لا يمكنني أن أقدّم روحي ونفسي ومالي لأجل قضية بمستواي، يضرب المثال بالإمام الحسين سلام الله عليه الذي قدّم كل ما لديه لأجل الإسلام. الأمر نفسه إن كانت قبلة المسلمين الأولى والتي هي القدس، التي هي عمقها عروبي إسلامي مسيحي، وبموازين الحق والباطل هي أوضح قضية، إذا لم يناصر هذه القضية ويبذل كل ما لديه، عمره ونفسه ودمه وماله وولده لأجل هذا فما الذي يستحق؟ أقول لك هو لبناني أكثر من أي أحد لبناني لأنه قدّم ابنه لهذا البلد، "غاية الجود بالنفس" إذاً هذا الولد قدّمه، ولأجل فلسطين "رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه" هذا الصدق، هذا غاية الصدق، لأجل مَن؟ تقولون لا يقاتل لأجل غيره، قاتل لأجل أهل غزة وأهل غزة مَن هم؟ لأجل هذه القضية التي اسمها فلسطين، لأجل راية الحق هذه، وهو قُتل لأنه قال لا، واحد اسمه حسن عبدالكريم نصرالله يقف في هذا الزمن يكسر مشاريعه، أقل شيء أن يدفعوا ثمن كل هذه الحرب التي جرت ليقتلوه. 

 

 

زاهي وهبي: ذكّرتني بقصيدة لأمل دنقل فيها المجد لمَن قال لا. في السنة الأخيرة التقيته ستّ مرات فقط، كنت تتمنى لو التقيته أكثر، لو جلست معه أكثر، لو تحدثت معه أكثر؟ 

 

 

جواد نصرالله: آخر سنة كنت أقول دائماً لوالدتي يبدو لا حظّ لدينا بوالدنا في الدنيا، إن شاء الله يكون لنا حظ به في الآخرة. نحن وصلنا الى محل نتمنى أن يكون هو بخير وسالم لو دون رؤيته، لكن هل كنت أتمنى أن أبقى معه؟ أكيد، أنا كنت أمازح والدتي وأقول لها لو أعرف أن زواجي وإنجابي للأولاد سيحرمني منه ما كنت عشت هذه الحياة، يعني أبقى عنده.

 

 

زاهي وهبي: أتذكر سألت سماحة السيد في حوارنا حيث كان لأول مرة يتكلم بها قضايا شخصية في حوار تلفزيوني، سألته عن زواجه، وأجاب بدماثته ورحابة صدره عن الموضوع، سؤالي علاقته بالسيدة الوالدة كيف تصفها، كيف كنت ترى علاقتهم سويا؟

 

 

جواد نصرالله: إن تعلّمنا كيف نتعاطى مع زوجاتنا فمنه ومن والدتي، هو قمّة الأخلاق وقمّة اللطافة، قمّة الأدب، ولا مرة سمعنا صوت أصلاً، بالمقابل والدتي حملت حمل ليس صغيراً، أنا مثلاً كنت أسأل والدتي والدي كان يأتي الى البيت حين كان عمري 11 سنة وما قبل؟ كانت تجيب لا، كنت أقول لها أنا أشكّ بذاكرتي الممسوحة، تقول لي أصلاً لم يكن يأتي. أنا أذكر في 86 حين سكنّا في بير العبد كنت أذهب أنظر إليه وهو نائب وأذهب الى المدرسة، أعود لا يكون موجود، يعود بعد نومي.

ما أردت قوله أن والدتي حملت سنوات مع والدي وهو لم يتعرف على شيء في البيت، لا تعرّفه على أمر في البيت، بالعكس هي كانت له سند وملجأ راحة ليكون متوجّه على الأقل ذهنياً وفكرياً بأداء مهمّته، هذا أمر مهم جداً، وكلّنا متزوجين ونعرف ماذا يعني هذا الأمر، أن يتواجد في البيت أحداً مريحاً تشتاق للقائه.

 

 

زاهي وهبي: أطال الله بعمرها وأدامها فوق رؤوسكم سيد جواد. هل راودتك أفكار أحياناً ككل الأبناء وأولاد الشخصيات التي عليها حمل تاريخي، أنه يا ليت لو والدنا لنا لوحدنا؟

 

 

جواد نصرالله: ظهرت في فترة طويلة على التلفزيون، هو شجّعني وقال اتّكل على الله وأكمِل، هناك أحد ما قال لي لماذا تظهر على الشاشة بهذا القدر، هل يهيّئك الى أمر ما؟ قلت له والله لو تأخذون الأمانة العامة وتتركوه لنا لنعيش معه بضع سنوات نكون ممنونين. أمّا بالواقع، بالمنطق خارج أي انفعال أو ضغط خارجي بالعكس، نحن نفخر به، نحن ننظر الى الآخرة، قبل شهادته نحن كنّا نعتبر أن هناك شبه ضمانة قلبية ضمنية أن هذا الإنسان بموقع محبّة وعناية عند الله سبحانه وتعالى ومحمد وآل محمد صلوات الله عليهم، وفي النهاية ينوبنا شيء ما، الشفاعة، هكذا نفكر نحن.

 

 

زاهي وهبي: ماذا تقول لمَن يقول ليته لم يخض معركة إسناد غزة؟ لأن معركة الإسناد لولاها ربّما لكان السيد لا يزال حياً.

 

 

جواد نصرالله: لا شيء اسمه لولاها، ويا ليت لا تنفع. الذي كان معه في الألفين وقبلها، والذي كان معه في 2006 يكون معه في كل الميادين التي ذهب إليها ويكون معه في هذا الخيار، لا صيف وشتاء في الحب، أحبك في البرد ولا أحبك بالصيف، مَن معه هو معه حتى النهاية، في السراء والضراء، يعني ليس كما قال جون للإمام الحسين سلام الله عليه "في السراء نلحس قصاعكم وفي الشدائد نترككم"، يعني أنت سالم وغانم وسلطان وبيدك مقدّرات ولا ضرب نار أنا معك، حين يحمى الوطيس وتصبح بحاجة للناصر والمعين أخذلك وأتركك! وأنا كل خيري بسببك! أغلب ناسنا أثبتوا أنهم أهل محبة وأهل أن تُقتَل دونهم.

 

 

زاهي وهبي: وشهادته حجّة على كل الذين تخاذلوا عن نصرة فلسطين.

 

 

جواد نصرالله: دائماً كان يعلّمنا أن لا تهتزوا وتتزلزوا من المواقف الصعبة والحوادث الكبيرة، كان يقول هذه أوقات بركاتها خفيّة أو تظهر فيما بعد، مثل ما نحن فيه الآن، هل نحن حزينون مما جرى؟ تتكشّف وجوه، تسقط أقنعة، انتهى النفاق، لذلك هو كان يقول النصر يُعطى للمخلصين والخلَّص، نحن متفاءلون بهذا الأمر الآن.

 

 

زاهي وهبي: على سيرة الناس وتفاعل الناس وعلاقته مع الناس، قلتَ لي مرة أنك كنت تعمل بريد بينه وبين الناس، بأي معنى؟

 

 

جواد نصرالله: في بعض الانزلاقات على وسائل التواصل أنا كنت أرسلها له، لكن في موضوع البريد مثلاً أنا موجود على وسائل التواصل، أنا موجود بين الناس، حتى كان عندي شبكة من الأصدقاء والشباب معي، أي رسائل له أجمعها أنا، فأنا كنت أجمع وكنت خارج الفلتر، لكن طبعاً في النهاية كان عملي أن أخفف عنه، أنا أفرح بخدمة الناس لأنني أعرف محبتهم وكرامتهم وشأنهم عنده، لكن في مكان ما لا أريد تحميله عبء فمن الذين يحملون بعض الأعباء هو السيد هاشم قدّس الله روحه، ففي بعض المواضيع كنت آخذ هذه الرسائل إليه، لكن في بعض المواضيع الحساسة كنت أرسلها له حصراً.

 

 

زاهي وهبي: بدأ الوقت يداهمنا، يا ليت تكون أجوبة سريعة، كيف كان ينظر الى الطبقة السياسية في لبنان؟

 

 

جواد نصرالله: هناك أمر جميل، كان يقول الذي يعرفهم بشكل دقيق هو الأستاذ نبيه، كان يقول هو مخضرم في التعامل معهم ويعرف مفاتيحهم، يعني يعرف كل فرد من أين يأتيه ويحكي معه.

 

 

زاهي وهبي: وُحد كثير من الشخصيات العالمية والعربية واللبنانية من قادة، من زعماء، هل من شخصيات تركت أثر؟

 

 

جواد نصرالله: لم نكن نسأل كثيراً عن العمل لكن هناك شخصيتين ملفتتين، كوفي أنان كان أمين عام الأمم المتّحدة، وكان الحديث حول الصالون وكذا، كان يعتقد أنه قادم ليسكن في كهف فوجد الصالون صغير، وقتذاك السيّد قال له الأشخاص تصنع الغرف والأماكن وليس العكس، أتذكر هذا الحديث الذي جرى. والأستاذ الكبير والمحترم محمد حسنين هيكل، كان يقول له كنت أنظر الى الجميع من فوق إلا أنت كنت أنظر إليك من تحت، يعني نظرة الاحترام والوقار والتقدير.

 

 

زاهي وهبي: من الشخصيات اللبنانية؟

 

 

جواد نصرالله: كان يحب ويحترم بشكل لافت الأستاذ سليم الحص رحمه الله، واقعاً، هناك أمر ما حدث في مجلس النواب في فترة التحرير فكان يمازحه قائلاً تقول القيادة إذا الدكتور سليم بهذا العمل وفعل هذا الأمر، لو كان شاباً كان قلب الميمنة على الميسرة، كان يتكلم معه على الخليوي في صالون كنّا في مكان ما.

 

 

زاهي وهبي: خارج الشخصيات التي تأثر فيها السيد، الإمام موسى الصدر، السيد عباس الموسوي، الإمام الخميني، هناك شخصيات تاريخية أو شخصيات قيادية عبر التاريخ كان يذكرها أمامكم أو يحرص على قراءة سيرتها؟

 

 

جواد نصرالله: هو يقرأ، يعني كان يقرأ للجميع لكن التأثّر أقول لك الرسول الأكرم وأمير المؤمنين سلام الله عليهما، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كان شديد التأثر به، لدرجة كنت أمزح مع أحياناً أمير المؤمنين يقول لنا كذا لكن لم يقل كونوا مثلي.

 

 

زاهي وهبي: كان يظهر في خطاباته أن لديه روح النكتة، كان واضحاً هذا الأمر، وأحياناً يقول عبارة معينة ويضحك، هل كان هذا الأمر حاضراً في البيت؟

 

 

جواد نصرالله: حتى المزح لا يُفقد الرزانة والاتّزان. أحياناً أنا أفعل أمراً أو يُخبره الشباب أن جواد حدث معه كذا، أو يقول لي افعل كذا ف"ينكّت" عليك أنه نجحت وقتلت الدجاجة أو كذا. هو روحه مرحة، يعني سبحان الله يُسقط الكلمات مكانها، إن بجدّها أو بمزاحها.

 

 

زاهي وهبي: أتذكر حين سألته عن زواجه الأول قال لي أنت تمس بالمشايخ.

 

 

جواد نصر الله: عند المشايخ والحوزات هذا المحظورات، موضوع البيت له حرمته.

 

 

زاهي وهبي: بينكم كأخوة سيد جواد مَن الأكثر شبهاً بسماحة السيد؟ 

 

 

جواد نصرالله: كلنا نتنافس مَن يشبهه أكثر، في حياته وبعد شهادته، السيد إذا وضعت تايم لاين صوره منذ أن حمل الجرس حين كان عمره أشهر أو سنة، لغاية الشيب والشهادة، بكل فترة من الفترات واحد منّا يشبهه، في فترة معينة هادي يشبهه، فترة أخرى مهدي، في فترة علي، في فترة زينب، وفي فترة أنا، لكن واحد يأخذه كله كما هو لا يوجد.

 

 

زاهي وهبي: أحب صفاته إليك؟

 

 

جواد نصرالله: أنه والدي.

 

 

زاهي وهبي: و..؟

 

 

جواد نصرالله: أنه والدي.

 

 

زاهي وهبي: ما الذي كان يميّزه كأب غير الذي تكلمنا عنه؟

 

 

جواد نصرالله: يعلّمك الكرم، يعلّمك العفو، انتبه، شخص تحت يده مقدّرات، يعلّمك كيف تتسامح وكيف تتعاطى ويؤدّبك، على قاعدة البيّنة.

 

 

زاهي وهبي: كان يتقبّل النقد إن كان رأي سديد؟

 

 

جواد نصرالله: أنا كنت دائماً أقول لك على المنبر لا تبكي، لم يكن يرد عليّ، كنت أقول له نحن نحب أن نراك تضحك لا أحد يتحمل دمعتك، لا أنا ولا غيري.

 

 

زاهي وهبي: والآراء التي كانت تصل الى حد التجريح عبر وسائل التواصل وعبر الحملات المغرضة سواء كان الموساد خلفها أو أجهزة أخرى؟

 

 

جواد نصرالله: كان هناك مَن هو ألعن من الموساد.

 

 

زاهي وهبي: كيف كان يتعامل معها؟

 

 

جواد نصرالله: لا شيء، يضعهم في التلّافة، لا يغيّروه، انتبه هو حافظ للعهد القديم والجديد ويعرف ماذا حدث في موسى عليه السلام وسيدنا عيسى عليه السلام والرسول الأكرم وبأهل البيت والى آخره، واحد يقول لك طريقي زنا هو طريق ذات الشوكة، طريق التضليل الإعلامي، طريق السفاهة والتسافل الإعلامي والتضليل للنيل من كرامة الناس هذا لا يهزّه ولا يغيّره، لذلك يقول لك لا تأخذه في الله لومة لائم، وهذه واحدة منها. 

 

 

زاهي وهبي: برأيك ما أبرز ما ورثتَه عنه؟ طبعاً لا نتكلم أشياء مادية.

 

 

جواد نصرالله: محبة الناس والصيت الطيب الذي ورثناه وإن شاء الله نورّثه لأحفادنا وهذه الذرية تحمله دائماً معها، هذا الاسم العزيز الذي تحبه الناس كلها، واقعاً أغلى ما يمكن أن يُزرَع وترى ثماره هو المحبة في قلوب الناس.

 

 

زاهي وهبي: على سيرة الأحفاد تعرف حضرتك سيد جواد يُقال ما أعز من الولد إلا ولد الولد، كيف كانت علاقة السيد رحمه الله مع أبناءك والأحفاد الآخرين؟

 

 

جواد نصرالله: حين يكونون صغار وغير معتادين عليه لا يرونه كثيراً، رويداً رويداً حتى يجلسوا في حضنه، ويلعبوا معه، ليعتادوا عليه، أمّا الباقون عشق ومحبة كبيرين، أتذكر في سنة من السنوات مرّ وقت طويل ما كانوا يلتقون به، ابني أحضر كاميرا وصوّر الكل وهو يقول جدّو أنا فلان ابن فلان، ويرسلها رسالة له، وقتذاك لم يكونوا كثيرين. 

فكانوا يرسلون له هكذا، أو يرسلون له خطياً أو صور، أو يتّصلون به على الهاتف، يعني نجرّب أن تكون الحياة طبيعية بالقدر المستطاع. وحين يكون موجوداً حين بات هناك أحفاد ما عاد لنا مكان بجانبه، يعني نحن نجلس بعيداً وهم يتداورون بالجلوس بجانبه. 

 

 

زاهي وهبي: فعلاً الولد أعز من الولد، المثل لم يقل شيء غلط. لو قُدّر لك في نهاية اللقاء والحديث عن سماحة السيد لا ينتهي، أخذنا الجانب الشخصي والعائلي في حوار الليلة، لو قُدّر لك أن تقول له كلمة أخيرة، ماذا كان يمكن أن تقول؟

 

 

جواد نصرالله: ادعو لنا، وأن يبقى معين لنا، يعني أطلّ علينا دائماً، قوِّنا دائماً، وإن شاء الله نحن كما تركتنا.

 

 

زاهي وهبي: هل من سؤال تحب أن نسأله أو توقّعت أن نسأله وما سألناه؟

 

 

جواد نصرالله: لا.

 

 

زاهي وهبي: رحم الله السيد وأطال الله بعمرك، ونحمّلك تحيات للأسرة كلها وللسيدة الوالدة أطال الله بعمرها. 

شكراً سيد جواد نصرالله، شكراً لفريق العمل، والشكر الدائم لمشاهدينا في كل أنحاء العالم، نلتقيكم الأسبوع المقبل على خير بإذن الله.