الريف والمدينة في المشرق

الريف والمدينة في المشرق... خصائصهما وتعايشهما بين الانفصال والاتصال... الاجتماع الريفي والمديني وتعدّديته والتحديات التي تواجه التنمية والفرصة لإحياء الريف وترشيق المدينة.

نص الحلقة

<p>&nbsp;</p> <p>&nbsp;</p> <p>المحور الأول:</p> <p>غسان الشامي: أحيّيكم، صحيحٌ أن المشرق هو أوّل مَن عرف المدن الصغيرة المُصوَّرة، وأريحا مثالٌ على ذلك منذ عشرة آلاف عام، كما أن الدولة المدينة كانت ظاهرةً بارزة فيه إلا أنه كان للريف دورٌ كبيرٌ في العصور المُتأخّرة، لا بل أن الترييف طال نواحٍ كثيرة من الحياة الاجتماعية. الريف والمدينة في المشرق والعلائق فيهما وبينهما وبنية الاجتماع والتحديات الماثلة أمام مجتمعاتنا ودولنا هي عناوين لحوارنا مع الدكتور أنطوان نوفل، وهو أستاذٌ محاضرٌ في الجامعة اللبنانية سابقاً نال شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا والتاريخ الديني من جامعة السوربون عام 1988، معه سنقرأ قضية الريف والمدينة في المشرق بعد تقريرٍ عن الريف في لبنان. &nbsp;</p> <p>تقرير:&nbsp;</p> <p>يعيش 11% من سكان لبنان في الأرياف بحسب إحصاءات عام 2018، فيما كانت هذه النسبة تبلغ 58% قبل ستين عاماً حيث بدأت الهجرة الداخلية من الريف إلى المدن، ولاسيّما بيروت في أواخر الربع الأول من القرن العشرين مع إنشاء دولة لبنان الكبير وبداية تراجُع المِهَن التقليدية ذات الطابع الزراعي لمصلحة المِهن ذات الطابع الصناعي والخَدَمي.</p> <p>وأدّى الغزو العقاري إلى تراجُع النشاطات الزراعية في الريف، وتحوّلت الأراضي إلى قيمةٍ عقارية وتقلّص الغطاء النباتي، وانتشرت المقالع والمرامل والكسّارات واستُبيح الشاطئ.</p> <p>انحسار الريف والزراعة أدّى إلى تراجع المساحات المزروعة وتقليص حجم الثروة وتدنّي قيمة الإنتاج النباتي، وتراجُع حجم القوى العاملة في قطاعي الزراعة والإنتاج الحيواني حيث لم يعد يتجاوز 4%.</p> <p>بدأ الريف يفقد ريفيّته رويداً رودياً حيث ساهمت الأزمات المتلاحقة والمتشابكة من تردّي وضع الكهرباء والتلوّث وعدم وجود الاعتمادات لتطوير الريف والزراعة في مُراكمة أزمات الأرياف، ورغم أن الحكومة شكّلت لجنة وزارية للإنماء الريفي لكن الهزّات السياسية توقِف كل عملٍ في لبنان.</p> <p>وقد شهدت الفترة الماضية عودة آلاف الأسر إلى الأرياف والقرى بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية التي أثّرت على حياة المجموعات الأكثر ضعفاً في لبنان، وعاد الكثيرون إلى استغلال الأرض جزئياً.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: تحيّةً لكم من أجراس المشرق، تحيّةً لك دكتور أنطوان نوفل، شكراً سيّدي على تلبية دعوة أجراس المشرق والميادين، أبدأ معك بسؤال ما هو المجتمع الريفي وما هي خصائصه؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: بكل بساطة المجتمع الريفي ظهر في التاريخ حول الزراعة وحول المساحات الخضراء وخاصةً الزراعة، بحيث انتقل الإنسان من حال اللاإستقرار السكني ومن حال الترحال المستمر بحثاً عن الصيد أو عن النباتات ليتغذّى، إلى أن استقرّ نتيجة اكتشاف الزراعة تقريباً بين الألف العاشر والألف الثامن قبل الميلاد، وأخذ يتطوّر ومن الريف ما أصبح مدناً ولكن هناك حالاً مختلفة، حال المدن، سوف تبرز شيئاً فشيئاً في التاريخ، أما الريف فسوف يُطوّر نفسه من خلال الزراعة. ومن خصائصه أنه مجتمع بسيط، متجانس، فيه العلاقات الإنسانية مترابطة، العلاقات العائلية مُكثّفة، التقاليد، العادات الريفية، التعاون، التقنيات الزراعية كانت بدائية في السابق ثم تطوّرت شيئاً فشيئاً. مرّ الريف بمرحلة الإقطاع السيّدي حيث كان الريفيون الذين يُستخدَمون في الزراعة لدى السيّد ملكاً له، عبيد، جزء من ممتلكاته مثلهم مثل الأرض، مثل النبات، الشجر، الحيوانات. هذا كان لفترة بداية القرون الوسطى وأخذ يتطوّر في ما بعد، وستظهر ثلاثة أنواع من الاستيطان الريفي: النوع الأول مرتبط بالسيّد حيث تحوّل الإقطاعي من سيّد يمتلك العبيد إلى سيّد يتشارك مع الفلاحين والمزارعين، وعنده أيضاً حال أخرى هم الأقنان ولكن القنّ ليس عبداً وليس ملكاً لسيّده، أما الشريك فهو يستغلّ الأرض ويتقاسم مع السيّد الحصّة التي يقرّرها له. من ناحيةٍ أخرى هناك استيطان من أنواعٍ أخرى لا تتناولها الدراسات كثيراً، الدراسات تركّز على الإقطاع إنما في التاريخ هناك حالات استيطان ليست إقطاعية، دائماً كان هناك تواجُد لإقطاع، لسيّد وحوله مُستخدَمين، وبالمقابل هناك قرى أخرى كان المواطن فيها يمتلك أرضه، الفلاح، فهذا كان في مرحلة تطوُّر البَداوة بحيث كان ينتقل من مكانٍ إلى آخر، وحيث وجد نفسه ووجد أرضاً حرّة واستطاع أن يضع يده عليها استوطن فيها، وهكذا تكوّنت قرىً صغيرة هي ملكٌ لأصحابها وليست تحت سلطة السيّد مباشرةً.</p> <p>غسان الشامي: هل هناك فرق ما بين الريف في بلاد الشرق والريف في الغرب من ناحية الخصائص؟ هل هذا التطوُّر مُتشابه؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: هناك تشابُه على مستوياتٍ عديدة، مثلاً الإقطاع، الاستيطان، الريف الذي قرّره وأقامه الحاكم أو أقامته السلطة العسكرية والسياسية حيث كانوا في أماكن معيّنة على الحدود، كانوا يوجّهون ويحدّدون مَن سيُقيم هناك، أحياناً هم عسكر ولكن يصبحون فلاحين بانتظار المعركة إذا حصلت أو يصبحون حمُاة للحدود، وهكذا نشأت مدن كثيرة مع دوكلسيانوس الذي ابتكر هذه العملية في الشرق والغرب. &nbsp;</p> <p>غسان الشامي: كيف نشأ المجتمع المدني وما هي خصائصه؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: المجتمع المدني بالأصل هو مجتمع ريفي، وهو قرىً كانت لها حظوظ وظروف متعدّدة سمحت بأن تتحوّل من قريةٍ صغيرة إلى قريةٍ تكبر وتكبر وتكبر أو مجموعة قرى تتجمّع وتتلاصق لتؤلّف مدينة، وعناصر هذا الاجتماع هي عناصر اقتصادية بدرجةٍ أولى، فهم يجتمعون بحُكم الموارد الاقتصادية: النهر، البحر، الثروات النباتية، المناجم في ما بعد، الثروات المعدنية، ثم أيضاً المواصلات، التجارة والحِرَف. حيثما سمحت البيئة الريفية، بيئة القرية بإنتاج مِهنٍ غير زراعية نشأت المدينة. &nbsp;</p> <p>غسان الشامي: هل يمكن أن نحدّد أيضاً خصائص المدينة؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: المدينة بالمفهوم التقليدي هي تجمُّع سكني كبير كثيف يتميّز بتنظيمٍ مدني معيّن، يتميّز بسهولة المواصلات، بالخدمات العامة، المدارس، المصارف التي هي شأن قديم جداً، المصحّات أو وسائل الاستشفاء، المسارح، وسائل الترفيه، الحِرَف وفي ما بعد الصناعة، وبالتالي سهولة العَمالة، تنويع أشكال وفُرَص العمل، وأيضاً فن العمارة، المدن هي مصدر أساسي في إنتاج الفن لأسباب عديدة، ولهذا السبب نجد دائماً أن تاريخ الفن في تاريخ المدينة.</p> <p>غسان الشامي: في القديم قبل الثورة الصناعية كيف تعايش الريف والمدينة؟ هل كان هناك انقطاع أم أن العلائق هي مصلحية، الريف يأتي بالزراعة أو أيّ شيء؟</p> <p>أنطوان نوفل:هناك حتميّة غذائية في التعامل والتعايش بين الريف والمدينة بدرجةٍ أولى، وهي حاجة للمدينة يلبّيها الريف، هناك الريف القريب والريف البعيد وطبعاً تختلف المصادر والمنتوجات. فإذاً العلاقة هي علاقة عضوية، مفهوم التقابُل أو المقارنة أو الفصل بين الريف والمدينة هو خطأ شائع، الريف والمدينة بينهما تتابعية وتكامُل وليس تناقضاً، هناك نوع من الجدلية في المفاهيم الاجتماعية بين الريف والمدينة، ولكن هناك تكامُل في المشهد الوطني، لا يمكن للريف أن يعيش من دون المدينة والمصادر الحِرّفية فيها وإنْ كانت حاجاته أقلّ، ولا يمكن للمدينة أن تعيش من دون الإنتاج الغذائي الذي يورّده الريف.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي:هذا التشابك أو عدم الانقطاع هل كان عاملاً في تنمية الهوية أو البنية العامة للمجتمع؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل:صحيح، هو عامل أساس، هنا يحضرني الكلام عن التشابك، الريف في المدنية والمدينة في الريف. لطالما تواجد الريف في المدينة منذ القديم قبل أن تكون المدينة مدينة ولاحقاً وبشكلٍ دائم، طبعاً اختلف هذا التواجد وهذا الحضور لكنه تواجُد مستمر، والريفي في المدنية هو مَن سيصبح مدنياً في ما بعد والمدينة دائماً هي حلم الريفي، المدينة في الريف...</p> <p>غسان الشامي: تقصد ما قبل الثورة الصناعية. &nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: ما قبل الثورة الصناعية وما قبل الثورة الثالثة بشكلٍ خاص، المدينة لم تكن بحاجة للريف إلا للاستجمام وكمصحّات يصفها الأطباء لأمراضٍ كالسلّ وغيرها، إنما هناك شعور بأن الرقيّ هو إبن المدينة والبدائية هي في الريف، لذلك لم يكن لدى المدني الكلاسيكي هذا الطموح للعودة إلى الريف، ولكن المنتوجات المدنية يجب أن تكون حاضرة في الريف شاؤوا أم أبوا لأن الريف لديه مصادره لكن هناك مكمّلات غذائية يحصل عليها من المدينة لأن كل ريف متخصّص بإنتاجٍ معيّن، وكذلك الأمر الأدوات والوسائل وفي ما بعد سنرى وسائل كثيرة منها المغذّيات الزراعية أو الأسمدة إلى ما هنالك، كذلك الآلات، الوسائل الحِرَفية وفي ما بعد الآلات.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: في دراساتكَ تحدّثتَ عن الريف والمدينة بعد الثورة الصناعية، هل يمكن أن نصف واقع الريف والمدينة بعد الثورة الصناعية دكتور نوفل؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل:عندما نقول ثورة صناعية فإننا نتحدّث عن الغرب لأن الثورة الصناعية في المشرق لم تحصل حتى الآن، لدينا نتائجها وليس إنتاجها.</p> <p>غسان الشامي: يمكننا أن نسمّيها ثورة شبه صناعية.</p> <p>أنطوان نوفل: الثورة الصناعية في الغرب كانت في نهاية القرن الثامن عشر، احتاجت إلى يدٍ عاملة كبيرة أمّنها المجتمع الريفي. بعد الثورة الصناعية تريّف المجتمع المدني أكثر وأكثر لأن هؤلاء العمال. &nbsp;</p> <p>غسان الشامي: ولكنهم صاروا في أحزمة البؤس.</p> <p>أنطوان نوفل: طبعاً، هنا برزت الضواحي السكنية التي هي غالباً وخاصةً في موضوع العمال هي ضواحي بؤس، فإذاً المدينة بعد الثورة الصناعية لبّت حلم القروي بأن يتواجد في المدينة، قلّ عدد سكان الأرياف لأن الريف كان فقيراً والإنتاج الزراعي محدود الدخل. شيئاً فشيئاً ريّفت الثورة الصناعية المدينة وشجّعت على عملية النزوح، العمالة ليست الهدف الوحيد للريفي، هي سبب رئيس ولكن هناك أسباب أخرى منها تعليم الأبناء، الدخول في مجالات غير الزراعة، مجالات حِرَفية أو صناعية إلى ما هنالك.</p> <p>غسان الشامي: هل نستطيع أن نقرأ الواقع الحالي للريف والمدينة في المشرق؟ قلتَ إننا في شبه ثورة صناعية.&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: صحيح،الواقع الحالي في المشرق أنه تمدّن إلى أبعد الحدود كباقي العالم ولكن في أماكن أكثر من أماكن أخرى، المشرق تمدّن.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: تمدّن بمعنى المَدنية أم المُدنية؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: بمعنى المُدنية أو المدينية، المشرق حتى الوقت الحالي هو في حال تمدين مستمر لأن المدينة لا زالت تجذب الريفيين لأسبابٍ متعددة ذكرنا البعض منها، الريف لا يزال إجمالاً في أماكن كبيرة ينزف، الإحصاءات تشير إلى أنه في الخمسينات كانت عملية التمدين في المشرق العربي تشكّل أقل من 50% تقريباً،اليوم هي تشكّل 80% وتصل إلى 90% في دولٍ مثل الخليج والإمارات، أبو ظبي كانت تضمّ أربعة آلاف مواطن في الخمسينات واليوم تعدّ أكثر من مليون ونصف مليون مواطن، فإذاً نحن في مرحلة تمدين مستمرة ومتفاقمة. سوريا واليمن لا يزالان بمعدلات معتدلة ولكن بشكلٍ عام نحن وصلنا إلى نوعٍ من التحشيد المُدني الذي لا يمكنه الاستمرار. &nbsp;</p> <p>غسان الشامي: هذا ضرب الزراعة ووسائل الإنتاج برأيك؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: ضرب الريف وضرب المدينة نفسها لأن الإقامة في المدينة لم تعد طوباوية أو مثالية كما كانوا يحلمون بها،بأن المدينة للمُرفّهين أو للميسورين مادياً، بيوت فخمة، شوارع فخمة، مداخيل عالية إلى آخره، المدينة تحوّلت، واقع المدينة اليوم مختلف تماماً. طبعاً لاتزال هناك أقلّية في المدينة تعيش في أحياء راقية وبمداخيل عالية وبيوت فخمة وشوارع جميلة، لكن هناك أحياء داخل المدينة تعاني الأمرّين. السواد الأعظم من سكان باريس ولندن اليوم هم عائلات تعيش في شقق تتراوح مساحتها بين 30 و 70 متراً مربّعاً، طبعاً هناك أقلّية تعيش في مئتي مترٍ مربّعٍ لكن الأكثرية الساحقة تعيش في هذه الشقق الصغيرة، إضافةً إلى ذلك كل ما ينتج من هذا التكثيف السكاني من تلوّثات بيئية وصوتية إلى ما هنالك.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: بمعنى آخر المدينة طغت على الريف.&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: هي طاغية على مستوياتٍ متعدّدة.</p> <p>غسان الشامي: سنذهب إلى فاصل دكتور إذا سمحت، أعزّائي فاصل ونعود إلى الحوار مع الدكتور أنطوان نوفل، موضوعنا الريف والمدينة في المشرق، انتظرونا إذا أحببتم.</p> <p>المحور الثاني:</p> <p>غسان الشامي: تحيّةً لكم مجدّداً من أجراس المشرق، دكتور أنطوان نوفل مقابل العمارة والبنيان والفقر وأحزمة البؤس وطغيان المدينة على الريف هل حصل نوعٌ معكوس هو ترييف الفكر في المشرق؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: سؤال شيّق، باعتقادي أن هذا أمرٌ طبيعي وحتمي وفي سياق التطوّر الفكري، لا ننسى أن كبار المشرقيين هم بأكثريّتهم من الريف، شعراء، كتّاب، معلّمون، فلاسفة، ولا ننسى أيضاً أن جبل لبنان بشكلٍ خاص هو خرق للمفهوم الريفي في المشرق بسبب أمرٍ جوهري هو الدخول إلى عالم التعليم منذ مدرسة عين ورقة، منذ مجمع 1736، منذ أن صار التعليم إلزامياً، فالريف كان ريف المدرسة وليس المدينة، أيضاً كان ريف المطبعة، المطبعة وصلت إلى قزحيا في العام 1634 أو 1614. &nbsp;</p> <p>غسان الشامي: المطبعة في درعون، المطبعة في دير مار يوحنا الخنشارة ولكن كانت هناك مدن مليئة بالطباعة مثل حلب.&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: نحن نتحدّث في التاريخ، قزحيا في القرن السابع عشر، أول مطبعة في بيروت قبل مطبعة حلب في العام 1834 وهي مطبعة الجامعة الأميركية، فإذاً 150 سنة بعد مطبعة قزحيا والخنشارة وصلت المطبعة إلى المدينة، إذاً الإنتاج الفكري كان موجوداً في الريف، المدارس أيضاً موجودة في الريف وأيضاً هذا العنصر الرهباني الأساسي الكبير الذي أوصل إلى النهضة في لبنان والدول العربية انطلق من الريف، حتى أن الجامعة الأميركية لم تبدأ في بيروت وإنما في عبيه.</p> <p>غسان الشامي: أنت تعرف أن العقل الريفي الكلاسيكي هو عقل تحدّه خصائص معيّنة، الأرض، الخلافات إلى ما هنالك، ولكن ماذا قدّمت المدينة للعقل الريفي الذي أتى إليها؟</p> <p>أنطوان نوفل: أحد الأنثروبولوجيين يقول إن العقل الريفي ليس عقلاً بدائياً ولم يكن يوماً بدائياً، العقل الريفي هو عقل عملي، يقول إن الولد في الريف يأخذ القمح ثم يفلح الأرض ثم يزرع القمح ثم يحصده ثم يطحنه ثم يعجنه ثم يخبزه، وحين يأكل الخبز تكون لديه صورة متكاملة عما يأكله بينما إبن المدينة لا يعرف شيئاً عن كل هذه الأمور. &nbsp;</p> <p>غسان الشامي: لم نزرع ولم نطحن ولم نعجن ولم نخبز.</p> <p>أنطوان نوفل: نعم، هي وصلت إلى مائدته، إذاً يستنتج في دراسته في بداية القرن العشرين أن الذكاء الريفي مرتبط بالطبيعة والأرض، وهناك ذكاء نظري عند أبناء المدن لكن هناك تكامُل بينهما.</p> <p>غسان الشامي: دكتور نوفل هل نحن أمام ريفٍ متشابه أو تنوُّع أرياف؟ هل نحن أمام مدنٍ متشابهة اجتماعياً في المشرق أم مدن متعدّدة الخصائص؟</p> <p>أنطوان نوفل: نحن أمام ريف متعدّد ومدينة متعدّدة، ليس هناك ريف واحد وإنما عناصر ثقافية في الأرياف تختلف، في المشرق العربي هناك الكثير مما يجمعنا وأيضاً هناك الكثير مما يعطي استثنائيات هنا وهناك. فإذاً الريف هو متعدّد بهذا المعنى أنثروبولوجياً وثانياً متعدّد من ناحية الطبيعة والموارد، ليس لدينا نفس الاهتمامات بين الريف الساحلي والريف الجبلي مثلاً، بين ريف في جبل زراعي بقاعي وآخر...</p> <p>غسان الشامي: هل تعتبرون البداوة جزءاً من الريف شخصياً؟</p> <p>أنطوان نوفل: أنا شخصياً أعتبر أن البداوة جزء من الريف لأن علائقها مختلفة، أولاً هي مرتبطة بالأرض عبر المسافات لأن البداوة ربمّا تصل إلى الألف كيلومتر سنوياً في الترحال، ولكن البداوة مرتبطة بالرعي، رعي الإبل، رعي الماشية، ويعتبر جزء كبير من الباحثين أن القطيع أو الرعاية تحلّ محل الأرض كمصدر إنتاج، وعملية الترحُّل تحلّ مكان الوسائل التقنية التي يستعملها المزارع، فإذاً هناك تشابه ولهذا السبب يعتبرونها جزءاً من الريف.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: كيف يمكن أن يحصل التشابه في المدن ما بين مدينة ساحلية ومدينة داخلية؟ ألا توجد فروقات مدينية بين المدن؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: هناك خصائص مشتركة في المشرق كما ذكرت، لكن هناك أمور مختلفة، ولا ننسى أن لكل مدينة إدارتها على المستوى القانوني، التشريعي، الحكم المحلي، نرى ذلك ونعيشه بين مدينة فيها الحوْكمة والحكم الرشيد وبين مدينةٍ متروكة. في موضوع العمارة أيضاً نرى أن هناك عشوائية معمارية في مدينة دون مدينةٍ أخرى، وداخل المدينة هناك اختلافات كما ذكرنا، اختلافات بين الأحياء، إضافةً إلى أحياء الضاحية وأحياء البؤس هناك اختلافات في الأحياء الداخلية.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: إذا أتينا إلى المعاصرة أكثر ماذا قدّمت العولمة والتكنولوجيا وثورة الاتصالات للريف والمدينة معاً؟ كيف قرأتم في السنوات الماضية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين هذه الاندفاعة المعرفية وتأثيرها على بنية المجتمع؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: لم يصل الواقع المعيشي المجتمعي ليُظهر الصورة كاملةً خاصةً في الريف، في المدينة منذ سبعينات القرن الماضي دخلت التكنولوجيا وهي تعمل وبأفضل الحالات، وهي مستمرة وتتطوّر شيئاً فشيئاً. أما بالنسبة إلى الريف فهي ثورة وفرصة أساسية لأن هذه التكنولوجيا وهذه الوسائل المعلوماتية هي مجرّدة عن المكان، يمكن لها أن تعمل في أي مكان، وبهذا المعنى أرض عملها متساوية إذا كانت في الريف أو المدينة. اليوم في أرز بشرّي هناك فرع لشركة ضخمة في المعلوماتية تعمل وزبائنها من نيويورك وباريس وطوكيو،هناك إمكانية اليوم لأيّة قرية في الجنوب أو في البقاع أن تدخل في مجالٍ تجاري تنافس فيه الوكيل الموجود في العاصمة وبوسائل التواصل ووسائل المواصلات توصل إليك ما أنت بحاجة إليه. أزمة كورونا أثبتت هذا الأمر، أبناؤنا الذين يعملون في الخارج في شركة الأمازون مثلاً يبيعون في كل أنحاء العالم كان باستطاعتهم أن يكونوا في قرية ريفية يتوافر فيها الإنترنت وإتمام عملهم والبيع بملايين الدولارات في العالم، فإذاً هذه فرصة لأبناء الريف، أولاً هو يعطي الإمكانية لأبناء المدن إذا فكّروا بالعيش في الريف برفاهية توازي رفاهية المدينة، يعيشون بكلفةٍ أقل ومساكن أوسع، يستفيدون صحياً من المناخ ومن نظافة البيئة إلى ما هنالك. نحن نطرح السؤال بشكلٍ يومي، السؤال الذي تفضّلتَ به هو حديث الساعة، أُجري إحصاء في فرنسا أظهر أن 50% من سكان المدن يطمحون بالانتقال للعيش في الريف.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: على سبيل النكتة دكتور يبدو أن ما يحصل في بلدان المشرق من انقطاعٍ للكهرباء والإنترنت الذي لا يُغني ولا يُسمن عن معلومة أحياناً أنهم يريدون أن يعودوا بنا إلى عصر ما قبل الأنوار ولكن لنكمل معاً.&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: يجب أن نحلم دائماً.</p> <p>غسان الشامي: الفوارق في المكان هل باتت متقاسَمة بين الريف والمدينة؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: الفوارق في المكان متقاسَمة ولكن ليس بعدالة لأن المدينة حتى الآن تتّسع وتجتاح الريف، ومن ناحية أخرى فإن الأرياف في أماكن كثيرة من المشرق العربي تجتاح بعضها لكي يكون هناك تواصل بين القرية والقرية فتشكّل مدينة. &nbsp;&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: مثلاً بيروت الكبرى.</p> <p>أنطوان نوفل: نعم، مثلاً بين جبيل وبيروت، بين صيدا وصور، هناك بعض الواحات والجُزر إنما هناك استمرارية وتواصُل في البناء، لم تعد هناك أماكن تعطي المشهد الريفي الذي هو مشهد صحّي وهذا أحد التحدّيات.</p> <p>غسان الشامي: لندخل إذاً إلى التحدّيات، ما هي التحدّيات التي يواجهها الريف وتواجهها المدينة في عصرنا الحاضر وتحديداً في المشرق؟</p> <p>أنطوان نوفل: التحدّيات التي تواجهها المدينة هي هذا التحوُّل السكاني والتكثيف السكاني والحشد وتظهير كل أنواع المشاكل والمخاطر، فيما خلا هذه الأقلية وفيما خلا بعض الأحياء في المدن، فالمدينة اليوم تتّسع من دون حدود وتستوعب كل المشاكل من التلوّث، من الضجيج والصخب، من أزمات السير الخانقة، من العمارة العشوائية، من حالات الجريمة، من حالات التسوّل، من حالات التهميش، من حالات أعداد الذين يعيشون من دون مأوى في المدن. المدن لم تعد لها هذه الصورة، بالطبع هناك مدن لها تنظيم مختلف مثل مدن الخليج العربي، مثل بعض المدن ذات التنظيم الحكيم، هناك حالات كثيرة من المدن التي تعيش على هذا المنوال.</p> <p>غسان الشامي: لو بدأنا بتحديدها تعميماً للفائدة للسادة المشاهدين، في التحدّي العمراني.&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: مَن هو المسؤول في التحدّي العمراني؟ إذا سلّمنا التحدّي العمراني إلى المطوّرين العقاريين وأصحاب المصالح فهم بطبيعتهم سيقومون بما ينفعهم بغضّ النظر عن صحّة هذا الأمر أو عدم صحّته، هناك ممنوعات، يُمنع تحويل المناطق والأراضي الزراعية إلى عمران بشكلٍ كلّي وإنما بنسبة معيّنة، تُمنع إزالة المساحات الخضراء، يُمنع بناء منزل في الريف من دون ترك مكان للحديقة، البيوت والعمارات متلاصقة وطوابق متعدّدة من دون مُتنفَّس، مَن يجيب على هذا التحدّي؟ المواطن لا يمكنه الإجابة عليه وإنما هذا شأن الحكومات التي عليها أن ترشّد كل هذه الأمور، وهي التي تحدّد تنظيم وترتيب الأرض والمكان والمدن.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: ولكن أليس هذا التحدّي العمراني هو تحدٍّ في أن الإرث الحضاري لهذه البلاد يزول مقابل هؤلاءالمطوّرين العقاريين الذين يبنون فقط للربح؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: هذا التحدّي الآخر، هل يمكن التضحية أو إلغاء أو هدم معالم حضارية تراثية؟ هل يمكن القضاء على طبيعة الريف؟ هناك قانون فرنسي صدر مؤخّراً في كانون الثاني إسمه "قانون حماية التراث البيئي الريفي السمعي والحسّي".</p> <p>غسان الشامي: هنا لا يوجد لا سمع ولا حسّ.</p> <p>أنطوان نوفل: ولكن نتعلّم، حصلت عدّة حوادث.</p> <p>غسان الشامي: كيف يُحمى التراث السمعي الحسّي؟&nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: أولاً لماذا صدر؟ لأنه حدثت مشاكل، مصطافة في قرية في جنوب فرنسا تنزعج من صوت الجرس، السلام الملائكي، أقليّة هي القرى التي ما تزال تتبع هذه العادات، اشتكت لدى البلدية التي قرّرت أن هذا جزء من التراث وأن بإمكانها الادّعاء لدى المحكمة وأن بإمكانها الذهاب واستعادة مالها. هناك مسألة أخرى أخذت ضجّة كبيرة وهي قضية الديك موريس، كانت الشكوى في المحكمة ضدّ هذا الديك الذي بصياحه يوقظ الجار، بعد سنتين من الجدل وهذا الأمر شجّع جماعاتٍ كثيرة على التقدّم بشكاوى أمام المحاكم لأمورٍ مماثلة، صدر الحكم لمصلحة الديك، الشكوى لم تكن ضدّ صاحب الديك إنما ضدّ الديك نفسه، إذاً صدر الحكم لمصلحة الديك، وفي المقابل أحدث هذا الأمر قضية رأي عام وانحشد الرأي العام، وصار هناك رأي سياسي وتقدّم نواب ريفيون بمشروع قانون أُقرّ لحماية التراث السمعي والحسّي.</p> <p>غسان الشامي: ما دور الحكومات والدول في مسألة الحفاظ على هذا الإرث الحضاري إذا كان موجوداً سيّدي؟ &nbsp;</p> <p>أنطوان نوفل: الدور الأساس هو للحكومات المنبثقة عن الناس والذي يجب أن يسانده دور المجتمع المدني. في موضوعٍ مماثل في قانون حماية التراث أُعطي إلى المجالس المحلية ضرورة تسجيل ووضع لوائح بما يعتبرونه جزءاً من التراث البيئي، التراث الحضاري السمعي والبصري.&nbsp;</p> <p>غسان الشامي: شكراً سيّدي.</p> <p>أنطوان نوفل: شكراً لك.</p> <p>غسان الشامي: القراءة الواقعية لوضع الريف والمدينة أنثروبولوجياً واجتماعياً واقتصادياً تجعلنا نكتنه خصائص مجتمعنا وتضعنا على سكّة التقدّم. شكراً للدكتور أنطوان يوسف نوفل على حضوره في أجراس المشرق، الشكر موصول للزملاء في البرنامج والميادين على جهدهم، لكم أنتم دائماً سلامٌ عليكم وسلامٌ لكم.</p>