Unknown*

سأتأمل الوجوه، وأسرّ لأنها استردّت أسماءها. سأنظر إليها وهي تضيء كشموس صغيرة. سأجدني ساعتذاك، أنا الذي مكَّنني الله، أعيد ترتيب الوجوه، وأمنحها ما سُلب منها عندما كانت تضجّ بالحياة. 

  • Unknown (لوحة لفاطمة ضيا)
    Unknown (لوحة لفاطمة ضيا)

لو مكَّنني الله من أن أجمع الملامح التي ضاعت، ما تأخَّرت. كنت سأفعل هذا بأناة وتجلّد أولئك المجبولة أرواحهم بالصبر. سأتلبَّس هيئة رسام لا يغادر مرسمه حتى يمنح لوحاته تفاصيلها ويصبغ تعرجاتها بالألوان. الوجوه لوحات. كنت سأبحث عن المفقود من التفاصيل تحت الركام وأسفل صفحة الماء الواسعة والقريبة، وأبدأ كطفلة شغوفة بألعاب التركيب، بردّ ما ينقص الوجوه من أصلها حتى تكتمل. 

سأتأمل الوجوه، وأسرّ لأنها استردّت أسماءها. سأنظر إليها وهي تضيء كشموس صغيرة. سأجدني ساعتذاك، أنا الذي مكَّنني الله، أعيد ترتيب الوجوه، وأمنحها ما سُلب منها عندما كانت تضجّ بالحياة. 

وجه مبتسم

سأعيد تشكيل وجه بدَّدت النار والتراب تكاوينه حتى غدا أملس. سأرسم فوقه جبيناً متوسط الحجم، وأثبّت تحته حاجبين خفيفين يمتدان قليلاً كأنهما يطلان نحو الصدغين، ثم أرسم أسفلهما عينين واسعتين تكاد جفونهما تنطبق من أثر التبسّم، ثم أنفاً دقيقاً وشفتين منفرجتين، تظهر من خلالهما أسنان على قدر معقول من الترتيب. 

"حبيبتي، عرسنا قريب. كفّي عن التشاؤم. تذكَّري أننا سنفرح رغم كل هذه الظروف. لا تنسي قولك لي إنَّ الحبّ يخفّف الألم، وإن الصعب يصبح هيناً لأننا معاً". كتب الوجه المبتسم. وضع الهاتف في جيبه. التفت ناحية كتلة هائلة من الدخان واختفى. 

 وجه قلق

سأزرع في هذا الوجه مقلتين مرتعشتين. سأرسم عينين مسكونتين بالقلق. سأتركهما كما كانتا على هذه الحال منذ شهور مضت في مدينة تقتات من الفوضى. العينان تتنقلان بين الفوطة التي تسير بتكاسل على سطح المكتب وحريق خارج النافذة يبدو مشهده اعتيادياً. لسبب ما، تمتد اليد إلى جيب البنطال، وتخرج منه مئة وتسعين دولاراً مطوية بعناية ومشدودة برباط مطاطي، وبطاقة هوية، وقصاصات ورقية. 

سحابة الدخان تتكثّف. يتأمل الوجه القلق السفينة الراسية على المرفأ. البحر خلفها ممتدّ وواسع. 

"شهران من العمل الإضافي. ليس أكثر من ذلك. سأبدّل الليرات بالدولار، وأجمع ثمن تذكرة السفر". قال الوجه وهو يعاين هدوء البحر وصفاء السماء. "هل أسافر في البحر؟"، نفض الوجه القلق رأسه ساخراً من اقتراحه الساذج. "لا، سأعود إلى بنغلادش بالطائرة". تذكَّر أوّل رحلة له فيها آتياً إلى لبنان. ممتعة رؤية الأشياء من فوق. مدن وأبراج وبحر، وغيوم أحياناً! انفرجت شفتا الوجه قليلاً. طرق صوت عنيف أذنيه. انقبض قلبه. السّحابة الرّمادية حُجبت. الوجه ابتلعه إعصار أبيض. 

وجه غاضب

قسمات جامدة. لم تكن هكذا دائماً. في الماضي، كانت على قدر يسير من المرونة، لكنها منذ سنوات قليلة، أصبحت كالصخر. سأدع الوجه هكذا، متحجراً إلى الحدّ الذي لا تنفع أي فكاهة في ترطيب ملامحه، بما فيها النكات الطازجة التي تصله بكثافة عبر الواتسآب.

الوجه يقود عربة نقل صغيرة. ينظر من المرآة إلى البضاعة المتكوّمة خلفه. العمل لم يعد يطاق. سخرة. "أعمل بقوة أربعة شغّيلة". قال الوجه محدثاً نفسه. ألقى ببصره سريعاً إلى يده التي تقبض على المقود. سوداء من شمس آب. أبواق السيارات تنكأ مسمعه، علماً أنّ الوقت ليس وقت ازدحام. إنها عادة لبنانية سيئة. الرطوبة تأكل وجهه، وتكاد تحفر فيه. مسح الوجه عرقه، ثم تطلَّع إلى الساعة. لن أعمل ساعتين إضافيتين. استحضر وجه المسؤول عنه. تأمل فيه، ثم تفّ لاعناً كل شيء. وجوه عائلته تموج أمامه. تدنو ثم تلتحم بوجهه. وجوه صغيرة طيّعة. ظلال ابتسامة بدأت ترتسم على محياه. "ستفرج. ما بعد الضيقة إلا الفرج"، قال الوجه، ثم ذاب في الحطام. 

وجه شارد

عينان سارحتان أسفل حاجبين صغيرين. أنف مستقيم يبدو أنه لا يتزحزح إلا من زكام أو رائحة منعشة. الشفتان كأنهما مغلقتان. تتحركان قليلاً كأنهما تتمتمان عندما يقابل الوجه ما يثير امتعاضه، بالقدر نفسه الذي تنفرجان فيه عندما يبطئ سيره متوقفاً قبالة ما يشيع في نفسه حريتها. البحر. جار أيام الوجه الشارد منذ سنين. يخرج من الحيّ إليه، ويفكر طوال المسافة التي يمضيها في ممارسة رياضة المشي في أنّ البحر صديق الأيام الأخيرة. 

يمشي الوجه الشارد مارّاً بشعارات لم تزل تحتلّ الجدران منذ الحرب الأهلية. في ما مضى، كان يتوقف عندها ويقرأها جميعها. كان بعضها يثير حماسته إلى ماضي الفتوّة. يستعيد هيئته في الصورة المعلقة في صدر غرفة الجلوس بشعره الأسود الفحمي وجسمه المتين. 

"كل هذا هراء". يحدّث الوجه نفسه بصوت مسموع، متجاوزاً ذاكرة الحرب إلى وقار الشيخوخة. يوشك وهو في طريقه أن يتقدّم من صور قادة الحرب المنثورة في الأرجاء ويمزقها، لكنه يعكف عن ذلك. حكمة الحياة في بلاده علمته أن شيوخ الدم لا يموتون، ولو شاخت الأرض. 

"لبنة وجبنة وخبز وسجائر". تلفّظ بها وكرّرها، لترتدّ إلى أذنيه ويحميها من مرضه الجديد: النسيان. 

هبّت نسمة خفيفة محمّلة برائحة الملح. لم يكن البحر برحابته قبالته، لكنّه اكتفى بمتابعة ما ينكشف له منه. غذّ الخطى. صارت النّسائم مشبعة بروائح الاحتراق. التفت إلى يمينه. مشهد بائس آخر في بلاد تعيسة. تكوَّم الحزن فوق صدره. تنهّد. 

"لم يعد لديّ طاقة لفعل أيّ شيء... حتى إبداء الأسف". 

اعترف الوجه الشارد لنفسه. خطا بضع خطوات ثم توقف. أرخى بصره أرضاً وكرّر: "لبنة وجبنة وخبز وسجائر". ما عساني نسيت أيضاً؟ سأل نفسه. لم يُتح له التذكر. في تلك اللحظة، صار الدخان هو الذاكرة. 

* كُتب هذا النص إهداء لأولئك الذين فقدوا وجوههم في انفجار مرفأ بيروت. إنه محاولة بسيطة لردّ الهوية إلى أشخاص شاءت المأساة أن يدرجوا في جداول وزارة الصحة اللبنانية تحت عنوان "Unknown". 

 

في الساعة السادسة و 6 دقائق من عصر يوم الرابع من آب/أغسطس هز انفجار ضخم العاصمة اللبنانية ووصل صداه إلى مناطق بعيدة. شحنةٌ من نترات الأمونيوم مخزنة منذ سنوات في مرفأ بيروت انفجرت وحولت المرفأ ومحيطه إلى أثر بعد عين.