مريد البرغوثي.. نستيقظ معك كي نحلم

ها قد عدت أخيراً إلى رضوى؛ إلى "وطنك المحرر". وقد قلت عن حزنك على فقدها: "إن من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب ينشغل عن المحبوب".

  • مريد البرغوثي.. نستيقظ معك كي نحلم
    مريد البرغوثي.. نستيقظ معك كي نحلم

أكتب عنك وأعلم أني أريد أن أكتب لك في الوقت نفسه. لن أقول خسرناك فقط، بل فقدنا كذلك المكان الذي أضاف إلى أرواحنا منطقة حية من المعنى الجديد. ربما تكون قد ذهبت في إجازة وستعود، ونعود معك إلى قراءتك التي ليست تعنينا فحسب، بل تخصّنا كبشر وفلسطينيين على وجه الخصوص. نشعر بأنّك معنا، وبأنّك ولدت هنا من جديد. ها أنا أستيقظ كي أرى تلك اللآلئ التي تركها شعرك في سلاسته، حتى كنت وجهة خاصة نتّجه إليها في مشوارنا.

رأيناك هناك تؤثث لأحلامك بيتاً من الكلمات، وتقول في قصيدة: "لا مشكلة لديَّ. أحلامي ركبت أمس قطار الليل، ولم أعرف كيف أودعها. سأطورها إن شاء الله إلى أحلام كبرى، لا مشكلة لدي". وها أنت تتابع في القصيدة ذاتها سؤالك عن الموت: "يا الله، أهناك حياة قبل الموت؟". 

لم يكن لديك مشكلة في سؤالك الكبير عن كلّ شيء بسيط، والعكس. تسأل أسئلة صغيرة عن الأشياء الكبيرة، وتذهب عميقاً في حياتك لتنبش تلك الأسئلة في حياة طال شتاتها، كما هو عنوان كتابك "طال الشتات" في العام 1987، وأنت المولود في قرية دير غسانة قرب رام الله في العام 1944. 

وفي العام 1963، سافرت إلى مصر للالتحاق بجامعة القاهرة، وبقيت في الخارج 30 عاماً. كتبت ذلك في عملك الروائي "رأيت رام الله" الّذي ترجمته أهداف السويف إلى الإنكليزية، ووصفه إدوارد سعيد بأنه واحد من أفضل الروايات الوجودية عن تهجير الفلسطينيين. 

دخلنا معك إليها، لنرى تفاصيل الأمكنة، وكيف تغيّرت، وكيف أصبحت عودتك رؤية أخرى للأشياء، إذ تتساءل عن الأشياء الغريبة داخل هذا المكان، فتقول: "ها أنا أدخل إلى فلسطين أخيراً، لكن ما هذه الأعلام الإسرائيلية؟ شعور بالانقباض لا أريد أن أعترف به". لقد رأيت رام الله التي منعك الاحتلال من رؤيتها كل هذه السنين، فاكتشفتها بعيون أخرى، وقلت عن تلك الرؤية: "غبش شامل يغلل ما أراه وما أتوقعه وما أتذكره". 

إنها أحاسيسك التي جعلت هذا العمل يبتعد عن السيرة ويقترب إلى الرواية التأملية، تماماً كما تخطّيت الجسر لتدخل رام الله، فتكسر حاجزاً آخر في المشاعر، ولكن تبقى روايتك الأولى "رأيت رام الله" في العام 1997 وروايتك الثانية "ولدت هنا، ولدت هناك" عالمين يرافقان الشعر في طريقه لكي يسرد تفاصيل وهوامش حيّة وغير مألوفة، حتى وهو يتحدّث عن أشياء عادية ومعروفة، فتسأل في كتابك "ولدت هنا ولدت هناك" عن البداية: هل النّهاية التي وصلنا إليها اليوم أم تلك البداية؟ وتقصد احتلال فلسطين.

منذ البداية، أعلنت، كما قلت يوماً، أنك تبني ولا تغني، وأن القصيدة بناء لا غناء، وكان ذلك واضحاً في مشروعك الشعري الذي ابتدأته بـ"الطوفان" و"إعادة التكوين" في العام 1972، ثم "قصائد الرصيف" 1980، و"طال الشتات" 1987، و"رنة الإبرة" 1993، و"منطق الكائنات" 1996، و"زهر الرمان" 2004، و"استيقظ كي تحلم" 2019. 

صرنا نرى السّرد وكيف تحمله القصيدة لتجعله أكثر من حكاية وحوار شيّق في تفاصيل من الحياة والطبيعة، كأن تقول في قصيدة "النحلة" من ديوانك "منطق الكائنات": "قالت النحلة لزهرة الأكاسيا / لماذا رغم ازدحام الأغصان والأوراق والزهور الأخرى / أشعر وأنا أحكّ عطرك الطري / أننا وحدنا في خلوة مطلقة. تقترب لغتك من الحوارات المتخيلة، لكن البسيطة، وأنت الذي قلت يوماً: أنا أبرّد اللّغة كي أكون أكثر إقناعاً، ولعلّك تعني هنا أنك ابتعدت عن الخطابية والمعاني الجاهزة والمستهلكة.

ولكنك في الوقت نفسه لم تبتعد عن القضايا الكبرى. لهذا، دعوت الشعراء إلى كتابتها بصورة جيدة. مذ "طال الشتات"، رأينا كيف كنت تتحدث ببساطة عن أمور عظيمة بلغة بسيطة، فترى فلسطين وكأنها رصاصة في قلب الكون، في قصيدة اسمها "في القلب"، فتقول: في الكون كواكب / في الكواكب الأرض / في الأرض قارات / في القارات آسيا / في آسيا بلاد / في البلاد فلسطين / في فلسطين مدن / في المدن شوارع / في الشوارع مظاهرة / في المظاهرة شاب / في صدره قلب / في قلبه رصاصة.

وفي ديوانك الأخير "استيقظ كي تحلم"، تسأل الحرب أسئلة بسيطة، فتقول لها: "من أين تأتين بهذه الهمة؟ أتعلمين أنك لم تطلبي إجازة من عملك على أرض البشر/ منذ كان البشر؟".

هكذا تنأى قصيدتك عن الغموض، لكنها في وضوحها تقترب من اللاعادي في العادي، فتلتقط تلك اللحظات الصعبة التي لا يمسك بها إلا شاعر روض قلبه كي يقفز من تلك الإطارات التي أعدها له العالم، فتقول لنفسك في قصيدة "الترويض": كأنك تركض بين الإطارات ترتد داخل اسمنتها الدائري / فمن أين تخرج؟ / هم حددوك كأن الفراغ حواليك سور"، ثم تؤثّث لفكرة القفز عن الأسوار في الحياة والشعر، فتقول في قصيدة بعنوان "الجرأة" من ديوان "منطق الكائنات": قال الكهل / لم يعد يتحلى بالجرأة / سوى الأطفال / يؤمنون أن السور بني لنقفز عنه / وأن الأصابع خلقت لتلمس النار". 

إنها أصابعك التي كادت تلمس النار عندما كنت تنشغل بأسئلة الثقافة الفلسطينية وأسئلة الشتات والمنفى، فكنت المثقف الذي عاش تجربة الكفاح الوطني، وكنت معارضاً لاتفاق "أوسلو"، واحتفظت بتلك المسافة بينك وبين المؤسسة الرسمية، وكنت الإعلامي، ثم المستشار في مكتب منظمة التحرير في بودابست، لأن إقامتك في القاهرة لم تطل، إذ لفّقت لك مخابرات أنور السادات تهمة تعكير الأمن القومي. 

رأينا في شعرك كيف اتسع معنى الوطن، فصرت تدافع عن البرتقالة الفلسطينية كبرتقالة، لا كرمز فلسطيني فقط، فتقول في "استيقظ كي تحلم": قالت حبة البرتقال: لست رمزاً لأحد / لست رمزاً لبلد / بل أنا هذا المذاق / وأنا هذا الجسد"، وهذا عمق معنى أننا مللنا تلك الرموز، وصرنا نريد أن نرى الوطن بأشياء أخرى وتفاصيل أخرى مختلفة عما ألفناه.

لقد اتسعت دائرة المعنى واحتوتنا جميعاً يا مريد. صارت حولنا أيضاً، بعد دعوتك لها كي تكبر في ديوانك "قصائد الرصيف": اكبري يا دائرة / لامسيني واجذبيني لاتساعك/ وأحيطي بي ودوري وخذيني في مدارك / سعة العالم ضاقت بي وضاقت".

ها قد عدت أخيراً إلى رضوى؛ إلى "وطنك المحرر". وقد قلت عن حزنك على فقدها: "إن من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب ينشغل عن المحبوب". ستلتقي صديقك ناجي العلي مرة أخرى، وستلقي له القصيدة التي كتبتها في رثائه: "أكله الذئب". ها نحن نقرأ قصائدك مجدداً وكأنها وصية حياة يحضر فيها الآخرون فنستيقظ معك كي نحلم.