في وداع "السفير"... وأخواتها (!)

إلى أن تُعلَن وفاة الصحافة الورقية رسمياً نتمنى أن تتسع صفحاتها لِمَا يَسرُّ ويُفرِح في بلاد تتسع على صفحات واقعها مساحات الموت والخراب وتضيق فسحات العيش. وهَنا تحدي الكتابة الحقيقي: كيف تثقبُ بإزميلِ حبرٍ جدارَ اليأس المتعاظم، وكيف تغرس وردةً وسط الركام، وتُبشِّر الصابرين على جمر انتظاراتهم بأن الصبح قريب، بل كيف تُقرِّب لهم هذا الصبح أو تبتكره.

شتّان ما بين لمس الورق ولمس الزجاج البارد للأجهزة الذكية
ليست هي المرة الأولى التي نكتب فيها رثاءً للصحافة الورقية. منذ سنوات بدا واضحاً أن زمناً يأفل وآخر يطل، لا برأسه فحسب وإنما بقضِّه وقضيضه.
التكنولوجيا الذكية أحالت وتحيل على التقاعد الكثير مما نشأنا عليه واعتبرناه ملازماً لنا حتى النهاية. مضى زمنٌ كانت فيه الجريدة اليومية رفيقة الصباح الأولى، قرَّاء كثر تحوَّلوا من فلفشة الورق إلى ملامسة الشاشات الناعمة التي تنقلهم بسرعة البرق إلى أصقاع الدنيا كلها، أجيال جديدة تتشكل معرفتها بعيداً من صحافة لا تمثِّل لها حاجةً ولا ضرورة. فَمَن وُلِد في عصر الشاشات المحمولة يختلف وعيه ومصادر معرفته عمَّن أَلِفَ الحبر والورق. باتت وسائل التواصل الاجتماعي، وهي الأكثر شيوعاً وانتشاراً، تفرِّض "نجومها" ولغتها وإيقاعها على الجميع، صار البقاء خارجها بمثابة انعزال عن العصر ومستجداته لأنها ما عادت مجرد ترف أو كماليات بل أمست حاجة لا غنى عنها.

مناسبة الكتابة مجدداً عن الصحافة الورقية إعلان صاحب "السفير" وناشرها الأستاذ طلال سلمان للمرة الثانية توقف الجريدة عن الصدور نهائياً مطلع العام المقبل، أي بعد أسابيع قليلة، ويبدو القرار هذه المرة مختلِفاً عن سابقه، وفي طريقه للتنفيذ على الرغم من شيوع أنباء عن عروض تلقاها سلمان من جهات مقتدرة تكفل له الملاءة المالية للاستمرار في إصدار "سفيره".

لم يعد الصدور بحد ذاته سبباً للصدور. الإصرار على صدور الصحيفة كغاية لا كوسيلة يشبه مريضاً في حال موت سريري تبقيه الأجهزة الطبية على قيد التّنفّس لكنها لا ترد إليه الحياة. بمعنى أوضح لا فائدة ولا جدوى من إصدار طبعة ورقية إذا لم يكن ثمة مَن يقرأ. ليس التمويل الشرط الوحيد لولادة صحيفة أو لاستمرارها على قيد النشر. الصحيفة الورقية_خصوصاً ذات المضمون الإخباري_فقدت جدواها لِعدم تَكيُّفها مع المتغيرات العميقة ولا مواكبتها مستجدات "الحياة الرقمية".

سقى الله زمناً كانت فيه الصحافة الورقية مصدراً أول للخبر والمعلومة، اليوم لم تعد وحدها في الميدان، وهي في طور الخروج من مضمار السبق. سابقاً، حتى الراديو والتلفزيون كانا يستندان إليها في كثير من مواد بثهما، فقرة أقوال الصحف إعتُبِرَت لِعقودٍ من الثوابت في صباحات الإذاعة والتلفزة. افتتاحية أو "مانشيت" صحيفة كانا كفيلين بإسقاط حكومة وقيام أخرى، وكان الكاتب مهما علا كعبه يرقص فرحاً إذ يرى توقيعه مُذَيِّلاً نصّه في هذه الجريدة أو تلك.

ما نشير إليه ليس وقفاً على الصحافة الورقية العربية (لعل الصحافة العربية أوفر حظاً من سواها، خصوصاً تلك الناطقة باسم حكومات وأنظمة إذ يمكنها البقاء لمجرد البقاء، بدعمٍ ممن تنطق باسمهم). ما يعتري الصحافة الورقية لا يصيب  فقط الناطقة منها بلغة الضاد. صحفٌ عريقة في العالم مثل "الاندبندنت" البريطانية و"البايس"الإسبانية أوقفت طبعاتها الورقية واكتفت بمواقعها الالكترونية. إذاعة "بي بي سي" البريطانية توقفت عن بثّ فقرة أقوال الصحف التي دأبتْ عليها طوال ستين عاماً، كأنها تقول لم يعد لدى الصحافة الورقية ما تقوله، لقد تكفلت الميديا البديلة بقول كل شيء.

تلك أخبار مؤسفة لأجيال متعاقبة نشأت على الحبر والورق قبل أن تزحف الشاشات الصغرى لتأخذ الحيّز الأكبر، وتغدو الأنامل أكثر لزوماً من الأقلام، تُمارس فعل اللمس وكأنها تحفُّ فانوساً سحرياً لا يخرج منه فقط مارد جبّار بل تخرج دنيا كاملة الأوصاف.

ما عليه، نكتب عن الورق لا عليه. أنتمي الى جيل ظلَّ الحبر والورق لصيقاً به سحابة عمره، وما كان أبداً مجرد حبر على ورق، كانت الصحف تستقطب كبار الأدباء والمفكرين، رؤساء تحريرها أصحاب رأي وموقف، محرّروها شعراء وروائيون وكتّاب فكر واجتماع وسياسة واقتصاد، مقالاتها تهزُّ حكومات وتُعلي شأن أخرى، صفحاتها الثقافية وملاحقها الأدبية منابر المبدعين ونوافذ كلِّ جديد في الشعر والرواية والنقد والفلسفة والمسرح  والسينما والرسم وسائر الفنون. الخلاصة: كانت الجريدة مصدراً من مصادر المعرفة لا مجرد ناقل خبر أو حدث. كنّا نباهي بأننا قرّاء صحف ومجلات. تأبُّطُ جريدة يعني أن حاملها على شيء من الثقافة، واسم الجريدة يدلُّ على ميوله السياسية والفكرية.

نُمَنِّي النَّفْسَ بأننا نستعجل وداع الورق، ونرجو أن نكون مخطئاً، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. يوماً تلو آخر تتوالى الأخبار المؤسفة عن صحف أُقفِلَت أو سرَّحت محرِّريها أو تعاني من أزمات مالية وغير مالية. كلّ ذلك نتيجة التحديات غير المسبوقة التي تواجهها مهنة الصحافة بشكل عام، والصحافة الورقية بشكل خاص، (الصحافة الإلكترونية ليست خارج التحدي، وهذه نتوسع فيها لاحقاً). المفارقة أن الصحافة الورقية تطوي زمنها في زمن صرنا جميعاً فيه صحافيين، صرنا كذلك بغير قصد ولا تخطيط. كلنا مُرسِلٌ وكلنا متلقٍ بفعل التكنولوجيا الحديثة. كلُّ حاملٍ لهاتف أو لوحٍ ذكي بات قادراً على الإرسال والنشر، لم يعد الخبر المثبت صوتاً وصورة حكراً على أحد. تكون مستقلاً سيارتك أو حافلة نقل عام، تعترضك زحمة سير، تبادر فوراً إلى تصوير أرتال السيارات ونشر الخبر على موقع تواصلك الاجتماعي، وقِسْ على هذا المنوال، كل شأن مهما كان بسيطاً أو عابراً صار صاحبه أو الشاهد عليه ينشره على الملأ.
 

نُخَبُ العالم جميعها، ساسةً وفنانين وأدباء ونجومَ مجتمع، لديها مواقع تواصل شخصية يتابعها الملايين. فما حاجة هؤلاء ومتابعيهم إلى وسيط بينهم. إنتفى الدور التقليدي للصحافة بفروعها كافةً، وإن كانت الورقية هي الأكثر تضرراً. فقط مَن يدرك أن عليه التحوُّل من صحافة خبر إلى صحافة تحليل ومعلومات (وهذه لها مواصفاتها ومعاييرها) قد تُكتب له الحياة، شرط أن تكون تلك التحليلات والمعلومات غير متيسرة إلا من خلالها. فما حاجة المتلقي لأخبارٍ سبقتْ الصحفَ الورقية والإلكترونية في الوصول إليه.

سوف يقول مَن هم مثلي ممن لا تزال رائحة الحبر والورق تفوح من بين أناملهم، شتّان ما بين لمس الورق ولمس الزجاج البارد للأجهزة الذكية. لكنها رؤية رومانسية بعض الشيء، لا يفيد الآن الوقوف على الأطلال ورثاء الورق، الزمن مستعجل ولا وقت للوقت، إن لم تَسِرْ معه تجاوزك وتركك حيث أنت واقفاً تندب زمنك. هي فقط كلمة وداع، لعلها مبكرة بعض الشيء، لكن لحظتها لا محال آتية. السواد الأعظم من الناس لا يعنيه أن يشتمَّ رائحة الحبر ويتحسس ملمس الورق وينصت لحفيف الصفحات. لديه صفحة واحدة بصفحات كثيرة، جهاز كمبيوتر يصغر حجمه تباعاً أو هاتف محمول يُقلِّب فيه الصفحات الافتراضية ويكتب بحبر افتراضي. من على أريكتك أنّى حللت أو ارتحلت تجول الدنيا "فاتحاً" العواصم والمدن، مستطلعاً ما يدور هنا وهناك بلا حاجة للتحرك من مكانك قيد أنملة. فالأنملة صارت في حجم كوكب، لمسة واحدة تنقلنا من قارة الى قارة، ولعلها غداً تحملنا الى أبعد من حدود الكواكب، فما هو متاحٌ اليوم لمراكز الأبحاث ووكالات الفضاء سيغدو يوماً متاحاً للجميع، إن غداً لفضائه قريب(!).

يقول المحرر العام لجريدة "البايس" أنطونيو كانيو، في معرض تبريره لإيقاف طبعتها الورقية، إن عادة شراء الصحف الورقية باتت عادة قديمة. وبالفعل فإن "البايس" ما عادت توزع أكثر من 220 ألف نسخة ورقية وهو رقم ضئيل مقارنة بعدد سكان اسبانيا الذي يفوق ال 47 مليون نسمة. فكيف يكون الحال لو ذكرنا أرقام توزيع الصحف العربية المتحوِّلة صفحات مقابر ورقية لكثرة الحروب والويلات في بلادنا المنذورة للصراعات والمِحن.

عزاء الورق أو ما تبقَّى منه أن شاشات اليوم ما كانت لِتكون لولاه. على صفحاته كتب العلماء معادلاتهم وأبحاثهم ونظرياتهم قبل أن يجعلوها حقائق ملموسة، وعلى الصفحات نفسها خطَّ الأدباء والشعراء سطور اشتياقهم ووجدهم وحنينهم. ولعله، أي الورق، يكون أكثر سعادة ببقائه شجراً وراف الخضرة والظلال في عالم يتصحّر و"يتمعدن" ويفقد كثيراً من خضرته وسائر الألوان.

العالم يتغير وتتغير معه مفاهيم كثيرة، تزول وسائط وتولد وسائط جديدة. مَن يكتفي بالرثاء والبكاء على الأطلال سوف يبقى واقفاً مكانه حتى يَصحُّ فيه قول أبي النَّواس "ما ضَرَّ لو كان جلس". أمام الصحافة الورقية أيام صعبة ومصيرية، مَن يُعاند منها سُنَّة الحياة لا بد له، كي يستمر، من ابتكار دورٍ ما لا تستطيعه التكنولوجيا الحديثة. ربما على الصحافة الورقية الراغبة في الاستمرار_وهذه مجرد فكرة بصوت عال_أن تتحول بمثابة كتاب أسبوعي يتضمن ما هو غير مُتاح في سواه، ورهاننا في مثل هذه الفكرة أن مصير الكتاب الورقي مختلف عن مصير الجريدة الورقية، وسيبقى محتفظاً بأسباب حياة لا تقتصر على عدم حاجة الورق المكتوب للكهرباء والبطارية والشاحن والنت والواي فاي، بل لأن الكتاب غير آني وغير لحظوي مثل الصحيفة، وبالتالي فإن عمره أطول، فضلاً عن أن الحبر والورق متى كانا بين دفتي كتاب صار أكثر مقدرة على إقامة علاقة مع الحواس الخمس لا فقط مع البصر، ولطالما مثَّلَ الكتاب الجديد لِعُشَّاقه رغيفاً ساخناً شهياً.

إلى أن تُعلَن وفاة الصحافة الورقية رسمياً نتمنى أن تتسع صفحاتها لِمَا يَسرُّ ويُفرِح في بلاد تتسع على صفحات واقعها مساحات الموت والخراب وتضيق فسحات العيش. وهَنا تحدي الكتابة الحقيقي: كيف تثقبُ بإزميلِ حبرٍ جدارَ اليأس المتعاظم، وكيف تغرس وردةً وسط الركام، وتُبشِّر الصابرين على جمر انتظاراتهم بأن الصبح قريب، بل كيف تُقرِّب لهم هذا الصبح أو تبتكره.