سمير يزبك..هل انتهى وجعك وتركتنا نفتّق الجروح؟

رحيل سمير يزبك حدث يُفتّق الجروح، ويُشعرنا كم نحن أيتام، فهؤلاء آباؤنا الذين بهم نقتدي، أمّا الآن انظروا إلى مهزلة أعضاء لجنة التحكيم في برامج الهُواة، يُضيّعون المتسابق ما بين عرض أزياء وآخر التسريحات، والترويج لثقافة البكاء المصطنع والخساعة عند الربح أو الخسارة وتجييش مشاعر الجماهير، بدلاً من التركيز على موهبته والعمل على صقلها والمُضي قُدماً بالعمل الجادّ، وإن كان هناك من موهبة فستتحطّم على صخرة ثقافتهم السلعيّة لا أكثر.

"حنّي حنّي يا حنونة، عيونك والله جنّنوني، مش عم بقدر إبعد عنهم، وين ما بروح بيلحقوني.."

جمال نفس سمير يزبك وحضوره الجذّاب وخصوصيّة صوته وموهبته، زادوا على جماله جمالاً.
نادراً ما يصف المُحب حبيبته بالحنونة. "سمير يزبك" صوت حنون أذاب القلوب وحرّك المشاعر، مع طلّة تمدّك بالطاقة الإيجابيّة تكلّلها إبتسامة أعمق من ساحرة. ليس غزلاً ما أقوله ولو أنه يستحقّه. كانت النّساء تتغزّلن بوسامته ورموشه السود وعيونه الملوّنة، أما الصوت فاستحقّ كل الآهات من الرجال والنّساء وذوّيقة الفن الأصيل. تلك الطلّة النبيلة أصبحت نادرة.

ليس من عادتي أن أتغنّى بشكل الفنان بل أغوص عميقاً بفنّه، لكن جمال نفس سمير يزبك وحضوره الجذّاب وخصوصيّة صوته وموهبته، زادوا على جماله جمالاً. هذا ما يفتقده من يتعب على تجميل نفسه من الخارج عبثاً ومن دون جدوى. حين نهرب من الفن الركيك في أيامنا الحاضرة، نذهب إلى الأصالة عبر الأسطوانات. تمضي لسماع الأعمال القديمة من دون تردّد أو خوف من أن تصدمك التشوّهات الخلقيّة، كما يحصل معك حين تشاهد الجديد مما أسموه ظلماً وعدواناً بالفن والفنانين، شكلاً ومضموناً وبالإجمال.  

سمير يزبك، واحد من الفنانين الأصيلين الذين جابوا العالم وغنّوا لبنان الجميل. كبّروه ليتفوّق على حجمه الجغرافي. كانوا مرآته الجميلة. أصبحت اللهجة اللبنانيّة مُنتشرة ومفهومة ومحبوبة في العالم العربي بأسره. أليس هذا دور الفن الحقيقي، قبل أن يُشوَّه في أرض العمالقة والأصوات الصدّاحة الشجيّة؟

 هُدِمَت أجمل البيوت والجبال ومعها الفن الراقي والأصالة.


في عصر الميليشيات كيف يكون الوضع أرقى؟

في عصر الميليشيات كيف يكون الوضع أرقى؟
"دقي دقي يا ربابا دقي ع فراق الحبابة، بعد ما راحوا وغابوا ورتّوا لقلبي العذابَ.." ووقعت الحرب اللبنانيّة وكان العذاب على المواطنين والوطن، وانقطاع وهجرة لفنانين أصيلين كُثر. حلّت الفوضى وبدأ يتراجع المستوى الفني، وبعد الحرب ومع النهضة العُمرانية، وكثير من التشويه لشكل البلد الجمالي، وهدم أجمل المباني التراثيّة، تراجع الفن وساهمت في تشويهه مافيات الإنتاج. أنقذ البعض أنفسهم بإنتاج خاص أو متواضع ليستمرّوا ويُبدعوا، وانزوى آخرون من أهل الفن الجميل، وأصبحوا تاريخاً حيّاً وإرثاً يتجاهله القيّمون على البلد، ففي عصر الميليشيات سيكون غريباً أن يكون الوضع أرقى من ذلك. سافر سمير يزبك وغنّى لبنان وغنّى الأصالة كما فعل زملاؤه الأصيلون، وديع الصافي، صباح، سميرة توفيق، فيروز والرحابنة وغيرهم، وصدح صوته ماسِحاً عن وجه لبنان كل التشوّهات التي أصابته. حنّ المُغترب لتراب الوطن وجماله المنقول له برقّي ورِفعة.

عَلَم من أعلام الوطن يرحل من دون أن يُسمّى شارع باسمه، أو طابع بريدي تزيّنه صورته، أو تسأل جهة مسؤولة، كيف كان يعيش هذا الفنان الذي توقّف عن الغناء، بسبب عمليّة جراحيّة أُجريت له في حنجرته. كان يسكن بيتاً متواضعاً مستوراً، بالتأكيد لم يكن يتّكل على مردود أعماله والملكيّة الفكريّة أو الفنيّة غير المحميّة في بلادنا المنهوبة أصلاً. من حقّه علينا أن نقول ما نقوله، رغم أن الأوان قد فات.

كيف تصف الصّوت؟

كان صمت سمير مُرتفعاً، ومكانه لم يملأه أحد على مرّ السنين الطويلة.
النظام الحالي إنتهت فُرَصه، ويجب إنقاذ ما تبقّى 

بإمكانك أن تردّد القصيدة وتُطلع الناس على جمالها، لكن كيف تصف الصوت. صوت يشبه الطّبيعة، عصافيرها لا تحتاج إلى مذياع. كنهر يتدفّق ويرتطم موجُهُ بصخرة باردة تُنعش عطشاناً. كمتصوّف يُناجي ربّه في أعلى جبل، يُناجي الجمال والحبيبة، يرنّ يرن "..وخللي عينيكِ تسمحلي، كون مطرح مَ بتكوني.."

الفن هو ما يُنعشك، ما يرفع صوت غضبك، ألمك، وحتى صمتك.. كان صمت سمير مُرتفعاً، ومكانه لم يملأه أحد على مرّ السنين الطويلة. هذه هي الجواهر النادرة. هل سيُحافظ المعنيّون على أرشيف سمير يزبك، ويبحثون عن كل ما يخصّه من أغانٍ ومسرحيّات ومُقابلات وغيرها؟ كَلَّ اللّسان عن المطالبة بما هو حقّ لنا، ولا زالت الأمور وأحوال الفنانين والفن الأصيل تزداد سوءاً.  فلبنان ليس بلد الكبّة والتبّولة والنسوان الحلوة فحسب، فتراثه الفني يجب أن يُحافَظ عليه، وذلك حين يتغيّر النّظام الحالي برمّته، لن نطلب منه ما لا قُدرة له على استيعابه وتحقيقه، فقد انتهت فُرَصه، وعلينا أن ندعو الخالق، أن يَسلم ما بقي من ثروات، رغم ما بيع وما سُرِق وما تبعثر هنا وهناك. هل سنقدر على محاكمة كل من تهاون أو ساهم بشكل ٍمُباشر أو غير مُباشر، في  تشويه كل ما هو حضاري في لبنان؟ أضعف الإيمان أن يرحلوا لننجو بما تبقّى، وما أُتلف واندثر وتبعثر ليس بالقليل. 

سمير يزبك هل انتهى وجعك وتركتنا نفتّق الجروح؟

هل انتهى وجعك سمير يزبك، وتركتنا لوحدنا نُكمل الطريق تنخُر عظامنا الأشواك؟
رحيل سمير يزبك حدث يُفتّق الجروح، ويُشعرنا كم نحن أيتام، فهؤلاء آباؤنا الذين بهم نقتدي، أمّا الآن انظروا إلى مهزلة أعضاء لجنة التحكيم في برامج الهُواة، يُضيّعون المتسابق ما بين عرض أزياء وآخر التسريحات، والترويج لثقافة البكاء المصطنع والخساعة عند الربح أو الخسارة وتجييش مشاعر الجماهير، بدلاً من التركيز على موهبته والعمل على صقلها والمُضي قُدماً بالعمل الجادّ، وإن كان هناك من موهبة فستتحطّم على صخرة ثقافتهم السلعيّة لا أكثر.

كان سمير يزبك صامتاً، وغيره من زملائه، فوسائل الإعلام غير مفتوحة لهم، وإلا لسنحت لهم الفرصة ربما بإبداء الرأي وتوجيه البوصلة إلى النّقطة الأصحّ، أما التلفزيون الأب (تلفزيون لبنان) فمحكوم عليه بالموت السريري.

هل انتهى وجعك سمير يزبك، وتركتنا لوحدنا نُكمل الطريق تنخُر عظامنا الأشواك؟ هكذا نودّعك بكل هذه الهموم ونقول لك: السّلام لروحك.       

آخر صوره شاهدتها هي لوحة فعلاً، رجل وسيم ببدلة سوداء وشعر يهلّ بياضه، وابتسامة صامتة.