إيقاع هافانا السحري

حين تسافر إلى كوبا، فأنت تتجه من نصف الكرة الأرضية إلى نصفها الآخر حرفيا. ومع المسافات، تعبر أيضاً إلى زمن آخر. كأنك اشتريت بطاقة سفر عبر لعبة زمنية كالتي كانت تدهشنا في الأفلام صغاراً.

  • إيقاع هافانا السحري
    السيارات القديمة تزهو بأغرب الالوان كالزهري والبنفسجي فتبدو كأنها قادمة للتو من فيلم سينمائي من عقد الستينيات.

الخروج إلى  هافانا هو انغماس في تفاصيل مدينة قديمة تحافظ بأناقة على شبابها الجميل. الأشجار التي تتوسط الشوارع، كل الشوارع، تمنح الفيء واللون وأسرار الطيور لمن يستمع. اما السيارات القديمة التي تزهو بأغرب الالوان كالزهري والبنفسجي فتبدو كأنها قادمة للتو من فيلم سينمائي من عقد الستينيات. بيوت العاصمة الكوبية ملونة وجلها مبني على طراز المعمار الاسباني حيث الاسقف العالية واقواس الشرفات والنباتات التي تلد ألف زهرة وألف لون لتمنح الناظر شعوراً فورياً بالبهجة.   على كل شرفة كرسي هزاز او ارجوحة صغيرة. الاسترخاء هنا ثقافة حياة، في العصارى ستجد الجيران مجتمعين في احد بيوت الحي ليتبادلوا حديثاً مصحوباً بالضحكات والمشروبات الباردة. لافت ان لا صراخ ولا انفعال ولا عصبية في احاديث الناس ولا سلبية في تواصلهم. لغة الجسد مرتاحة بشكل عام ومسترخية. ربما هو التواصل ببعده الانساني المباشر والبديهي ما يجعل الناس على هذا المستوى من الود والحميمية. هنا تشعر بأنك لست غريبا فورا، برغم حاجز اللغة، و لكن الحركات وتعابير الوجوه وما تقوله العيون يغني عن كورسات تعلم الاسبانية، للمحبة ترجمة موحدة عالمياً لا تحتاج للمعاجم ومعاني الكلمات.   الاطفال يعيشون طفولتهم هنا، لا ايباد ولا كمبيوترات، عجلات والعاب على الارض بالطباشير وركض حر وضحكات صحية تملأ الفضاءات. للاطفال طفولة حقيقة، ذكرتني بالفتاة التي كنتها قبل نحو ثلاثين عاماً في مدينة صغيرة على البحر بتقاليد الصيف والسباحة ومخيمات الكشاف، تماماً كما يجدر بكل الاطفال ان يعيشوا هذه المرحلة الاساسية من التكون. الشباب يلعبون الموسيقى على زوايا الشوارع ويرقصون، ألحانهم تتصاعد مع بدء غروب الشمس ومع تقدم ساعات الليل، تلتهب الاجساد النضرة بالحركة لمواكبة سرعة الايقاع فيحلو السهر في شارع الرؤساء ويضيء الليل بالابتسامات.   الكبار في كل وقت يتواصلون، فلا شاشات في ايديهم تلهيهم عن الكلام. ربما محدودية توافر الانترنت واستعماله في الفنادق ومراكز التسوق الكبرى تبقي على هذا الجانب من التجربة الانسانية دافئاً كما لم نعد نذكره نحن الذين باتت الاجهزة الذكية (هل هي ذكية حقاً؟) جزءاً من تركيبة ايدينا. قيل لي ان اللباس في كوبا بسيط ورأيت كيف البساطة تصبح توجهاً جمالياً قائما بحد ذاته.  فمع كل التفاصيل التي تعج بها شوارع المدينة، بهرجة اللباس قد تكون امراً مبالغاً فيه ومنفراً للعين التي تعتاد الراحة هنا.   هافانا هادئة. صخب الموسيقى في احيائها القديمة المصنفة جزءا من التراث العالمي من قبل اليونيسكو هو اعلى الاصوات التي قد تسمع هنا، ليلا ونهارا. اما حكايات الناس بلغاتهم العديدة التي تملأ فضاءات الامكنة وامواج الكاريبي التي تتهادى حتى تصل الى اعتاب كورنيش الماليكون الشهير فيها، فسيمفونية عذبة تأسر السمع وتجعلك تتساءل عما اذا كنت مستعدا للعودة عن كل هذا الهدوء.   عجوزان ابيضا الشعر في سيارة حديثة يتحدثان بينما يشير العداد الضوئي الى الثواني المتبقية حتى يتغير لون اشارة السير الى الاخضر. مشهد دال ومعبر جدا عما هي كوبا. بلد تسجل فيها معدلات متوسط الحياة عالية مقارنة بالعديد من دول العالم ( 78 عاما هو متوسط الحياة  هنا بثمانين عاما للنساء وستة وسبعين للرجال) ومع ذلك تبدو كوبا شابة بلا تكلف. هافانا، عاصمتها الساحرة، ناضجة وجميلة بلا محاولات تجميل مقحمة. هذه بلاد واثقة مما تتكئ عليه ومتقدة بالامل بغد يستحقه ناسها. هنا يلتقي زمنان كل يوم وكل لحظة. زمن يمضي بهدوء الى الذاكرة واخر يقبل مع التغييرات التي اقرتها السلطات قبل نحو خمسة اعوام خلال المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الحاكم. اصلاحات اقتصادية وسياسية  وسماح باستيراد مواد محددة وفتح شركات لازمة ليعيش الكوبيون زمنهم بتوقيت العالم الجديد المتغير سريعا. هذه الاصلاحات ومن ضمنها تلك المتعلقة بالقرار التاريخي تطبيع العلاقات مع واشنطن، اضافة الى رفع العقوبات الاوروبية عن كوبا تدريجيا منذ بضع سنوات،  كلها تجعل البلاد تخطو الى غدها بثقة ان ناسها الودودين الطيبين دائمي الابتسام يستحقون ان يعرفهم العالم كما هم، اعراق متعددة وابتسامات دائمة وبساطة ورضا بكل حال والف الف طريقة للتعبير عن المودة والمحبة وقلبهم فتي ومحب واخضر، كما طبيعة بلادهم التي تزهر وتورق وتبرعم كل لحظة اسباباً للفرح.