ولنا ماض ٍيُحاصرنا

لي موت لا يجيء، وفي كل ليل أعلّق جسدي على غصن، وفي كل صباح ينزل ويلمّع أحذيته.. ومن جديد يمضي... من جديد يمضي.

 "ولنا ماض، يحاصرنا مثل سياج طفولتنا الخشبي"

منكّبون على عتبات الحزن القاتِم في أعيننا، منكّبون على النبع الأسود، نبع من ماء وليس بماء، منكّبون على نبع متخثّر، مثل الدم أو مثل النفط. منكّبون وعطشى، ولنا أجفان تتهدّل فوق الدنيا مثل رداء يسحب كل الأشواك وراءه.

ولنا ماض، يحاصرنا مثل سياج طفولتنا الخشبي، لنا خطونا الجواب، لنا يأسنا ونحن أطفال منبوذون حتى من مراعي الرب، أطفال يحومون حول مراعي الرب وينشجون، ولم يفتح لنا أحد، وحول أظافرنا أخذ الشحم الأسود يترسّب، حول أعيننا أخذ الحزن الأسود يترسّب، وعلى حواف القلب كان هناك التعب القاتم، التعب القائم، تعب الوديان، تعب أعماقها.. على الحواف كان الكثير منه.

ولنا أصدقاء يغيبون. لنا أصدقاء لا يدل الشروق الطريق نحو قلوبهم. لنا أصدقاء ينطفئون مثل الغروب، بأسى الغروب ذاته. ويهبط دمع خجل فوق أهدابنا ويخفي نفسه حين يشعّ الضوء عليه أو حين يلاحظه أحد. ثم يغيبون، وثم نغيب.. ونهمس بانطفاء: لا نريد أحداً.. نحفر في الأرض عميقاً ونرمي أجساد الصحب المتعبة. لا نريد أحداً، والأصدقاء، ليغيب الأصدقاء. ليسوا أول أحزاننا، ليغيبوا، ليسوا أول خيباتنا، ليغيبوا.. ومن دون شواهد، نرمي بعض الرفش وبعض الرمل وبعض الدمع المتسرب.. كأنه دفن.. ونقول: لا نريد أحداً.

من الرماد إلى الرماد، من التعب يارب التعب، إليه. من الطرق الموحشة إلى طرق أكثر وحشة، من أطفال على جوانب الطرق يرتجفون ويرتجفون، ومن يجرؤ يا كل الآلهة التي تعتم دنياها عليهم، وتومض على الأطفال المذهّبين، الأطفال السعداء وأيديهم في أيدي آبائهم. مَن يجرؤ يا كل السعداء، أن يتطلّع نحو عيونهم؟

ولنا بعض الأنس في الليل، حين يشاركنا شخص مثلنا، وحشة التشرّد، لنا بعض الأنس حين يحمل الرصيف شخصين باردين أن يصيرا واحداً، ويتشاركان بصمت نفس الغطاء.

صمت طويل، وحياة تآكلت على أعتاب الطفولة، ونحن غير حزانى، لا تخطئوا الظن. نحن أبناء الخيال، وفي خيالاتنا، لنا مصابيح لا تنطفئ، ولنا آباء يغنّون للحزن في قلوبنا حتى ينام، ويفردون على جسده الأغطية. ولنا أبواب في خيالاتنا، أبواب يطرقها الحزن ليدخل، فننشه، أو لا نفعل.. قد ندعوه إلى مأدبة فيقبل باستحياء، وباستحياء آخر سوف يغادر.

لنا عالم، تكون العتمة فيه شيئاً آخر، نكون أحداً ويكون الحزن أحداً آخر غيرنا. لنا عالم لا تستمد الدنيا سوداها من عتمتنا، ولا يشير الناس نحو أجسادنا الهشّة ويسمّون أحزانهم.

 ولنا آباء، لنا يا رب آباء لا نتذكّرهم وننكمش من شدّة الخوف، لنا آباء نعود إليهم مثل الصلاة، نردّد ذكراهم متعبين وخائفين، فنطمئن. لنا آباء يزوروننا في أحلامنا كل حين، ولا نجزع. ولنا، في أحلامنا، عالم لا ينثر يتمه بالمذراة فوق قلوبنا. أي تعب نصفه، يا هذا العالم؟ وحتى إن آباءنا، حين تمر ذكراهم في منامنا نجزع، وفي الصحو، نجزع أيضاً.

ولي قلبي الذي لا يدخله الداخل منكفئاً، أو منكسراً، لي قلبي الذي يموت ويحتضر ويجّن ويبكي ويعتصر شياطين وليالٍ وجنيّات. لكن الداخل، أي داخل، لا يدخله إلا محتفلاً والنيران تضاء فيه، ويتحلّق حولها موتى ويرقصون. لكن قلبي مقبرة، يدفن فيها الناس أحزانهم السائبة، ومن دون مراسم يطلقون النار على رؤوس حياتهم، حين تتكسّر أقدامها في السباق. ومن دون ندم، يتركونها خلفهم تنزف، يتكرونها لي، أنا أبكيها ومن دون ندم يرحلون.

ولي يأسي، أتسلّقه درجاً درجاً، وأرى كل حبل مشنقة وكل صديق سكيناً غائراً، أرى كل شائب أبي. وتلمع عيونه مثل ذئب، وأبكي، كأني جرو ممسوخ يحنّ لاحتضان الذئب، شبيهه، ويبقى على بعد، لكن للذئب مخالب يغرسها في خاصرتي. وللأب المخلب ذاته. ولي ناري، لي عصاي الطويلة، وأتسلّل حانقاً في الليل نحو سرير الأب العجوز، وببندقيته ذاتها، أفجّر رأسه.. وأبكي.

لكن ذئاب الحيّ الميتة في أسرّتها، أورثتنا شقاء حياتها، وبالرغم منّا، ها نحن نرتديها. ها هي فراؤهم التي نبتت من أجسادهم، معاطف متدلية على أجسادنا.

ولي طريق طويل من العيش، طريق سوف أمشيه، طريق لا أعرف كيف سأمشيه. ولي رفقة أدفعها عن حواف الطريق أو أنحرها في عتمة الليل، لي هذا الألم الذي يغرس في قلوبهم سكينه، وفي قلبي يغرسها. لي ألمي يتمشّى مثل الخيل في الدم، في بحور من دم.

لي موت لا يجيء، وفي كل ليل أعلّق جسدي على غصن، وفي كل صباح ينزل ويلمّع أحذيته.. ومن جديد يمضي... من جديد يمضي.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]