رفعت سلام ... أو قصيدة النثر المُتمرّدة

هو قامة من قامات الشعر العربي المعاصر. نشر أولى قصائده سنة 1969 بمجلة الأديب البيروتية ومن مؤسّسي جماعة إضاءة 77، حصل على جائزة كفافي الشعر سنة 1993. من أعماله المتعدّدة في الشعر "وردة الفوضى الجميلة" سنة 1987؛ "حجر يطفو على الماء" سنة 2008 وعشرات المجموعات الشعرية الأخرى . إهتم بالدراسات الأدبية كما ترجم أعمالاً أدبية هامة منها "غيمة في بنطلون" لتشايكوفسكي سنة 1998. سلام حلّ ضيفاً على الصفحة الثقافية في الميادين نت وهنا نص الحوار الذي أجراه معه عبد الوهاب الملوح.

هكذا، يتحوّل الاستثناء السابق - مع تصاعد الجيل - إلى القاعدة العامة، والهامش المُحاصر إلى المتن. صوب الحرية، وانفتاح القصيدة على مصاريعها، بلا حدود او أسلاك شائكة.. مرةً واحدةً وأبداً". الآن، وبعد أكثر من عشرين عاماً بعد ما قلت هذه الإفادة في شأن قصيدة النثر، كيف ترون منجزها الإبداعي؟ وهل حقّقت تراكماً نوعيّاً بما يحوّلها إلى جنس أدبي مستقل؟

منذ منتصف التسعينيات، بدأ زمن هيمنة قصيدة النثر العربية في المشهد الشعري العربي. والآن، هي القصيدة المُهيمنة، التي دفعت بأشكال الكتابة الشعرية الأخرى إلى الهوامش. لم تعد هناك محرّمات- تقريباً- في الكتابة الشعرية. هكذا انفتحت الحدود على مصاريعها، بعد اندحار "الحرس القديم" للقصيدة "التفعيلية"، وقبلها العمودية، نقاداً وشعراء.

وانفتحت آفاقٌ على مصاريعها، ولم تعد هناك أية أسلاك شائكة، أو خطوط حمراء. آفاق تغري بالمغامرة إلى حد الجنون، والقفز إلى المهاوي التي لم يعرفها الشعر العربي من قبل. ربما كانت الفرصة الأولى- في تاريخ الشعر العربي- التي تنفتح فيها حرية "مطلقة" أمام الشاعر، بعد قرون من القيود والممنوعات، والأوامر والنواهي، ليمارس فيها ما لم يخطر بالبال من مغامرة وجنون واكتشافات للمجاهيل الخيالية.

لكن من دخلوا إلى الساحة كانوا "أعقل" بكثير من رامبو ولوتريامون، وبقية القافلة المعروفة. فهم لم يسعوا إلى كل هذه الحرية، ولم يدفعوا ثمناً لها؛ ربما كانت كل هذه الحرية أكثر بكثير من احتياجاتهم الإبداعية والثقافية، عموماً. بل ربما اعتبروها- بداخلهم- خطراً يهدّدهم بالضياع؛ ربما.. ربما كانوا يريدون حرية "صغيرة"، محدودة، لا تلقي عليهم أعباء باهظة، ومسؤوليات مجهولة لا يريدونها. لقد صمدوا أمام إغواء وإغراء المغامرة وشهوة اكتشاف ما لا عينٌ من قبل رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

هكذا، قدّموا قصيدة "أليفة"، منمّقة، لا تغامر، ولا تقامر، ولا تتهوّر. قصيدة "منزلية"، يمكن قراءتها قبل النوم، فلا تثير الإزعاج والقلق، وتأتي بالكوابيس؛ بل ربما تجعلك تنزلق إلى النوم بيُسر أكبر..

هكذا تحقّقت "الهيمنة" بفعل تراكم وزخم "كمِّي"، لا "كيفِي".

فما أكثر النصوص المُنتسبة إلى "قصيدة النثر"؛ وما أقل الإبداع؛ ذلك الإبداع الذي يعني المغايرة، والتفرّد، ونفي التكرار وإعادة الإنتاج والنسخ، والتقليد المُنجرف مع الموجة الكاسحة؛ يعني أن تكتب نصّك الشعري المُنفرد، بلا نمطية.  وتحوّلت "قصيدة النثر" العربية إلى "نمط" يُعاد إنتاجه مراراً وتكراراً (فيفقد "الإبداع" ماهيته)؛ "نمط" ذي مواصفات معروفة، مسبقًا، وقابلة لـ"التصنيع" في نسخ مُتكاثرة، بأسماء مختلفة.  

ولا أنسى بالطبع أن هناك استثناءات، تؤكّد القاعدة؛ تلك الأصوات النادرة التي أفلتت من الموجة، واستقلّت بفرادة صوتها الشعري، وكشوفها الخاصة.

مقابل هذا التراكم الإبداعي المتنوّع للقصيدة بالنثر، لم تكن هناك متابعة نقدية تنظيرية تدرسها وتبحث في تطوّراتها وخصائصها وميزاتها. فباستثناء الدراسة المُعمّقة التي أنجزها الدكتور عز الدين المناصرة، والجهد المتواصل الذي يقوم به الدكتور شربل داغر، لا نكاد نعثر على دراسات جادّة ومُعمّقة في هذا الشأن؛ ناهيك أن برامج التدريس في الكليات الأدبية العربية نكاد تغيبها تماماً، إن لم تبخس قيمتها الإبداعية. إلى ماذا تعزون هذا الإهمال؟

 

لقد تطوّرت القصيدة العربية الحديثة (في النصف الثاني من القرن العشرين) بأسرع بكثير من تطوّر الوعي العام، وخاصةً الوعي الأدبي والثقافي. ووقعت معركة التطوّر الشرسة، الدامية، في حدود تلك الدائرة الضيّقة من الشعراء والنقّاد، ومجلاتهم ومجالسهم وكتبهم في العواصم المختلفة. وخارج هذه الدائرة الضيّقة، ظلّ الوعي العام يعتبر أن ماهية القصيدة تكمن في الوزن والقافية (فلا يمكن شطب خمسة عشر قرناً من هذه الماهية بجرّة قلم، أو بمقال أو قصيدة جديدة، أو حتى بمعركة بين أدباء).

ولم تدخل قصائد صلاح عبدالصبور أقسام اللغة العربية، ورسائل الماجستير والدكتوراه- في الجامعات المصرية- طوال حياته. فهي أقسام- بشكل عام- محافظة، تقليدية، تقتات على التراث الأدبي في عصر التدوين، وتتبنّى مقولات النقّاد العرب القدامَى (على بُعد ثلاثة عشر قرناً في الوراء). ذلك ما جعل أساتذة الأدب في الجامعات "حائط صدّ" لمحاولات التطوير الشعرية، مُستندةً إلى ذلك "الوعي العام" المفصول عن وعي "النخبة"، وعن التطوّرات الثقافية والإبداعية، في مختلف الفنون. هذه الفجوة تستثمرها- وتستند إليها- غالبية أساتذة الأدب في الجامعات، من ذوي التوجّهات المحافظة، ليصدّوا رياح التغيير في المناهج الدراسية المتعلّقة بالشعر.. حتى الآن.

فمؤسّسات الدولة- التعليمية والثقافية- لدينا مسؤولة عن المحافظة على استقرار واستمرار النظام في مجالها (بقدر ما وزارة الداخلية مسؤولة عن المحافظة على أمن واستقرار النظام السياسي، واعتبار "المعارضة" خوَنة وهادمين للنظام). وهم يضعون- في رئاسة هذه المؤسّسات- التقليديين، المأمونين، الذين يفرضون وعيهم البائس على الوعي الثقافي والتعليمي العام؛ من قبيل ما تفعله "لجنة الشعر"، في المجلس الأعلى للثقافة (في مصر)، التي لا تسمح بمنح جائزة الدولة لشاعر يكتب قصيدة النثر، فيما سمحت لرئيسها بأن يحصل على جائزة "ثمينة" تمنحها اللجنة.

لكن جيلاً جديداً من الأكاديميين المصريين يخترق حاليّاً حاجز المنع، في الجامعات المختلفة، ويُدخل شعراء الراهن المصري إلى مجال الدراسات الأكاديمية؛ وأظنّه ما يحدث أيضاً في الجامعات المغربية.

لقد تواصلت القصيدة العمودية لخمسة عشر قرناً من الأدب والثقافة العربيتين، ولم تتزحزح إلا في الخمسينات العربية القريبة. وقبل أن تدخل قصيدة "التفعيلة" الوعي العام باعتبارها تطويراً ونقلةً ما في القصيدة العربية، انبثقت قصيدة النثر؛ قبل أن يستوعب القرّاء (ومن بينهم الأكاديميون) أهمية وضرورات ما جرى.

فهو تطوّر مُربِك للوعي العام. لكن الأمور أظنّها بدأت تنجلي في السنوات القليلة الماضية.

 

تنوّعت التجارب وتكاثرت في كتابة القصيدة بالنثر؛ فهناك تجربة عبد القادر الجنابي، وتجربة وديع سعادة، وتجربة أمجد ناصر، وتجربة رفعت سلام، وتجربة عباس بيضون. وهناك معالجة أخرى تميّز بها بول شاوول وصلاح فايق الخ.. هل ترون أن هذا التنوّع أفاد القصيدة بالنثر، أم أنه عبّر عن عُطب داخلها، بحيث حال دون تميّزها بخصائص متفرّدة عن بقية أشكال كتابة الشعر؟

 

التنوّع - في ظنّي - خصيصةٌ أساسية لقصيدة النثر. فهي قصيدة يُفترض أنها مُضادّة للنمطية، والتوحيد القياسي، والمواصفات الثابتة. ولم يسعَ مؤسّسوها الأوائل - في القرن التاسع عشر الفرنسي - إلى تأسيس صياغة موحّدة؛ بل كان كلٌّ منهم يقدّم تجربته الخصوصية، بتفرّدها الشعري، و"يخترع" أفقه الخاص، المُغاير.

فالمُغايرة أساس جوهري، واللانمطية هي النتيجة الجوهرية. إنها "التعدّدية"- والتمايز- في أبهى تجليّاتها الإبداعية. ذلك أن نفيها يوقع القصيدة في النمطية، والتكرار، والنمذجة.. وهو ما تعاني منه القصيدة حاليّاً في مئات- إن لم يكن آلاف - النصوص المُتشابهة التي نُطالعها في الفيس بوك. وعلى النقّاد - إن أرادوا - أن يبحثوا في ما هو مشترك من سمات هذه التجارب "المُتمايزة"، المتعدّدة، انطلاقاً من الوعي بتعدّديتها وتمايزها.. من دون محاولة طمس هذه التعدّدية، أو نفيها.

إلى أيّ حد يمكن أن تساعد الترجمة في تجويد التجربة الذاتية في كتابة القصيدة بالنثر؟

نعم، تساعد في رفع وتدقيق الوعي بالكتابة الشعرية عموماً، وبقصيدة النثر، وخاصةً إذا ما كان المُترجم الشاعر لا يعبر على الكلمات عبوراً مُتعجّلاً، كأنه في مهمة عاجلة. فقد ساعدت على تأكيد اختياراتي- توجّهاتي البدئية، والإجابة على كثير من الأسئلة المُتردّدة بداخلي. فأن تترجم بوشكين وليرمونتوف وماياكوفسكي لابد من أن يعني لك أن طريق الشعر ليس موحّداً، ذا أفق واحد؛ بل يرسخ بداخلك فكرة "تعدّدية" الآفاق الشعرية، ونفي الأحادية؛ فيما المناخ الواقعي حولك يموج بالإدانة والتعريض والنفي.

وعمليّاً، في عملية الترجمة، تجد نفسك أمام عدّة صياغات مُحتملة للصورة / الجملة الشعرية. تتأمّلها، وتوازن بينها في علاقتها بالأصل الأجنبي، ثم يقع- في النهاية- اختيارك على إحداها، لتتّخذ شكلاً مكتوباً. فإلى أين تذهب بقية الصياغات المُتنحية، التي أمعنت التفكير فيها؟ مؤكَّد أنها لا تذهب هباءً. تسكن وعيك غير المنظور، صورةً وراء أخرى؛ آلاف الصوَر التي كان لها- ربما- أن تغيّر توجّه القصيدة، أو بعضاً من شعريتها.

وستقرأ القصيدة / القصائد، من بعد كقارئ، لكنك لن تعثر على تلك الصوَر الكثيرة، الغزيرة، التي نُحيت عن الصفحة، بعد ارتباك وتأمّل وإمعان نظر.. إنها ثروة لا تخطر ببال؛ هي التعويض "الشعري" غير المنظور عن العناء والمكابدة أمام النصوص الشعرية الأجنبية. وهو ثراء شعري ليس بالقليل.

هل لكم لو تفضّلتم بتحديد خصائص قصيدة النثر، حسب تجربتكم فيها، وتصوّركم العام لها، خاصةً وقد خضتم تجارب ترجمتها من لغات متعدّدة؟

لا خصائص نهائية، مُطلقة، لقصيدة النثر. فهي ليست "تقنية" أو "نمطاً"؛ ليست "شكلاً" في ذاته. فهي- في جوهرها- أفق للكتابة الشعرية، مفتوح على مصاريعه للمغامرة وفرادة الصوت الشعري؛ أفق يمثل الحرية "المُطلقة"، نعم "المُطلقة"، تلك الصفة التي لا يخشاها- في العادة- سوى رجال الشرطة والأمن العام. إنها- هذه الحرية- نفيٌ للتشابه والنمطية وإعادة الإنتاج.

والخصائص ثبات ونهائية ونمطية؛ هي رضوخ- أو رضى- بقضبان قفص سابق التجهيز والتصنيع، سقفه يحجب السماء، وجدرانه تمنع الرؤية والرؤيا. لقد أسّس بودلير- في "سأم باريس"- قصيدته هو، من دون التزام بما كتبه الويزيوس برتران في "جاسبار الليلي"؛ وجاء رامبو ليفتح أفقه الشعري الخاص به (في "فصل في الجحيم" و"إشراقات")، من دون التزام بما كتبه بودلير (المُعاصِر له).

وهكذا فعل مالارميه، التالي لهما زمنيّاً. فكل منهم فتح- أو اكتشف- أفقاً خاصّاً به، ولم يستول على أفق الشاعر السابق عليه، أو يقلّده، أو يُعيد إنتاجه. ولم يدَّعِ أحدٌ منهم أن ما كتبه هو نهاية العالم، أو الحقيقة المُطلقة في قصيدة النثر، أو الشعر عامةً. وذلك هو الدرس العظيم، الذي يتغافل عنه الكثيرون.

خاض الكثير من شعراء القصيدة بالنثر تجربة كتابة الرواية. وقد نجح أغلبهم فيها. ما رأيكم في هكذا تجارب؟ وهل لديكم مشاريع في هذا السياق؟

في الثقافات الأخرى، لا يستدعي هذا الأمر اللغط الذي يُثار لدينا بين الحين والحين: أن يكتب شاعر الرواية، أو روائي يكتب الشعر، إلخ. فهذا حق مشروع- بلا سؤال، أو استغراب- للجميع، وخاصةً المبدعين. وما أكثر الروائيين الذين كتبوا شعراً، والشعراء الذين كتبوا الرواية (أين نضع "د. هـ. لورنس"؛ في قائمة الروائيين أمْ الشعراء؟). وهناك نصوص شعرية لبيكاسو وغيره من الفنانين التشكيليين.

أما لدينا، فثقافتنا الموروثة مُعادية- في جوهرها- للحرية، ومصادرة لها، من المنبع. والخطوط الحمراء، والأسلاك الشائكة، كثيرة؛ لا في دائرة الجنس والدين والسياسة فحسب؛ بل في ما يتخطاها من دوائر أخرى. فثمة اتفاق ضمني على أن يختار كلٌّ منا سجنه الوحيد، ولا يتقافز بين السجون! فإذا ما صدر أول كتاب لك شعريّاً، لم يعد من حقّك القفز إلى الرواية، أو المسرح (إلا إذا كان المسرح الشعري).

والعكس صحيح. فنحن- في ثقافتنا العربية- مُغرمون بالفصل بين الإبداعات والمُبدعين. وهو ما ينتج حاليّاً أدباء لا علاقة لهم بالفن التشكيلي والموسيقى، وفنانين لا علاقة لهم بالشعر، وروائيين لا يهتمون إلا بتقنيات الكتابة الروائية، وسينمائيين يقرأون الرواية فقط للبحث عن موضوع ربما يستخدمونه في فيلم قادم.

أما الشعر، فدائماً ما يسخرون منه ومن شعرائه في أفلامهم. مبدعون جزرٌ معزولة عن بعضها البعض. والتجارب العربية الناجحة في الرواية لشعراء هي إثراء- لاشك فيه- للتجربة الإبداعية والثقافية العربية. ولعلّي ألاحظ في ما قرأته من هذه التجارب (وهو قليل) نفياً للثرثرة، والرطانة، والبلادة اللغوية، ودرجة واضحة من الكثافة والتدقيق اللائقين بشاعر حقّاً.. أما بالنسبة لي، فلم يخطر الأمر ببالي: أن أكتب عملاً روائيّاً. ولا أدري.. لماذا؟

كيف ترون مستقبل الشعر اليوم؟

لا يمكن لأحد أن يتنبّأ بمستقبل إبداعٍ ما. لكن ظنّي أن ذلك النمط "المنزلي" من قصيدة النثر- الذي يملأ السهل والجبل في الفيس بوك وبعض الصفحات الأدبية- لابد من أن ينتهي بملل أصحابه أنفسهم منه.. فلابد لهذا النمط من الانتهاء.. ولابد من أن الشعراء الجُدُد سيكتشفون أهمية أن ينفرد كلٌّ منهم بصوته الشعري الخاص، لا ذلك الصوت "العام" الموزّع دمه بين القبائل الشعرية.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]