رحلوا في شبابهم ... شعراء ما زالوا بيننا!

من بينهم أبو القاسم الشابي.. شعراء عانوا من المرض ورحلوا في شبابهم، لكن قصائدهم تحفظها الأجيال ... من هم؟

رياض الصالح حسين... قِيَم إنسانية لا تزول

  • رحلوا في شبابهم ... شعراء ما زالوا بيننا!
    رياض الصالح حسين

اشترك عدد من الشعراء الذي رحلوا عن دنيانا في ريعان شبابهم، في ملمحين أساسيين يناسبان مرورهم الخفيف على عالمنا، أولهما: المُغايرة والاختلاف، وثانيهما الانحياز لكل ما هو إنساني والتعالي على أية قضايا مؤقتة أيديولوجية أو سياسية أو غير ذلك.

ربما يجد مَن يتمشّى في شوارع سوريا، اليوم، بعض أشعار الشاعر السوري الراحل رياض الصالح حسين قد كُتِبَت على إحدى الحوائط، ما يدلّ على احتفاظ الشباب من المُبدعين وغير المُبدعين بصداقاتٍ قوية مع أعمال وقصائد الشاعر الراحل، لتظل روحه الشابّة المُغامِرة تتواصل مع مَن يشبهها، حتى بعد وفاته بما يزيد عن ثلاثين عاماً، وليظلوا هم إلى الآن يدشنّون له الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، ويستشهدون بـه.

فقد انحازت نصوص الشاعر السوري الذي رحل عن عُمر لم يتجاوز 28 عاماً، إلى قِيَم إنسانية لن تزول إلا بزوال الدنيا. رغم البساطة البادية في لغته الشعرية، وغيرها من أدواته الفنية، ورغم القبض عليه أكثر من مرة، إلا أن انحيازاته الأيديولوجية لم تطغَ على رهافة رؤاه. فلم يمت رياض الصالح حسين داخل المُعتَقل، رغم تاريخه المَرَضي الطويل منذ الصِغَر، والذي أصابه بالصَمَم، وإنما مات على إثر نوبة كلوية حادّة أصابته إثر فسخ خطيبته العراقية لخطبتهما، فور عِلمها بسفره مع إحدى عارضات الأزياء، وكان ذلك في العام 1982.

أمل دنقل ... عرّاب الشباب

  • رحلوا في شبابهم ... شعراء ما زالوا بيننا!
    أمل دنقل

في نفس الشهر الذي توفّى فيه رياض الصالح حسين، مايو/ أيار، من العام التالي 1983، يتوفّى الشاعر المصري أمل دنقل في الغرفة (8) في معهد الأورام، عن عُمرٍ لم يتجاوز 43 عاماً، مُحقّقاً حضوراً بين أجيال مختلفة من المُبدعين والقرّاء. دنقل انحاز لكل ما هو إنساني محض، فتفوّق حضوره على حضور صلاح عبد الصبور، رغم أن الأخير كان يفوق دنقل من حيث الريادة التاريخية وثقافته الإنكليزية الواسعة، وريادته للمسرح الشعري التفعيلي. كما تفوّق حضور أمل على حضور أحمد عبد المعطي حجازي لدى الأجيال التالية، رغم امتداد حجازي ومعاصرته لأجيال لم ترَ أمل رأي العين.

سجّل أمل دنقل حضوره في ثورة 25 يناير إذ أن نصوصه كانت قادرة على التجدّد ذاتياً، مثل (أغنية الكعكة الحجرية) مظللة كما صاحبها لحظات اليأس والأمل والثورة، فنجد قوله حاضراً في تلك اللحظات، متجاوزاً الزمن:

دقّتِ الساعةُ القاسيهْ
وقفوا في ميادينها الجهْمةِ الخَاويهْ
واستداروا على دَرَجاتِ النُّصُبْ
شجراً من لَهَبْ
تعصفُ الريحُ بين وُريقاتِه الغضَّةِ الدانيه
فَيئِنُّ: "بلادي.. بلادي"

بقي دنقل عرّاباً لمشاعر شباب الأجيال اللاحقة عليه ورؤاهم تجاه الحياة والموت والحزن، وقيامه بتقطير المشاعر الإنسانية في ديوانه الأخير أوراق الغرفة(8)، والذي تماسّ فيه مع أسئلة كل إنسان مع الحياة والموت والزمن، فيقول في قصيدته الأشهر (الجنوبي):

أو كان الصبي الصغير أنا؟
أمْ ترى كان غيري؟
أحدق
لكن تلك الملامح ذات العذوبة
لا تنتمي الآن لي
والعيون التي تترقرق بالطيبة
الآن لا تنتمي لي
صرتُ عني غريباً
ولم يتبق من السنوات الغريبة
إلا صدى إسمي
وأسماء من أتذكّرهم -فجأة-
بين أعمدة النعي
أولئك الغامضون: رفاق صباي
يقبلون من الصمت وجهاً فوجهاً فيجتمع الشمل كل صباح
لكي نأتنس.

أبو القاسم الشابي ملخّصاً "الحياة"

  • رحلوا في شبابهم ... شعراء ما زالوا بيننا!
    أبو القاسم الشابي

لم يكن رياض الصالح حسين أو أمل دنقل من الشعراء الذين رحلوا مبكراً. فهناك مبدعون غيرهما ماتوا في ريعان الشباب، وربما اختلفوا في طرق الكتابة الإبداعية وأشكالها أو اللهجة، وكذلك في اختياراتهم بين الشعر الموزون والشعر الحر وقصيدة النثر، وفي نظرتهم للحياة التي ما كادت أن تكتفي من مكوثهم اللطيف.

فإذا عدنا إلى العام 1934، سنجد الحزن عمّ أرجاء تونس بعد رحيل الشاعر الشاب أبي القاسم الشابي، الذي أصبحت قصيدته في ما بعد "إذا الشعب يوماً أراد الحياة" هي النشيد الرسمي للبلاد.

لم يكن غريباً أن يلخِّص هذا الشاعر الذي رحل عن عُمرٍ لم يتجاوز 26 عاماً، مطالب الشعب التونسي وكل الشعوب العربية في مفردة "الحياة"، التي كانت عنده مفتاح السر وإجابة السؤال.

أقبل الشابي على الحياة في حدود طاقته رغم علمه بإصابته بمرض قلبي خطير منذ ولادته، وهو ضيق الأذنية القلبية، ما يؤدّي إلى مشكلة في دوران دمه الرئوي ومشاكل صحية خطيرة أخرى. حالته ازدادت سوءاً مع مرور السنين وضعف بنيته، وبسبب أحوال الحياة التي تقلّب فيها كذلك، إضافة إلى صدمته بموت محبوبته الصغيرة.

طلب الأطباء من الشابي الاقتصاد في المجهود، والاعتدال في حياته البدنية والفكرية، فكان يكتب الشعر، ونصحوه بعدم الزواج لكنه تزوّج. طلبوا منه الراحة، فكان يطلب دواءه من الإقامة بالمناطق الجافة، حيث قضى الشابي صيف عام 1932 في بلدة طبرقة برغم ما كان يعانيه من الألم.

وفي العام التالي اصطاف في المشروحة إحدى ضواحي قسنطينة في الجزائر وهي منطقة مرتفعة عن سطح البحر تشرف على مساحات مترامية وفيها من المناظر الخلاّبة ومن البساتين ما يجعلها متعة الحياة الدنيا، وفي الخريف عاد الشابي إلى تونس ليأخذ طريقه منها إلى توزر لقضاء الشتاء فيها.

مجدي الجابري ... إمامٌ لطريقة جديدة في شعر العامية

  • رحلوا في شبابهم ... شعراء ما زالوا بيننا!
    مجدي الجابري

أما الشاعر المصري مجدي الجابري، فلم يتصوّر في بداية حضوره إلى القاهرة أنه سيكون يوماً ما "إماماً" لطريقة كتابة في شعر العامية المصرية، مستدعياً فيها بعض آليات كتابة قصيدة النثر الفصيحة، ليصبح بذلك رائداً لقصيدة النثر بالعامية المصرية، وسيقدّم في هذا الشكل الكتابي مجموعة من الدواوين.

تبع الشاعر الذي رحل وهو يتم عامه الثامن والثلاثين، جيلان من الشعراء في الشكل الكتابي الذي رسخه. هذان الجيلان ضمّا بعضاً من رفاقه، وكذلك مَن قرّروا متابعة هذا الدرب الشعري، فأحدثا موجة قوية واجهت من الانتقاص والتسفيه أضعاف ما واجهت من التشجيع والترحيب.

ترك الجابري وراءه دواوين وكأنها تتنبّأ برحيله المُبكِر، وكأنه كان يتعامل مع الحياة بوصفها لحظة، فجاءت دواوينه "عيّل بيصطاد الحواديت"، و"بالظبط وأكنه حصل"، و"الحياة مش بروفة" وغيرها لتحمل نبوءته بمروره على الدنيا خفيفاً مُسرِعاً، مُخلّفاً بصمته الإنسانية والإبداعية. الغريب في الأمر، كما تذكر صفاء عبد المنعم، أرملة الجابري، أنه كان الولد الأول الذي نجا من وباء الحصبة التي حصدت قبله 6 أطفال تقريباً، وماتت أخته هناء التي كانت تكبره بعام ونجا هو. وظل هذا الحدث يؤلمه لمجرّد فكرة اهتمام الأسرة بالذكر وإهمال البنت المريضة معه.

كما عانى من المعتقدات والعقائد والطقوس الشعبية المتمثلة في حماية الذكر من الحسد فيُسمّى باسم بنت، ويترك شعره مرسلاً، ويرتدي ملابس البنات، ويلعب باللعبة القماش المُخصّصة للإناث، اعتقاداً من الأهل أن هذا يمثل حماية ووقاية من الحسد، خصوصاً إذا كان هذا الولد الأول الذي يعيش للأسرة بعد وفاة طابور من الأطفال.

وتجلّى هذا الأثر بشكل واضح في بعض السلوكيات غير المباشرة للجابري وارتباك الشخصية الخجولة لديه أحياناً أخرى.