أساليب السلب والنهب الصهيوني لممتلكات اللاجئين والمهجّرين الفلسطينيين

خرج العالم المتحارب في الحرب العالمية الثانية على صدمة هائلة مما اقترفت يداه من قتل وتدمير للانسانية، مثقلاً بتبعاتها، وتداعياتها التي لن تنتهي مهما طال الزمن، لكنه رسخ في ذهنه جملة من القيم التي عبر عنها بإنشاء "هيئة الأمم المتحدة"، وما اكتنزته قواعدها من قيم تحفظ حقوق الانسان بالحد الأدنى من الحياة الكريمة، والأمن، والاستقرار، وما إلى هنالك من قيم رعتها الهيئة في جوهر نشوئها، وجوهر قواعدها، ولسنا هنا في مجال تعداد ذلك.

لكن المفارقة الكبيرة كانت ما جرى في فلسطين، وكأن ما اتفق العالم عليه على مستوى كل دول العالم ومجتمعاته، استثنى وطننا الفلسطيني، فبعد ثلاث سنوات على توقف آلة الحرب العالمية عن القتل والتدمير، تصاعدت الحرب في فلسطين، وارتكب الصهاينة عشرات المجازر التي قامت بها عصاباتهم العسكرية ضد الشعب الفلسطيني، تلا ذلك الطرد القسري لأكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني من وطنه، وتدمير المئات من قراه.

 

كان العالم، افتراضاً، مقبلاً على مرحلة جديدة من طي صفحة منطق القوة الغاشمة، والظلم، والاحتلال، والقتل الجماعي على الهوية، وانتهاك حق الشعوب بالحرية والاستقلال، بيد أن وطننا كان على موعد مع الظلم، والهزيمة، وانتهاك كل الأعراف التي تقدس حق الانسان بالعيش بكرامة على أرض وطنه.

 

هكذا، وبقواعد لعبة ليست جديدة، وبموازين مختلة تماماً لصالح الحركة الصهيونية، فرضت الأخيرة عدوانيتها، وعنصريتها بأبشع تجلياتها، فاستخدمت القوة المفرطة، وعمدت إلى القتل الجماعي، والطرد القسري، والاغتصاب، وهدم البيوت، أو تفجيرها وحرقها، وبمنطق إلغاء الآخر، والمعادلة هي: "العربي الطيب، هو العربي الميت". قاعدة انسحبت عليها، من منطلق تحصيل الحاصل، كل توابع التعامل المنسجم مع المبدأ الأساس: "الغايه تبرر الوسيلة"، فطردوا، وقتلوا، وهدموا وما تبقى فقد كان  النهب، والسلب..شيء من الموروث التوراتي يسيّر العقل اللاواعي، وبإدراك، وبغير إدراك، المقولة المجلجلة من صوب السماء، "هل قتلت وورثت أيضاً؟" التي وجدت آذانا صاغية، وأيادٍ قذرة لتنفيذ المهمة.

 

الأغلبية الساحقه من الفلسطينيين الذين طردوا، وتركوا قراهم ومدنهم مرغمين بتأثير الإرهاب الصهيوني، كانوا على يقين أنهم سيعودون إلى بيوتهم، وفي غضون أيام قليلة، ولكن استمرار فصول النكبة افقدهم أملاكهم المنقولة وغير المنقولة. فقدوا بيوتهم، وأراضيهم، وممتلكاتهم الشخصية، ولكن الأهم الأهم أنهم اُبعدوا عن وطنهم، وفقدوا حقهم المعترف به بالقانون الجديد لهيئة الأمم المتحدة الناهضة بقوة بإرادة وتوافق كل دول العالم آنذاك، بالحياة بأمنها وأمانها الذي لا يوفره إلا العيش في أكناف الوطن.

 

بعد ثلاث سنوات من وضع الحرب أوزارها، تحلّ نكبة فلسطين التي افقدت اللاجئين الفلسطينيين الأغلبية الساحقة من ممتلكاتهم. 7% منها فقط عام 1947 من فلسطين البالغة مساحتها 7,78 مليون دونم، كانت بملكية يهودية، عامة أو خاصة. ولكن بعد عام 1948 سيطرت "إسرائيل" على 20,5 مليون دونم، ذلك أنه أقل من 3,5 مليون دونم 17%، كانت أراضي دولة، وأخرى بملكيه يهودية.

 

عام 1949، قدرت وزارة الزراعة الإسرائيلية أراضي اللاجئين بحوالي 80% من مساحة "إسرائيل" (حوالى 16,6 مليون دونم (المصدر كتاب نوجا كدمان "على جوانب الطريق وهامش الوعي" _ص 21 والمراجع المذكورة هناك).

 

 بيد أن بحثاً لبعض مؤسسات إسرائيلية قدرت أراضي من وصفتهم  بـ "الغائبين" (وهو الإسم المعتمد في الروايه الصهيونية_الإسرائيلية للاجئين ) ب 4,18 مليون دونم. والمعطيات التي أوردها وليد الخالدي بشكل مفصّل لكل قرية على حِدة (418 قرية )، تصل به إلى 4,13 مليون دونم (الجدول الأوّل للملحق أ) ، بينما يؤكد الدكتور سلمان أبو ستة أن مساحة أراضي العرب - البدو في منطقة النقب، تشمل أكثر من 12 مليون دونم.

 

لقد شملت عمليات الطرد القسري، الجماعي 11 مدينة، منها ست مدن عربية، و 5 مدن مختلطة، بينما يصل عدد القرى التي تم تهجير أهلها منها، إلى 531 قرية بموجب البحث الميداني الذي اعتمده الدكتور سلمان أبو ستة، ويشمل التجمعات البدوية في قضاء بئر السبع تحديداً، بالرغم من أن وليد الخالدي ذكر أن عدد القرى المهجرة يصل إلى 418 قرية، ونعتقد أن استنتاجات الدكتور أبو ستة أكثر منطقية لأنها تشمل قطاعاً سكانياً لم يلحظ بكامله في أبحاث ودراسات الآخرين.

 

وشملت العقارات غير المنقولة التي تركها اللاجئون الفلسطينيون بعد تهجيرهم القسري، منازل، ومدارس، وعيادات، ومساجد، وكنائس، ومبانٍ عامة أخرى، وفي المدن، كذلك مراكز تجارية، وبنوك، ومستوصفات، وجنائن عامة. وبموجب تقارير الوصي العام الإسرائيلي على أملاك الغائبين عام 1950، شملت أملاك اللاجئين في المدن 94 ألف منزل سكني، و9700 متجر، و 1200 مكتباً، وما قيمته 11,8 مليون باوند.

 

عشرات آلاف المباني، وأغلبها سكنية، تركها اللاجئون في القرى، وبموجب احدى التقديرات الإسرائيلية فإن العقارات غير المنقولة بملكية اللاجئين، تساوي ربع المباني في "إسرائيل" في ذاك الوقت ..(المصدر المذكور ، ص 23 ).

 

بالإضافه إلى ذلك، فإن أغلب ممتلكات اللاجئين المنقولة، قد بقيت في الوطن، من محتويات المنازل، والأغراض الشخصية، وحوالى مليون رأس بقر وغنم، وسيارات، وعتاد، وأجهزة زراعية، وصناعية، وقدرت لجنة التوفيق الدولية قيمة هذه الممتلكات بحوالي 20 مليون باوند، وتم الاستيلاء على هذه الممتلكات بأساليب السلب، والنهب التي كانت شائعة، وبشكل طال كل شرائح المجتمع الصهيوني.

 

الصحفي والكاتب الإسرائيلي توم سيغب تحدث وبإسهاب عن نهب الصهاينة للممتلكات الفلسطينية خلال، وبعد النكبة، بقوله إن ذلك كان شائعاً، ويقتبس بن غوريون قائلاً في إحدى جلسات الحكومة:

"إن المفاجأة الوحيدة التي واجهتني وهي مفاجأة مُرة، كانت اكتشاف عيوب خلقية في داخلنا، أقصد عمليات النهب الجماعي الذي اشتركت فيه كل أوساط "اليشوف"، أي كل شرائح المجتمع الصهيوني آنذاك. فلقد سرق الجنود الذين دخلوا المنازل المتروكة، في المدن، والقرى التي احتلوها كل ما طاولته أياديهم: الأدوات المنزلية، أموالاً نقدية، جرارات زراعية، وشاحنات وقطعانا" ..الخ

 

بينما يؤكّد الوزير باخور شلوم شطريت، لزملائه في جلسة اللجنة الوزارية لشؤون الأملاك المتروكة أنه زار بعض المناطق المحتلة، ورأى النهب بأم عينيه، وأردف: "إن الجيش أخرج من اللد وحدها 1800 شاحنة محمولة بالممتلكات".

 

وفي آذار 1948، أقامت منظمة "الهاغاناة" "لجنة ممتلكات العرب في القرى" بهدف مصادرة ممتلكات اللاجئين التي تم الاستيلاء عليها بعد احتلال المدن العربية، وفي شهر تموز 1948، تم تعيين لجنة وزارية مسؤولة عن "الأموال المتروكة"، وبعدها بأيام تم تفويض هذه اللجنة، وتسميتها كوصي على القرى المتروكة، والمقصود المهجرة. (المصدر كتاب بيني موريس "ولادة قضية اللاجئين"، عام 1991، ص 224).

 

وفي أعقاب إصدار القرار 194 للجمعية العمومية، والقاضي بضرورة إعادة اللاجئين إلى ديارهم في أقرب وقت ممكن، قامت "إسرائيل" بتبني سياسة نقل أراضي اللاجئين الفلسطينيين، وكذلك أملاكهم من الملكية العربية إلى الملكية اليهودية الدائمة، وللاستخدامات "القومية" اليهودية، وعلى رأسها الاستيطان اليهودي في أنحاء البلاد، وارتكز الأسلوب الذي استخدمته المؤسسة الإسرائيلية لتحقيق هذا الهدف على التشريع لسلسلة من القوانين والأنظمة، وذلك بشكل تدريجي كي لا تتم إثارة حفيظة المجتمع الدولي ..(المصدر المذكور، ص 22) ، كما وتضمنت الخطوات الإسرائيلية إجراءات، وخطوات عسكرية مختلفة. 

الإجراءات القانونية

شملت الخطوات والاجراءات القانونية العديد من النقاط المتممة لعمليات التهجير والتدمير، ومنها:

 - منع اللاجئين الفلسطينيين من العوده لمزاولة نشاطهم الزراعي، وشمل ذلك إطلاق النار على من أسمتهم ب "المتسللين"، وحتى إحراق أراضيهم مع محاصيلها.

 - نقل الأراضي التي كان يملكها اللاجئون إلى المستوطنات اليهودية المحاذية.

 - إقامة مستوطنات يهودية جديدة على أراضي اللاجئين، وإسكان المستوطنين في المنازل العربية.

 - إصدار أنظمة طوارىء مؤقته تمكن الدولة من فرض سيطرتها على أراضي اللاجئين دون الحاجة للإجراءات القانونية أو الإدارية.

 -السيطرة على آلاف الشقق السكنية بواسطة أوامر عسكرية وبدون الحاجة لإجراءات قانونية.

 - إصدار قوانين لمصادرة الأراضي بأثر رجعي.

- اللجوء إلى أنظمة الطوارىء الانتدابية، والإعلان عن مناطق معينة كمناطق عسكرية مغلقة، على غرار ما فعلت بعد صدور قرارات بشأن بلدات: اقرث، وكفر برعم، والغابسية، والقرارات أصدرتها السلطات الإسرائيلية المدنية أعطت الحق بعودة أبنائها إليها، لكن المؤسسة العسكرية حولتها إلى مناطق عسكرية منعا لعودة الأهالي.

- تشريع قانون أملاك الغائبين لعام 1950، والذي تم بموجبه نقل الملكية على أراضي اللاجئين للوصي على أملاك الغائبين. وقد اعتمد تعريف الغائب الذي شمل كل اللاجئين، والمهجرين الذين بقوا في وطنهم، وبموجب هذا القانون، تم نقل أربعة ملايين دونم من الأراضي التي بملكية اللاجئين الى الوصي على أملاك الغائبين، ومنها 2,4 مليون دونم تم نقلها فعليا لأيدٍ يهودية. كما أن حسابات بنكية شملت مبالغ بقيمة عدة ملايين من الباوندات، تمت مصادرتها من قبل الوصي على أملاك اللاجئين، وذلك عام 1948. كذلك، مخازن الوصي على أملاك اللاجئين قد شملت ممتلكات بقيمة حوالى 4 مليون باوند.(المصدر المذكور ، ص 23).

- تشريع قانون سلطة التطوير (نقل ملكية) لعام 1950 والذي أعلن عن إقامة السلطة الوحيدة المخوّلة شراء أراضٍ من الوصي على أملاك الغائبين، وذلك لأهداف "قومية" مثل الاستيطان، والتطوير (مصطلح يعني التهويد). بموجب هذا القانون، قام الوصي على أملاك الغائبين ببيع كل ما بحوزته لسلطة التطوير، والتي قامت بدورها ببيع 2,4 مليون دونم للصندوق القومي (الكيرن كييمت).

- عام 1953، تم تشريع قانون امتلاك الاراضي (مصادقه على اجراءات وتعويضات ) والذي نقل الملكية على قسم آخر من اراضي اللاجئين مباشرة الى سلطة التطوير، وقد تمّ نقل 1,25 مليون دونم ويشمل ذلك أراضٍ لـ 250 قرية مهجرة لسلطة التطوير والتي قامت بدورها بنقل الأراضي لاستخدامات مختلفه للمستوطنات اليهودية.

- عام 1961 أعلن عن قيام دائرة أراضي "إسرائيل" بهدف إدارة مجمل الأراضي في الدولة، وكذلك تلك التي بملكية يهودية في "إسرائيل"، ويشمل ذلك الأراضي التي أُديرت من قبل الكيرن كييمت. وتسيطر دائرة أراضي "إسرائيل"، إداريا، على 93% من مساحة "إسرائيل"، وبموجب الاتفاق الذي وقعته "دولة اسرائيل" مع الكيرن كييمت، فإن إدارة دائرة أراضي "إسرائيل" تشمل 51% من ممثلي الدولة، و 49% من الكيرن كييمت، وبناءً على هذا، فإن الكيرن كييمت، وهي منظمه تعمل خارج منظومة القوانين الإسرائيلية، وأهدافها المعلنة هي العمل من أجل "الشعب اليهودي" فقط، وليس لمجمل "الشعب " في "إسرائيل"، ما زالت هي المسؤولة بقدر كبير لتقرر مصير الأراضي التي نُهبت وسلبت من أهل البلاد الأصليين، والذين أصبحوا بين ليلة وضحاها لاجئين مشتّتين في كل أصقاع العالم.

 

ينهبون ويشرعون كما يحلو لهم، ولكن نسوا أن يسألوا الأرض، التي ستنطق بالعربية، وستظل تجيب بالعربية، حتى عودة آخر لاجيء فلسطيني إلى دياره.