شركات النفط الكبرى تُسهم في ارتفاع حالات السرطان في البصرة

وجدت الدراسة أنّ هذه الملوّثات لا تقتصر على مواقع النفط: فهي تنجرف بعيداً حتى وسط البصرة، تحملها الرياح المتغيّرة إلى الأحياء المكتظة بالسكان، وما يثير القلق بشكل خاص مستويات الجسيمات الدقيقة، المرتبطة بأمراض الجهاز التنفّسي والوفاة المبكرة.

  • شركات النفط الكبرى تُسهم في ارتفاع حالات السرطان في البصرة
    شركات النفط الكبرى تُسهم في ارتفاع حالات السرطان في البصرة

أميط اللثام في  تحقيق أجرته صحيفة "نيو لاينز"  عن التكلفة البشرية لصناعة النفط، حيث يسعى المسؤولون والشركات إلى إخفاء ارتفاعٍ مُقلق في الحالات الطبية.

ففي بلدة عرادة العراقية الجنوبية يزيد عدد سكانها قليلاً عن 50 ألف نسمة، يحلُّ نهاية اليوم بهدوء، مُغطَّى بضباب يبدو وكأنه يتصاعد من الأرض نفسها. تُخيِّم الشمسُ منخفضةً وثقيلةً، تُلقي بظلالها الطويلة على الأزقة المُغبّرة. تنبعث رائحة الطماطم المُدفَّأة من الشمس من الصناديق المُكدَّسة على أكشاك السوق، حيث يُنادى الباعة بأسعارهم بسهولةٍ روتينية. يمسح جزّار يديه بمئزره ويعود إلى تقطيع لحم الضأن المُعلَّق على خطافات معدنية.

 السماء تروي قصة مختلفة

يتصاعد عمودٌ كثيفٌ من الدخان من فوق أسطح المنازل، مُظلماً الأفق ككدمة. من كل زقاق وواجهة متجر، يُرى عمود من السخام يتصاعد بلا نهاية في السماء. مصدره يقع خلف أطراف المدينة مباشرة: مشاعل الغاز في حقل غرب القرنة 2، أحد أكبر حقول النفط العراقية، والذي تديره شركة الطاقة الروسية العملاقة لوك أويل. لا تنطفئ النيران فيها أبداً. وهجها البرتقالي ثابت كالغبار.

ضحايا صناعة النفط

خلال العامين الماضيين، وثّق هوير أكثر من 3000 حالة إصابة جديدة بالسرطان في هذه البلدة التي لا يتجاوز عدد سكانها 51 ألف نسمة. يُنظّم هوير اجتماعاتٍ وتظاهراتٍ مجتمعية، ويُعدّ الرسائل والنداءات للمسؤولين، لكنّ شعلاته لا تزال مشتعلة. في هذا المكان المُحرَم من المساءلة الرسمية، أصبح هوير بديلاً حياً لها. 

بالنسبة للكثيرين، هو الأثر الوحيد الذي يُشير إلى وجود شخصٍ ما، في مكانٍ ما، يُحصي ضحايا صناعة النفط.

الرخاء والخطر في خط الأنابيب نفسه!

في محافظة البصرة، التي يقطنها قرابة 3 ملايين نسمة، يتشارك الرخاء والخطر في خط الأنابيب نفسه. يُوفّر قطاع النفط ما يقرب من 90% من إيرادات الدولة، مُدعماً الميزانيات والرواتب ووعود إعادة الإعمار. لكن بالنسبة لمن يعيشون في ظلّ هذه الصناعة، فإنّ تكاليف هذا الاعتماد تُحمل في رئاتهم ومجرى دمائهم.

عندما فتح العراق قطاعه النفطي للاستثمار الأجنبي عام 2009، أطلق العنان لحقبةٍ من الاستخراج لم يسبق لها مثيل في تاريخه الحديث. سارعت شركات عالمية كبرى إلى الاستحواذ على حصصها: بي بي في الرميلة، وإيني الإيطالية في الزبير، وإكسون موبيل في غرب القرنة، ولوك أويل الروسية في غرب القرنة 2، وغيرها. 

وارتفع الإنتاج من مليونين إلى 4 ملايين برميل يومياً، ما أكسب البصرة سمعة طيبة كقلب نابض لاقتصاد الطاقة العراقي.

فجوات في البنية التحتية

ومع ذلك، إلى جانب هذا النمو، برزت فجوات في البنية التحتية بحجم الثغرات القانونية. فمن دون أنظمة لالتقاط فائض الغاز المُنتَج أثناء استخراج النفط، اعتمدت الشركات على الحرق: أي حرق الغاز في الهواء الطلق. أحرق العراق، وهو أحد الدول الموقّعة على مبادرة البنك الدولي للحدّ من الحرق الروتيني للغاز، ما يقرب من 24 مليار ياردة مكعبة من الغاز في عام 2023 وحده، ليحتلّ المرتبة الثالثة عالمياً، بعد روسيا وإيران فقط.

يتحمّل هواء البصرة وطأة هذه الحرائق. فقد خلصت دراسة أجراها باحثون من جامعة البصرة، ونُشرت في عدد أيلول/ سبتمبر 2024 من مجلة "بيئة آسيا"، إلى أنّ جميع الملوّثات، باستثناء واحد، التي تمّ قياسها بالقرب من حقل الرميلة تجاوزت عتبات السلامة العراقية ومنظمة الصحة العالمية، بعضها بفارق كبير. 

أمراض الجهاز التنفّسي والوفاة المبكرة

ومما يثير القلق بشكل خاص مستويات الجسيمات الدقيقة، المرتبطة بأمراض الجهاز التنفّسي والوفاة المبكرة، والتي صنّفتها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان على أنها مسبّبة للسرطان. وجدت الدراسة أيضاً أنّ هذه الملوّثات لا تقتصر على مواقع النفط: فهي تنجرف بعيداً حتى وسط البصرة، تحملها الرياح المتغيّرة إلى الأحياء المكتظة بالسكان.

تتوافق هذه النتائج مع نتائج دراسة حول "تلوّث الهواء في الجزء الجنوبي من العراق ومخاطره الصحية" نُشرت كفصل في كتاب في وقت سابق من هذا العام، والتي أظهرت زيادة في الملوّثات الغازية في المحافظة نفسها بسبب حقول النفط والمصافي. وحذرت الدراسة، على وجه الخصوص، من أن المجتمعات التي تعيش بالقرب من مناطق حرق الغاز تواجه خطراً متزايداً للإصابة بالسرطان وأمراض القلب والفشل التنفّسي.

اقرأ أيضاً: العراق: تقديم مشروع قانون لجعل "الملوِّث يدفع"

بموجب القانون العراقي، لا يجوز تشغيل أي مصفاة أو مدخنة حرق غاز على مسافة 10 كيلومترات (6 أميال) من منطقة سكنية. 

عملياً، يتمّ تجاهل هذه اللائحة. في أماكن مثل عرادة، وبشكل عام في محافظة البصرة، تقع المنازل على بُعد مئات الأمتار فقط من أبراج النار المشتعلة. الحد الأدنى للمسافة القانونية موجود فقط على الورق.