دماء على ضفاف تساڤو.. ملاحم من تاريخ الأسُود والبشر

الأسد "ملك الغابة"؟ يبدو أنه لقب مبالغ فيه. في هذه المادة، سنروي لكم حكاية الأسود مع حيوان صغير يرعبها ويقتلها، وكيف يدفع الإنسان ثمن دوره في اختلال الطبيعة.

سنحكي لك اليوم عن الأسُود، والحديث عن الأسُود يثير الخيال، ويغري دائماً بالمبالغة. ولهذا، نقدِّم لك الآن وعداً بأن السطور القادمة ستخلو تماماً من أي مبالغات، لكنها، رغم استنادها إلى حقائق علمية صارمة، قد تتجاوز في غرابتها كل خيال.

قد يكون "ملك الغابة" لقباً فيه بعض المبالغة، خلعه البشر على الأسد، بسبب اعتلائه قمة سلسلة الافتراس في "مملكته" بلا مفترِس أعلى يستهدفه. هذا حقيقي، لكنه لا يعني إطلاقاً أن الأسود لا يمكن تهديدها، بل قتلها، فالأفيال وأفراس النهر والتماسيح والزرافات والجواميس الأفريقية وغيرها [1] قد تُوقِع الإصابات بالأسود البالغة، وتقتلها أحياناً.

كما أنَّ "ملك الغابة" يتحاشى في الظروف المعتادة مهاجمة البشر [2]، بل إنَّ هناك مخلوقاً آخر يثير الرعب في قلوب هذه "الملوك"، رغم ضآلته النسبية، وهو حيوان الشَّيْهَم [3] أو porcupine الذي تحمي جلدَه أشواكٌ كالرماح، يتجاوز طول الواحدة منها 30 سنتيمتراً، وهي تستطيع اختراق جلود الأسود بسهولة تامة، وتغوص في لحمها، وقد تبقى فيه طويلاً، وتُسبِّب الكثير من الألم والمضاعفات والعدوى التي قد تقتل في النهاية [4].

  • حيوان الشَّيْهَم الذي تخيف أشواكه
    حيوان الشَّيْهَم الذي تخيف أشواكه "ملك الغابة"، المصدر: Eric Kilby, Wikimedia

ولهذا، تتعلم الأسود سريعاً أن تبذل كل ما في وسعها لتتلافى أشواك الشياهم، وتدرك الشياهم بدورها خطورة سلاحها الفتاك، فلا تكتفي بالدفاع السلبي عن نفسها، وإنما يُعرف عنها أنها تتوقف أحياناً فجأة أثناء ركض المفترسين خلفها (أو حتى تباغتهم بالقفز إلى الوراء)، لتغرس أشواكها المشرعة في وجههم. 

يقول كريغ باكر [5] الباحث في جامعة مينيسوتا: "عدة مرات، شاهدتُ شيهماً يدنو من جماعة أسود لم تهاجمه، وينصب أشواكه، ويهرول بظهره نحوها، فتثب الأسود من مرابضها في الحال لتخلي له الطريق. تُبادر إلى ذلك الأسود البالغة. أما الأحدث سنّاً، فربما يدفعها الفضول أحياناً إلى الاقتراب واستكشاف الكائن الغريب. حينها فقط، تعرف كم كانت تلك الفكرة سيئة".

أشواك "تصنع التاريخ"

لكن ما هي العواقب بالضبط؟ ولماذا تخشى الأسودُ الشياهمَ إلى هذه الدرجة؟ تجيبنا عن ذلك دراسة مثيرة [6] نُشرت في أيار/مايو 2019 في دورية شرق أفريقيا للتاريخ الطبيعي، إذ قام فريق الباحثين فيها بقيادة چوليان كيربس بيترهانز من "جامعة روزڤلت" في شيكاغو بفحص جثة أسد شهير معروف باسم "آكل بشر داراچاني"[7]، وداراچاني هي بلدة صغيرة في جنوب كينيا، كانت مسرحاً لقتل أسد صياداً كينياً وهجومه على آخرين في العام 1965، قبل أن يقتلوه ويشاهدوا بوضوح شوكة الشيهم الخارجة من أنفه.

وقالت الدراسة إن الشوكة اخترقت خطم أسد داراچاني بعمق تجاوَز 15 سنتيمتراً، أي أنها كادت تخترق الدماغ نفسه! وبهذا، يتضح أن تلك الشوكة هي السبب يقيناً وراء سلوكه المكتسَب كمهاجمٍ للبشر، فقد جعلَت من الصيد مهمةً في غاية الصعوبة، وتسببت في تضوِّر الأسد جوعاً إلى الحد الذي جعله يغامر - من شدة يأسه - باستهداف البشر، وهو ما تتجنبه الأسود كثيراً في الظروف المعتادة.

وأضافت الدراسة أنَّ الأسود لا تستهدف الشياهم إلا عندما يضطرها إلى ذلك نقص شديد في الفرائس الأخرى، مثلما قد يحدث في مواسم الجدب والجفاف، كما حصل في العام 1965، الذي شهدت فيه كينيا جفافاً استثنائياً، والذي شهد أيضاً عملية قتل أسد آخر هاجم بشراً، وقتل إنساناً واحداً على الأقل. وقد عُثر على شوكة شيهم مغروسة في فمه قرب سن مكسور.

أما العام 1898، فقد شهد، مع الجفاف الشديد، قصة جديرة بالأساطير، بطلاها أسدان [8] من منطقة نهر تساڤو الكينية - التي لا تبعد كثيراً عن بلدة داراچاني - قتلا والتهما، حسبما تذكر بعض الروايات، أكثر من 100 إنسان، معظمهم من العمال الهنود الذين استقدمَتهم الإمبراطورية البريطانية لبناء خط سكة حديد بين كينيا وأوغندا [9]، ليلاقوا حتفهم بين أنياب "الظلام" و"الشبح" - وهما الاسمان اللذان اختارهما فيلم هوليوودي للأسدين [10] -  قبل أن يخطب رئيس الوزراء الإنكليزي شخصياً، لورد ساليزبري، أمام مجلس اللوردات، شارحاً أنه سيتعذر تماماً إتمام بناء الخط ما لم يتطوع بعض المغامرين الشجعان لقتل الأسدين!

وقد قُتل الأسدان برصاص الكولونيل جون هنري باترسون بعد محاولات ومطاردات مضنية[11]، وعُثر لاحقاً بين أنيابهما المصابة على أشواك الشياهم!

  • الكولونيل باتِرسون مع جثة الأسد الأول، المصدر: Field Museum, Wikimedia
    الكولونيل باتِرسون مع جثة الأسد الأول، المصدر: Field Museum, Wikimedia

إنها، كما نرى، قصة جديرة تماماً بهوليوود. وقد ألهمَت بالفعل 3 أفلام [12]، لكن الحقيقة المجردة هذه المرة كانت أعجب من كلّ خيال. ولستُ أظنُّ أن أي مشهد من الأفلام الثلاثة قد ينجح في إثارة تلك القشعريرة التي ستنتابك إذا ذهبتَ إلى المتحف الميداني للتاريخ الطبيعي في شيكاغو، ورأيتَ بعينيك الأسدين المحنَّطَيْن (وهما يقفان هناك منذ العام 1924، بعد أن باعهما الكولونيل باتِرسون إلى المتحف مقابل 5 آلاف دولار)، حتى إذا كانت عملية التحنيط قد قلَّصَت كثيراً من الحجم الحقيقي للجسديْن، واستبدلَت عينيْن ناريَّتيْن كان النظر فيهما يوماً يعني حكمًا فورياً بموتٍ رهيب، وحتى إذا كان يفصل بينك وبينهما لوح سميك من الزجاج، وقرن - أو أكثر قليلاً - من الزمن.

  • أسدا تساڤو المحنطان في المتحف الميداني للتاريخ الطبيعي في شيكاغو، المصدر: Amphibol ,Wikimedia
    أسدا تساڤو المحنطان في المتحف الميداني للتاريخ الطبيعي في شيكاغو، المصدر: Amphibol ,Wikimedia

أما ما لم تستطع الذهاب لرؤية الأسدين، فيكفي أنك قرأت الآن عن تلك الوقائع المذهلة كلها، وأدركتَ مدى تأثر الإنسان بأقل التغيرات في الطبيعة، إذ رأيتَ الجفافَ يدفع الأسودَ لمهاجمة الشياهم، فتدفع أشواكُ الشياهمِ الأسودَ إلى مهاجمة البشر، فيموت عُمَّال هنود جاؤوا لتشييد مشروع بريطاني في أراضٍ كينية، حتى يتطلب الأمر تدخُّل رئيس وزراء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس [13]، ولا تغيب عن شعاراتها[14] الأسُود.

المصادر

 [1] https://listverse.com/2021/08/12/top-10-animals-that-can-kill-a-lion/ 
[2] https://www.discoverwildlife.com/animal-facts/mammals/facts-about-lions/  
[3] https://www.britannica.com/animal/porcupine 
[4] https://www.researchgate.net/figure/Reports-of-lions-injured-or-killed-by-porcupines-quills_tbl2_332911107 
[5] https://lioncenter.umn.edu/dr-craig-packer/ 
[6] https://doi.org/10.2982/028.108.0101 
[7] https://www.researchgate.net/figure/Darajani-lion-just-after-he-was-killed-Note-the-very-thin-body-scrawny-mane-and_fig1_339687844 
[8] https://www.fieldmuseum.org/blog/tsavo-lions 
[9] https://youtu.be/uX4FYvuW9mE 
[10] https://en.wikipedia.org/wiki/The_Ghost_and_the_Darkness 
[11] https://www.goodreads.com/book/show/862052.The_Man_Eaters_of_Tsavo 
[12] https://en.wikipedia.org/wiki/John_Henry_Patterson_(author) 
[13] https://www.worldatlas.com/articles/what-does-the-sun-never-sets-on-the-british-empire-mean.html 
[14] https://www.theguardian.com/notesandqueries/query/0,5753,-17023,00.html