عبد الكريم الكابلي.. وداعاً «الزول السمح*»

أشاد به الرئيس جمال عبد الناصر، وسمعت أغانيه في القاهرة وبغداد وصولاً إلى أديس أبابا.. من هو عبد الكريم الكابلي؟

  • عبد الكريم الكابلي.. وداعاً «الزول السمح*»
    عبد الكريم الكابلي

لمن لا يعرف السودان، فهو باختصار شديد «بلاد الثورة، والنيلين، وعبد الكريم الكابلي». الثورة لا تزال فعلاً مستمراً إلى يومنا هذا، والنيلان لا يزالان مستمرين في حب هذه البلاد حتى في خرابها الأخير على يد العسكر، وما أدل على ذلك من عناقهما الدائم بالخرطوم، وكابلي وإن غادر دنيانا فمواهبه المتعددة مستمرة في تغذيتنا بقيم الثورة والتحرر والجمال، خالدة كالنيل، وباقية كالثورة.

وصل نعي عبد الكريم الكابلي من الولايات المتحدة إلى السودان، صبيحة الجمعة 3 كانون الأول/ديسمبر الجاري بتوقيت السودان، مع مراعاة فروق الحزن.

في آخر أيام حياته، عانى الكابلي من المرض، كما عانى من حقب الديكتاتوريات التي لا تحتمل كل الجمال، وتعمل - حيث كانت - على نشر ثقافة الدمامة والقبح، ما قد يكون - مع أسباب أخرى - اضطره إلى مغادرة الوطن الذي لطالما غنى له، بعيداً في نواحي بلاد اليانكي التي تتغنى بتقديم مصالحها على مصالح العباد والبلاد.

تساؤل مشروع

لماذا يُعد الكابلي بدعاً عن بقية فناني السودان؟ هذا سؤال قد يعنّ على القارئ العربي، وربما خرج من أفواه بعض السودانيين، ففي تاراتٍ لا كرامة للنبي بداره، هذا مع الإقرار بأن كابلي ظل ويظل محل تكريم كبيراً من جُل السودانيين.

أما الإجابة، فنجد أنها تكمن في الأثر الذي خلّفه كابلي، أثر لا يتوقف عند الغناء، فهو مغنٍ مجيد، وشاعر ألمعي، وملحنٌ متفرد، وباحث حذق في الموروث السوداني، وخطيب مفوه، ومقدم برامج يحفظ لوحه، ومترجم رصين، وشخص غير قابل للتكرار، هذا مع كوني من بلدٍ يكثر في التقليد  – تقليد كل شيء تقريباً - من البضائع وحتى استنساخ الفنانين، ولكني لم أسمع يوماً عمن يسعى لتقليد كابلي، ربما خشية، وإن كان غالب الظن أن ذلك يعود إلى معرفة الجميع بأنه لا يُجارى، وأن قدراته لا يتصور أحد إمكانية الاقتراب منها.

ترك كابلي كماً هائلاً من الأغاني التي يجد فيها كلٌ منّا ضالته على تنوعنا واختلاف لهجاتنا وألسنتنا.

ولكن ومن باب معرفته الرئيس، ونعني الغناء، ترك كابلي كماً هائلاً من الأغاني التي يجد فيها كلٌ منّا ضالته على تنوعنا واختلاف لهجاتنا، بل وألسنتنا، وتتوزع هذه المزامير بين اللغة العربية الفصحى، والعامية السودانية، والموروث والفولكلور الموغل في القواميس العصية. 

وضمن تفريعة ثانية لغنائه، نجد كابلي لم يشذ، فأدى أغاني الحقيبة التي تعد إحدى لوازم المرور إلى قلوب السودانيين، وخاطب ببقية أغنياته الرفيعة النخب، ووصل غمار الناس بلطيف وخفيف الغناء، كما ضرب بأوتاده بعيداً في البادية، يتسربل بكلماته الفرّاس، وينعى عظام الناس.

 أهدى الكابلي (1932 - 2021) السودان أغاني كثيرة، حتى باتت وصاياه أناشيد تُقرأ: "شيدوه.. وزينوه.. وطن الجمال/ علوه.. وخلوه.. فوق المحال/ وأفدوه.. وأهدوه.. الروح والعيال". أحب قيم التحرر والحرية، فأحبه الثوريون، وباتت عباراته أيقونات مثل: "القومة ليك يا وطني".

غنى للحب، فأحبه الناس (حبك للناس/ خلاني أحبك تاني). لم يكن غناؤه للنسوة محض غناء، وإنما كان دساتير حقوقية بأن المرأة نصف المجتمع (نصفٌ قد حوى كل المعاني). تبتل كدرويش عارف في حب النبي محمد، فأحبه المتصوفة، ولا سيما حين مدحه (ليلة المولد يا سر الليالي.. والجمال.. وربيعاً فتن الأنفس بالسحر الحلالِ).   

تخطى الحدود

كما تسمع الكابلي في شوارع الخرطوم، فقد يطرق سمعك في أماكن أخرى، كمقاهي القاهرة، وأزقة بغداد، وصولاً إلى ساحات أديس أبابا.

كيف لا يكون ذلك، وأول ما سمع الناس بكابلي، كان حين حاز تمام الإشادة من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، بعدما تغنى أمامه برائعة تاج السر الحسن (آسيا وأفريقيا) الممجدة لدول عدم الانحياز، وتضمنت مقطعاً بات أحد محددات علاقة البلدين: (مصر يا أخت بلادي يا شقيقة).

وحظي كابلي كذلك بإطناب كوكب الشرق أم كلثوم، بعدما سمعته يغني "حبيبة عمري تفشى الخبر"، فاعتبرته "همزة وصل جيدة بين الوجدانين السوداني والعربي".

كما تسمع الكابلي في شوارع الخرطوم، فقد يطرق سمعك في أماكن أخرى، كمقاهي القاهرة، وأزقة بغداد، وصولاً إلى ساحات أديس أبابا.

وضمن مجموعة كبيرة من أغنياته، أفرد الكابلي حيزاً للغناء الفصيح، وبكل جودةٍ وإجادة كانت "أراك عصي الدمع" لأبو فراس الحمداني، و"نالت على يدها ما لم تنله يدي" ليزيد ابن معاوية، و"شذى زهرٌ ولا زهرِ" لمحمود عباس العقاد، وبأغنية تعلي شأن الثورة الجزائرية للشاعر البحريني علي شريحة "أغلى من لؤلؤة بضة.. صيدت من شط البحرين"، ومن بساتين شعرنا الفصيح، اخترنا رائعة صديق مدثر "ضنين الوعد".

ومن ضمن أجمل آثاره، ترك الكابلي ألبوماً بمشاركة الفرقة الإثيوبية، الأمر الذي أنتج أغاني ضاجة بالحياة والموسيقى، ولا يكتمل سماعها إلا وأنت تحاول محاكاة رقص الأحباش شديد الحيوية. وفي هذا المقام ،تأتي على نحوٍ خاص أغنية "غزال الروض".

ولتعرف أي عيون قد أنطفات الجمعة، نحيلكم إلى تلخيص الكابلي لرسالة الفن، حين قال: "الرسالة الخالدة للفن الخيّر تتمثل في أنه كيف يجعل الحياة مكاناً جميلاً". وفي موضعٍ آخر، نجده يقول في الشأن ذاته: "من الناحية الفنية، ولا أبتعد عن الفقه كذلك، لأن الفقه بالنسبة إلي هو قمة الفن، فالقضية التي تتصل بالفنون هي القضية ذاتها التي تتصل بكل أوجه الحياة الأخرى، طيبه طيب ومفيد، وخبيثه خبيث ومكروه".

لم يُعرف للكابلي تحزب، اللهم إلا للإنسانية ولبلده، ولكن لا يخفى على أحد حبه للحرية والتحرر. يظهر ذلك في غنائه وأفعاله السمحة، فقد غنى بعد إطاحة ثورة شعبية بالجنرال جعفر النميري في نيسان/أبريل 1985 "ليس في الأمر عجب"، فأنشد إبان ثورة كانون الأول/ديسمبر "لا من يشهر للحرية العذراء ناب". وعليه، لم يكن مستغرباً أن يحرص – رغم ظروفه الصحية - على زيارة السودان بعد إطاحة الجنرال عمر البشير في نيسان/أبريل 2019، وعقبها أبرز دعمه للحكومة المدنية وحملة "القومة للسودان" الخاصة بالتبرع بالمال لأجل البناء والإعمار.

وبشأن الجدل الذي ثار عقب وضعه الجواز الأميركي في جيبه الخلفي، وبروز أصوات ناقدة وممتعضة للخطوة، قال الناقد موسى حامد وقتذاك: "كل تلك المشاعر لا تفسر إلا من خلال سياق محدد هو أن الكابلي قيمة فنية سودانية عظيمة، ساهمت في تشكيل وجدان السودانيين وذائقتهم الغنائية. وبنيله الجنسية الأميركية، اهتزت عند محبيه كل تلك القيم، لتتفرق بعد ذلك ردود الأفعال والمشاعر".

ولكن علمنا اليوم أن تلك الهزة محض لوم وعتاب لحبيب. وقد بان ذلك جلياً في تحول مواقع التواصل الاجتماعي السودانية إلى سرادق عزاء كبير، شاركنا فيه كلنا بريفنا ومدننا، بمن ينادي بالدولة المدنية ومن يوالي العسكر، فاجتمعنا نحن، من تفرقت بنا السبل شَذَرَاً مَذَرَاً، ثوارنا بقائد الجيش ورئيس وزرائه، ومثقفينا وعامة الناس، ونخبنا ومن انتخبتهم السياسة ليكونوا في القاع.

ولد الكابلي في مدينة بورتسودان لأسرة محبة للمعارف والفنون، وله تجربة سابقة في أروقة المؤسسات القضائية، كما عمل في فترة من حياته كمترجم في السعودية.

ضمن عدة ضروب غنائية، برع كابلي في تقديم أغاني المراثي (المناحات) بشكلٍ استثنائيٍ، إلى حد أنه ضخ في شرايينها عنفوان الحياة، فمن يرثيه لنا اليوم ليعيد لنا كل تلك السيرة وتلك الحياة؟

رحم الله عبد الكريم الكابلي بقدر ما قدّم في كتاب حياته بصفحاته التسعين، مختومة بصوته الرخيم في تحولاته العديدة وهو يردد: "صلّ ياربي على المدثرِ.. وتجاوز عن ذنوبي وأغفرِ".    

*"الزول السمح" إحدى روائع الكابلي