المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي

في الذكرى الــ 192 لولادته ... إليكم المثلث المحزن في حياة تولستوي

  • المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
    المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
  • المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
    المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
  • المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
    المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
  • المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
    المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي

ليف (ليو) نيقولايفيتش تولستوي (1828 – 1910) أحد أعظم الكتّاب والروائيين في العالم. طبعت أعماله مرات عديدة في الاتحاد السوفياتي السابق واعتبر الكاتب الأول بين العامين 1918 و1986 من حيث عدد النسخ المطبوعة حيث وصلت إلى نحو 436 مليون نسخة، كما طبعت ترجمات أعماله في دول مختلفة وبلغات متعددة.

ترك تولستوي خلفه 165 ألف صفحة بخط يده، ونحو عشرة آلاف رسالة، وقد جمعت أعماله في تسعين مجلداً. حمل ليف تولستوي شأنه شأن الكتاب الروس العظماء في القرن التاسع عشر أعباء ما وراء الكتابة السردية، وتتلخص هذه المهمة الجسيمة برفع الوعي المجتمعي وتبيان سمات الضابطة الأخلاقية للعموم حتى ولو أدى ذلك إلى الصراع المباشر مع الإكليريوس الكنسي، فاعتبر فيلسوفاً ومفكراً دينياً تنويرياً.

ولعله من المفيد اليوم، ونحن على بعد 192 عاماً من ذكرى ولادة تولستوي أن نضيء على جوانب من حياته تقرّبنا من فهم تلك الأعباء التي حملها طوعاً، لاسيما وأنّه كاتب وزّع جوانب من تجاربه الحياتية على أبطال كتبه، وحمّل بعض الشخصيات الرئيسة في رواياته مشاعر وانفعالات انتابته في مراحل مختلفة من حياته الشخصية، فمعظم إبداعاته ما هي سوى سيرة حياته موزعة في قصص وروايات.

 

ملامح الإبداع

  • المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
    المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
  • المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
    المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي

كان تولستوي مولعاً بالموسيقى، وكان المؤلفون الموسيقيون الأحب إليه باخ وهاندل وشوبان، ويتضح أنّه كان بإمكانه أن يعزف بنفسه أعمال موزارت وشوبان ومندلسون وشومان لعدة ساعات من دون توقف.

ومن المعروف أنّ تأثير أخيه الأكبر الضابط القيصري نيقولاي كان كبيراً عليه، فقد كان صديقه ومعلمه، وقد دعاه نيقولاي إلى الخدمة العسكرية في القوقاز، وفي عام 1854 نقل ليف للخدمة في سيفاستوبل الواقعة على ضفة البحر الأسود، حيث شارك في حرب القرم حتى آب/ أغسطس من العام التالي.

شكلت أوقات الفراغ الطويلة أثناء الخدمة العسكرية مساحة حرّة لليف الشاب، فبدأ يكتب سيرة ذاتية بعنوان "الطفولة" وصف فيها ببراعة السنوات الأولى من حياته.

واعتبر هذا النصّ تحولاً مهماً في حياته المهنية ككاتب، فبمجرد نشر "الطفولة" على صفحات مجلة "سوفريمينيك" (المعاصر)، اكتسب تولستوي شعبية كبيرة، وحظيت القصّة بشهرة مكّنت كاتبها من الارتقاء إلى مستوى كتاب سبقوه مثل تورغينيف وأوستروفسكي وغونشاروف.

ثم انطلق ليف تولستوي في كتابة قصة ثانية بعنوان "القوزاق" سنة 1862، وصف فيها حياته العسكرية في بلاد القوقاز، ولم ينته منها إلا بعد تسرحه من الخدمة في الجيش. إلا أن تولستوي لم يتوقف عن الكتابة، حتى أثناء مشاركته في الحرب، فقد أنهى آنذاك الحلقة الثانية من سيرته الذاتية وكانت بعنوان "المراهقة"، بالإضافة إلى كتابته "حكايات سيفاستوبول".

وكانت شهرته ككاتب وصلت إلى مسقط رأسه مع عودته إليه إثر انتهاء الحرب. ويظهر من كتابات تولستوي الشاب أنّه كان متشبثاً بآرائه، رافضاً الانتماء إلى مدرسة فلسفية محددة، ثم قرر المغادرة إلى فرنسا سنة 1857، حيث كتب الجزء الثالث من سيرته بعنوان "الشباب".

إثر عودته من فرنسا، وبعد اطلاعه على نظم التعليم المدرسي الابتدائي فيها، أنشأ مجلة تربوية توعوية سنة 1862 حملت اسم "ياسنايا بوليانا"، حررها بنفسه وأصدر منها اثني عشر عددا، وقد ترافقت تلك الفترة في روسيا القيصرية مع تحرير الأقنان، وتحولهم إلى فلاحين أجراء في ملكيات الاقطاعيين. 

 

المثلث المُحزن

  • المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
    المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
  • المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي
    المثلث الإبداعي المحزن في حياة تولستوي

ثلاث روايات من أعمال تولستوي هي الأكثر شهرة عالمياً، وقد تكفلت بتعميمها باللغات الحية آلة النشر السوفياتية العملاقة، وهذه الروايات هي "الحرب والسلام"، "آنا كارينينا"، و"البعث". في ستينيات القرن التاسع عشر عاش ليف نيقولايفيتش مع عائلته في ياسنايا بوليانا، حيث ولدت روايته "الحرب والسلام"، وكان قد نشر جزءاً منها في مجلة "روسكي فيستنيك" (البشير الروسي) تحت عنوان "العام 1805"، وبعد ثلاث سنوات نشر ثلاثة فصول أخرى منها، وكانت الرواية التي قدر لها أن تكون ذروة إبداع تولستوي في سيرته الأدبية قد تمت.

وقد ناقش النقاد والجمهور معاً "الحرب والسلام" لفترة طويلة، وتمحور النقاش حول حروب نابليون المحكي عنها في الرواية، وشخصياتها الخيالية التي درسها تولستوي بعناية، كما غدت الرواية موضع اهتمام واسع لكونها تضمنت ثلاثة مقالات ساخرة تتعلق بقوانين التاريخ. حاول تولستوي عبر روايته أن ينقل إلى القارئ أن موقع شخص ما في المجتمع ومعنى حياته ما هما سوى انعكاس لأنشطته اليومية.

روايته الثانية في هذا المثلث كانت "آنا كارينينا"، ولا تقل شهرة عن "الحرب والسلام"، وقد قدم فيها الكاتب العديد من المشاهد من سيرته الشخصية، ويمكن تلمس ذلك بسهولة من خلال النظر في العلاقة بين بطلي الرواية كيتي وليفين. وقد طبعت أجزاء من هذا العمل بين العامين 1873 و1877، فحظيت الرواية باستحسان النقاد والجمهور معاً، وعبر الكثيرون عن أن "آنا كارينينا" ليست سوى سيرة ذاتية لتولستوي كما أراد أن يظهرها، لكنها كتبت بصيغة المفرد الغائب.

وثالث زوايا المثلث رواية "البعث" (أو "القيامة")، التي كتبها تولستوي أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، مستنداً في حبكتها على مؤامرة في قضية حقيقية أمام المحكمة. في هذا العمل يظهر تولستوي بوضوح وجهة نظره الحادة بشأن الطقوس الكنسية. وقد لعب هذا العمل دوراً كبيراً في الانقطاع التام بين الكنيسة الأرثوذكسية والكاتب.  

على الرغم من أن هذه الأعمال الثلاثة كانت قد لاقت نجاحًا هائلا، إلا أنّها لم تجلب الفرحة لكاتبها الذي كان مكتئباً ويعاني من فراغ داخلي عميق. فشكلت المرحلة التالية من حياته بحثاً متواصلاً في معنى الحياة، لكنه لم يصل على نتيجة تذكر في بحثه عن المشكلات المتعلقة بالكنيسة، ومع مرور الوقت بدأ ينتقد علناً بجميع الطرق الممكنة الكنيسة الأرثوذكسية بشكل خاص والدين المسيحي بشكل عام، ونشر أفكاره في مجلة "بوسريدنيك" (الوسيط)، وكانت أفكاره معقدة مربكة للقراء، عبارة عن مزيج من المسيحية والبوذية، يلقحها بمعتقدات شرقية مختلفة.

وفي العام 1901 كان السينودوس الأرثوذكسي قد أصدر قراره بليف تولستوي، مضمناً إياه أن تولستوي لم يعد عضواً في الكنيسة الأرثوذكسية بناء على معتقداته المعلنة التي لا تتوافق مع الانتماء إلى الكنيسة. وانطلاقًا من معتقداته الجديدة، رغب تولستوي في التخلي عن ثروته وملكيته ومدخراته لصالح الفقراء، ما خلق أزمة عائلية حقيقية مع زوجته صوفيا أندريفنا، التي اكتشفت أن زوجها يرفض علناً حقوق النشر لجميع أعماله، لاسيما وأن هذه الأموال كانت تشكل مصدر الدخل الرئيس للعائلة.

تحتفل الأوساط الأدبية الروسية اليوم بالذكرى 191 على ولادة تولستوي، الذي لم تنتج الحقبتين السوفياتية والروسية الحديثة نظيراً له، وذلك بعد "تحرر" الروائيين الروس من أي مهمات أخلاقية، في زمن السرد للسرد، ما أدى إلى انهيار كبير في البنى الروائية شكلاً ومضموناً.

بعد ربع قرن على توقف الآلة السوفياتية الجبارة للطباعة والترجمة، لا يزال ليف تولستوي يمثل رقماً صعباً، ليس كراوئي أو قاص فحسب، بل كفيلسوف إنساني، ولا يزال آلاف المثقفين يستلهمون الحكمة من أقواله ويستخدمون اقتباسات من أعماله الكبيرة، لاسيما المثلث الروائي المتسم بالحزن والمشبع بالمأساة، الذي غاص عبره في النفس البشرية وصراعها نحو تحقيق الذات، وهو يمثل توزيعاً حاذقاً لسيرة الكاتب وتفاعله مع الآخر، وبالتالي لسيره نحو صياغة نظرته الفلسفية للمجتمع والكون.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]