إدغار موران: أتغلّب على خوفي من الموت بقوى الحياة بداخلي

مفكر فرنسي موسوعي من مؤلفاته "المنهج" في خمسة أجزاء، واجه فيه التبسيط والفصل ودافع عن ضرورة تناول الظواهر في تركيبها المتشعب وأبعادها المتعددة.

ترجمة وتقديم: عبد الرحيم نور الدين

إدغار موران (واسمه الحقيقي هو "نحوم"؛ أما موران فهو لقبه الحربي كمقاوم للاحتلال الألماني لفرنسا). ولد في باريس يوم 8 تموز/يوليو 1921، من عائلة إيطالية تعود أصولها إلى اليهود الأندلسيين المتنصرين (المارانوس).

وهو مفكر فرنسي موسوعي تطرق في أبحاثه إلى مواضيع عدة كالتواصل، والعلم، والسينما، والفن، والإيكولوجيا، والإخاء، والموت، والبحث السياسي، والإبستمولوجيا، والفلسفة، إلخ.

قاوم الاحتلال الألماني لبلده عندما كان في العشرين من عمره، وانضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي الذي انفصل عنه بعد اكتشاف "جرائم الستالينية".

شغل منصب مدير دراسات في المركز الوطني للبحث العلمي وصدرت له كتب عدة، ترجم بعضها إلى اللغة العربية. يذكر أنه يساري النزعة ومعارض للصهيونية. من مؤلفاته "المنهج" في خمسة أجزاء، واجه فيه التبسيط والفصل ودافع عن ضرورة تناول الظواهر في تركيبها المتشعب وأبعادها المتعددة.

 

لقد عدت من روما حيث استقبلك البابا. لماذا هذا اللقاء؟

إن موضوع انشغالاتي هو التالي: نحن في لحظة في تاريخ البشرية حيث نتقاسم جميعاً المصير نفسه. مهما كانت القارة، أو الأمّة، يواجه الجميع الآن نفس المخاطر: تدهور المحيط الحيوي وعواقبه: انتشار الأسلحة النووية: اقتصاد غير منظّم ومصدر لعدم مساواة كبيرة ... ومع ذلك، أمام هذه المشاكل، بدلاً من إدراك أنهم يشكّلون مجتمعاً واحداً، ينغلق البشر في هوياتهم الفردية والإثنية والعِرقية والدينية، إلخ. بالطبع، فشرح كل هذا يعود إلى كوننا قلقين للغاية بشأن ما يحدث.

هل تعرف هذا القلق؟

نعم، لقد عشته عام 1929. خلال الأزمة الاقتصادية الكبيرة، تراجعت العقول عن قوميتها، وهذا ما أعطى هتلر! اليوم، يؤدّي فقدان الأمل في المستقبل إلى الإنغلاق على الذات. لذا، سألت نفسي، ألا يستطيع البابا أخذ زِمام المبادرة بدعوة عشرة من الشخصيات الدينية واللائكية البارزة لتوجيه نداء؟ الدالاي لاما، الذي يُعتبر ضميراً كبيراً، وشخصيات مسلمة، مثل رئيس جامعة الأزهر الإسلامية الشهيرة في القاهرة، والرئيس راؤني ميتوكتيري الذي يمثل الهنود الأميركيين، وممثل لليهود وبالطبع بعض العلمانيين ... كتبت إليه واستقبلني. استمرت المقابلة خمسة وعشرين دقيقة. أخبرني البابا بقلقه من أوروبا والبحر الأبيض المتوسّط: المهاجرون، والصراعات المتعدّدة. قال لي وهو يودّعني: "ابق دائماً شاباً كما أنت

بخصوص الشباب، عمرك يبلغ الآن 98 عاماً. أنت تسافر، وتكتب، وتعيش بكثافة، هل بدأت تؤمن بِلاَ موتك (amortalité )، هذا المفهوم الذي نحته؟

ربما. لقد عرّفت هذا المفهوم سنة 1951 في كتابي "الإنسان والموت" (منشورات سوي): تخيّلت "حياة لن تكون عرضة للموت بسبب الحتمية الداخلية". كنت أظن أن تطوّر علم الطب من شأنه أن يساعد في علاج فشل الكائن الحيّ فينا. وفي ما بعد، سخرت من هذه الفكرة. لكن في الآونة الأخيرة، أكّد لي عالِم الأحياء جان كلود آميسن أنني كنت على صواب، وأنه يمكن الحفاظ على الشباب وإبعاد الموت إلى أجل غير مُسمّى. إنه لأمر غريب: في الوقت الحالي، يبتعد احتمال الموت. إلى حدود التسعين من عمري، كنت أشعر أن موتي صار قريباً. لكن مع مرور السنين، اعتدت على البقاء على قيد الحياة. أنا أعيش خارج الحد المقبول بشكلٍ عام، ويبدو هذا الوضع الشاذّ طبيعياً بالنسبة لي. يتغلّب الإنسان على خوفه بالإيمان بحياة بعد الموت. أنا لا أؤمن بذلك، لكنني أتغلّب على خوفي بقوى الحياة الموجودة فيّ، وقوى المشاركة، والحماس، والاندهاش، والصداقة، والحب. إنها تجعل المخاوف تتراجع،

تتميّز حياتك بحركات دائمة، عشقية وفكرية وسياسية، والعديد من الرحلات إلى الخارج ... ما الذي يدفعك إلى ذلك؟

دفعني التاريخ إلى هذه الحركات المتواصلة. عندما كنت مراهقاً، اكتشفت عالماً من العنف لا يُصدّق: صعود النازية، ومُعاداة السامية، والأزمة الاقتصادية، والمحاكمات الستالينية ...تساءلت "ما الذي يحدث؟ لماذا كل هذا؟ أين هي الحقيقة السياسية؟. لقد بحثت هنا وهناك، ثم اندلعت الحرب. انخرطت في المقاومة واعتقدت أنني سأجد الإجابة عن أسئلتي في الشيوعية. لكن بعد قمع الثورات الهنغارية والتشيكية، لم أعد أثق فيها. جعلتني حركات فكري وعملي الثقافي أنفتح على تعقيد العالم. لقد قادتني دائماً إلى شغف المعرفة. في العمق، كنت طالباً على الدوام وبقيت كذلك. إنه طريقي.

 

 

كتبت "دون احتراق عشقي فأنا لا شيء"...

لقد عشت، عندما كنت طفلاً، حباً مطلقاً مع والدتي. موتها، عندما كنت في العاشرة من عمري، وفقدان هذا الحب جعلاني أبحث عن هذا الأخير طوال حياتي. أنا بحاجة إلى أن أُحَب وأُحِب للقيام بالعمل. حياتي لا تنفصل عن عملي. بالنسبة للعديد من المثقفين والباحثين والأكاديميين، هناك العمل من جهة والحياة الخاصة من جهةٍ أخرى. بالنسبة لي لا يمكن تصوّر هذا الفصل. كلاهما مُمتزج بالآخر. لا أستطيع التحدّث عن أحدهما من دون استحضار الآخر ..

 

 

لقد حكيت الكثير عن حياتك في كتبك...

أسير على خطى جان جاك روسو الذي أعجب به كثيراً. لم يكن يستطيع تفادي الحديث عن نفسه. أبقيت لزمن طويل سراً كل شيء شعرت به. لم أتحدّث عن وفاة والدتي حتى كان عمري 19 عاماً. عندما غادرت عائلتي، وهربت إلى تولوز بعد هزيمة فرنسا أمام ألمانيا، فتحت باب أسراري. اكتشفت هناك عالماً من الطلاب اللاجئين. قابلت فتاة، وخلال عشاء معها، استسلمت للبوح فجأة. لقد تحرّرت من سرّي. إنها مفارقة غريبة للغاية: في الوقت الذي كانت فيه البلاد مُستعبَدة، فتحت نفسي واكتشفت الناس والحياة. حتى ذلك الحين، في باريس، كان والدي يحبسني في شرنقة من الحماية لم أستطع تكسيرها.

 

أنت تستحضر حياتك الخاصة وأحلامك. وتتحدّث عن اللا شعور، ولديك نظرة نقدية إلى حد ما عن التحليل النفسي. لماذا؟

لا يهمّني العلاج التحليلي كثيراً. لم أشعر أبداً بالحاجة إليه، ويبدو لي مبدأ الشفاء من الغرابة بمكان. أنا أعتبر فرويد عالِم أنثروبولوجيا أكثر منه معالجاً. كانت قراءة نصوصه حاسمة بالنسبة لي. بدا لي تصوّره عن هيئات نفسية ثلاث، الهو، والأنا والأنا الأعلى، صحيحاً جداً ومثيراً للاهتمام. ثم اكتشفت تلاميذه السابقين، الذين غذّوا أعمالي، يونغ، وفيرينزي وأوتو رانك ... من ناحية أخرى، لم أكن مقتنعاً بجاك لاكان، الذي حضرت بعض ندواته. كان لديه بالتأكيد أفكار لامعة، لكن نظريته حول "العقدة البورومينية" وتقسيمها إلى ثلاثة أنظمة، الواقعي، والرمزي، والخيالي، التي من شأنها أن تبيّن الذات الإنسانية، تبدو لي مصطنعة. أنا لا أؤمن بالقطائع.

 

 

وماذا عن التنويم المغناطيسي؟

في أوقات صعبة من حياتي، طلبت المساعدة من صديق طبيب نفسي ومعالج، هو جاك أنطوان مالاريوفيتش. إنه يمارس التنويم المغناطيسي الإريكسوني. لقد طلبت عونه لأنني شعرت بالملل من كل النواحي. ولإخراجي من الموقف الذي كنت فيه، اقترح علي أن أصاب بالمرض. اقتراح ممتاز نفذّته على الفور عن طريق افتعال الاكتئاب. كانت النتيجة فورية: بدأ الجميع يهتّمون بي. لقد شفيت بسرعة. لقد جعلني ذلك في صحة جيدة!

 

 

هناك الكثير من الأشخاص المفقودين في كتابك ["تأتي الذكريات للقائي" منشورات فايار. شتنبر 2019]. هل ترغب في إعادة إحيائك على الورق بعد موتك؟

يهمني كثيراً إعطاء شكل آخر من أشكال الحياة بعد الموت لأشخاص عزيزين. أردت أن أعيد إلى الحياة، في ذاتي، بعض الأصدقاء المفقودين الذين أحببتهم كثيراً. من الواضح أنه وجود طيفي. لكنني لا أريد أن يُفعل ذلك من أجلي. من ناحية أخرى، ما أتمناه هو أن يُكتب عن أفكاري. أنا في موقف متناقض، مشهور وغير معروف تماماً. إن التزاماتي "الإنسانية" وتصريحاتي العامة معروفة، لكن ما هو أهم بالنسبة إليّ لا يحظى بالاعتراف: إسهامي الفكري، والذي يتمثل في تصوّر طريقة أخرى لمعرفة الواقع غير تلك السائدة في الوقت الحالي. هذا ما أسميه الطريقة المركبة وقد ألّفت كتاب "المنهج" لتنفيذه. لسوء الحظ، لا يباع من هذه النصوص إلا القليل. إنه جرح.

 

 

في رأيك، لماذا لا يحظى فكرك بمكانة كبيرة في المجتمع الفرنسي؟

لأنني أدحض النموذج والمنهجيات الأكاديمية المهيمنة، إنها مقاربة مجزّأة للمشاكل. أنا مقتنع بأنه يجب علينا أن ننفتح ونقارن معارفنا، كما هي الحال في مجال الإيكولوجيا. إنه علم متعدّد التخصّصات وتحتاج دراسته أيضاً إلى النظر في كيفية تعطيل الإنسانية للأنظمة الإيكولوجية. إن كل ما يحدث هو نتيجة لتطوّر علمي- تقني- اقتصادي، المنتمي إلى الحضارة الغربية التي أصبحت معولمة. تتسبّب هذه المحرّكات الثلاثة، الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، في تدهور غير محكم لكوكب الأرض. لفَهْم هذه الكارثة، يجب مراعاة جميع الجوانب. يجب علينا إعمال التفكير الفلسفي في مصير الأرض. يجب إعادة التفكير في حياتنا الاجتماعية، لكن هذا لم يحدث لأن التفكير غير المركّب هو المسيطر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هل هذا يُثبط همتك؟

لا! إنه يثيرني ويشجّعني على التعبير عن مواقفي. يجب أن نقاوم!

 

 

المصدر: Psychologies, n° 401. Septembre 2019.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]