حمّامات دمشق.. مَعْلم تاريخي على طريق الاندثار؟

لم تختلف حمامات دمشق في حلتها القديمة فحسب، بل طال هذا الاختلاف دورها وأهميتها في الوسط الاجتماعي الدمشقي، وأصبحت معرضة مع الوقت للاندثار بشكل شبه نهائي. 

  • حمّامات دمشق.. مَعْلم تاريخي يقاوم الاندثار

عمرها مئات السنين، لكنها رغم ذلك لم تفقد بريقها التاريخي والتراثي. استعادت نشاطها عام 2017 نتيجة انقطاع المياه عن العاصمة السورية دمشق. إنها حمّامات السوق التي لا تزال رمزاً لتراث شعبي غني يحفظ تاريخاً طويلاً من العادات والتقاليد الاجتماعية التي وَسَمَت الحياة الدمشقية.

هذه الحمامات غابت اليوم عن جيل الشباب ليس بِفعل الحرب وحدها، بل نتيجة الحداثة وتجلّياتها على مختلف المجالات.

يُرجِع المؤرّخون نشأة الحمامات الدمشقية إلى العهد الأموي، والبعض مِنهم أعادها إلى العصر الروماني. ويُعتبر مؤرّخ دمشق إبن عساكر (1176) أقدم من ذَكَر هذه الحمامات في كتابه (تاريخ دمشق). 

حمامات السوق... دور اجتماعي

  • حمّامات دمشق.. مَعْلم تاريخي على طريق الاندثار؟
    محمد خير التيناوي

اشتهرت دمشق بالحمّامات الشعبية التي كانت تقليداً أسبوعياً لأهلها. وقُدِّر عددها بأكثر من 167 حماماً منذ العصر الأموي، لم يبقَ منها اليوم أكثر من 10 حمامات تمتاز جمعيها بنمط بناء واحد من حيث الزخرفة والمواد المُستخدَمة وتختلف في طريقة البناء والمساحة.

عبر السنين، كان لكل حيّ حمامه الخاص الذي يجتمع فيه الرجال والنساء اللواتي يقتصر دورهن خلال فترة الصباح وحتى العصر، ليبدأ بعدها دور الرجال وهناك ما يُعرَف بحجز الحمام لعائلة ما بقصد تلبية مناسبة خاصة بها، كالزواج مثلاً. كما شكَّل الحمام المكان الأنسب للنساء الدمشقيات للبحث عن عرائس لأولادهن. لكن اليوم يُعاني ما تبقى من حمامات من قلةّ زوارها.

يقول محمد خير التيناوي، صاحب "حمام التيروزي" في (باب سريجة) إنّ "الحمام من خيرة الحمامات في دمشق حيث لا يوجد سفير فيها، إلا وأتى مثله مثل أي سوري من دون أيّة مظاهر، ولم يكن يعلم بهم إلا صاحب الحمام"، مضيفاً للميادين الثقافية بأنّ الحمامات كانت مصدراً للنظافة وللقاءات العائلية وللأفراح والأعراس. وكذلك لسهرات يوم الخميس.

ركود المهنة؟

  • حمّامات دمشق.. مَعْلم تاريخي على طريق الاندثار؟
    يمتلك الحمام ما هو غير موجود في البيت

ساهم تغيّر نمط الحياة وتوافر المياه والحمامات في المنازل في تراجع دور الحمامات الشعبية واقتصاره في الأغلب على المناسبات الدينية والخاصة ببعض العائلات الدمشقية، التي ما تزال مُحافظة ومُتمسّكة بعاداتها وتقاليدها.

أبو سمير، وهو زبون قديم للحمام، قال للميادين الثقافية إنّه لا يأتي إلى الحمام بقصد الاستحمام، بل للقاء بالأصدقاء والحصول على التكييس (اي استخدام كيس الحمام لتنظيف الجسم).

أما صاحب "حمّام عز الدين" في (باب الجابية) محمد جمال تيناوي، فيشرح لنا أن "البيت الشامي القديم كان يفتقد إلى الحمام، اليوم وبفضل التقدّم أصبحت الحمامات مُنتشرة في المنازل، ما أضرّ بالمصلحة التي تموت اليوم"، مُشيراً إلى نحو 360 حماماً كانت موجودة في دمشق، لم يبق منها إلا 7 أو 8 حمامات. 

وانخفضت نسبة زبائن الحمام بحوالى 80% حالياً، بسبب الأزمة، إضافة إلى مشاغل الناس وظروفهم المادية والمعنوية.

ويعتبر أنّ زوار الحمام يأتونه للتَسلية أو لحفلات الأعراس فقط.

لكن رغم ذلك يؤكّد صاحب حمام التيروزي أنّ الحمام يمتلك ما هو غير موجود في البيت، مثل التكييس والمسّاج (التدليك)، وأنّ زبون الحمام مُعتاد عليه ومهما حصل سيأتي كونه اعتاد على مَن يقوم بتكييسه وتنظيفه.

إقرأ أيضاً: المساج: ماهي أبرز أنواعه وفوائده؟

في حين يرى صاحب حمام عز الدين أنّ الزبون قديماً كان مُلتزماً بالذهاب إلى الحمام، أما اليوم فلم يَعد مُلزماً، إنّما أصبحت غايته هي الحصول على الاستجمام باستثناء ما حصل في العام 2017 نتيجة قطع المياه عن دمشق، حيث زادت نسبة مُرتادي الحمامات الشعبية التي تَمتلك في داخلها آباراً للمياه. والتي كانت بمثابة شريان الحياة للدمشقيين عبر إمدادهم بالمياه خلال فترة قطعها.

أقسام وطقوس

  • حمّامات دمشق.. مَعْلم تاريخي على طريق الاندثار؟
    تختلف تكلفة الدخول إلى الحمامات الدمشقية عمّا كانت عليه سابقاً

يشرح لنا محمد جمال تيناوي كيف يتم استقبال الزبائن وما يحصل عليه من خدمات، فيقول "يأتي الزبون يضع أمانته (أغراضه الشخصية) ويُدخله الشغيل إلى الحمام الذي ينقسم إلى ثلاثة أقسام، البراني وهو القسم الخارجي من الحمام (القسم البارد)، وفيه يقوم الزبائن بخلع ملابسهم وارتدائها عند الدخول والخروج، بمعنى صالة استقبال وتوديع للزبائن".

ثم الحمام "الوسطاني" وهو قسم معتدل الحرارة، مسقوف بقباب تحتوي على فتحات زجاجية تُتيح لضوء الشمس الدخول وعلى الجوانب توجد مساطب يستريح عليها المُستحمّون خلال فترات الاستحمام.

أما "الجوّاني" فهو القسم الداخلي الحارّ من الحمام، ويتكوَّن من إيوانين متقابلين يوضعان على طرفي بيت النار، وضمن كل إيوان جُرن أو أكثر يحتوي على الماء الساخن الواصل من بيت النار عبر شبكة تحت أرض الحمام.

تختلف تكلفة الدخول إلى الحمامات الدمشقية عمّا كانت عليه سابقاً. فالتسعيرة قديماً "كانت على البَرَكة (شو ما عطانا الزبون نقول له الله يعوِّض عليك)"، وفق صاحب "حمام التيروزي"، الذي يضيف أن هذا غير ممكن اليوم نظراً للظروف الحالية وارتفاع تكلفة التشغيل.

هذا الأمر دفع  محمد جمال تيناوي إلى وضع تسعيرة مُحدَّدة (2500 ليرة سورية للشخص الواحد) إضافة إلى ارتفاع تكاليف ضرائب المالية والبلدية والمحافظة، وأسعار المحروقات والكهرباء، الأمر الذي خلق حالة من الضغط والامتعاض لدى أصحاب الحمامات يختصرها تيناوي بجملة "ما عم يخلّونا نتنفّس نهائياً".       

هذه التسعيرة تختلف في حمام التيروزي حيث تبلغ 3000 ليرة سورية تتضمّن (الليفة والصابون وضيافة شاي وتكييس ومساج إضافة إلى المسبح والسونا والبخار).

في العام 2008 وبالتعاون مع الاتحاد الأوروبي و12 مؤسّسة بحثية من دول أوروبا وحوض المتوسّط الشرقي والجنوبي، أقيم مشروع يهدف إلى وضع دراسة تتضمّن سيناريوهات وخططاً لترميم وإعادة تأهيل الحمامات الشعبية، بما يتلاءم مع متطلّبات الحياة المعاصرة. وتم تنفيذ المشروع على "حمام أمونه الأيوبي".

وبناء عليه طلبت وزارة السياحة السورية من أصحاب الحمامات منذ أكثر من عشر سنوات ترميم حماماتهم وإدخال بعض الخدمات العصرية عليها كالسونا والمساج.

يقول أبو خالد " كلفنا ذلك كثيراً حيث صرفنا مصارينا وجلسنا من دون عمل". وينسحب ما حدث مع أبي خالد على غيره مما تبقّى من حمامات دمشقية.

مهنة على طريق الاندثار؟

  • حمّامات دمشق.. مَعْلم تاريخي على طريق الاندثار؟
    حمّامات دمشق.. مَعْلم تاريخي يقاوم الاندثار

تُعاني مهنة أصحاب الحمامات من صعوبات عديدة منها ناتج من التقدّم والتطوّر التاريخي، ومنها بِفعل الحرب وتداعياتها كغلاء المازوت، والصعوبة في تأمينه. يقول محمد خير التيناوي للميادين الثقافية "نضطر إلى دفع الرشاوى لتأمين مادة المازوت، عِلماً أنّه تم تخصيص كل حمام ب 5000 ليتر شهرياً، ومع ذلك لا نحصل إلا على 2000 ليتر".  

 هذه ليست معاناة التيناوي وحده. بل يَشترك معه فيها صاحب "حمام عز الدين" (أبو خالد) الذي يُصارع عبء توفير مادة المازوت، إضافة إلى الضرائب العالية. ما اضطره إلى شراء باقي احتياجه من المازوت بالسعر الحر (غير المدعوم) والذي يزيد من التكاليف المادية لتشغيل الحمام ويقلّل دخله بحيث "لا تُرسمل معه"، حسب تعبيره.

استمرار هذا الوضع يعني أن أحد المهن القديمة في دمشق مقبلة على الاندثار كلياً، حيث المصاريف أكبر من المرورد.

الصعوبات المالية اضطرت أبو خالد لإغلاق نصف حمامه مبقياً على النصف الآخر، وألغى كذلك قسم السونا لمصروفه الكبير، والذي يعتبره دخيلاً على المصلحة.

لم تختلف حمامات دمشق في حلتها القديمة فحسب، بل طال هذا الاختلاف دورها وأهميتها في الوسط الاجتماعي الدمشقي، وأصبحت معرضة مع الوقت للاندثار بشكل شبه نهائي.