"الفقر مذلّة وفضوح".. إليكم حكاية الصعاليك الذين سعوا للعدالة بقوة السلاح

منبوذون وفقراء انضووا في جماعة كانت تسلب أغنياء العرب بعض مالهم وطعامهم وتوزعه على المحتاجين، ماذا تعرفون عن الصعاليك والفتوات وتاريخهم؟

  • "الفقر مذلّة وفضوح".. إليكم حكاية الصعاليك الذين سعوا للعدالة بقوة السلاح

من الظواهر التي لا يمكن لأيّ دارسٍ لتاريخ الأدب العربي تجاوزها، هي ظاهرة الشعر الذي نظمته فئة ذات خصوصية شعرية واجتماعية مُميَّزة، تُسمَّى الصعاليك، ظهرت في الفترة السابقة للإسلام، المعروفة بالعصر الجاهلي، لكنها عرفت أيضاً امتدادات لها في القرون الأولى للفترة الإسلامية، في العصرين الأموي والعباسي.

في هذا التحقيق محاولة لتتبّع مسار نشأة هذه الظاهرة - بإيجازٍ شديد - من خلال مضمونها الاجتماعي- الاقتصادي، وليس اللغوي- الأدبي، فمَن هم الصعاليك؟ وفي ما تتلخّص نظريّتهم الاجتماعية والاقتصادية التي ضبطت حركتهم، وفي أيِّ سياقٍ تشكّلت؟


الصعاليك.. المفهوم والسياق التاريخي

لغوياً، الصعلوك هو الفقير الذي لا يمتلك قوت يومه، لكن التعريف الاصطلاحي يتجسَّد في مجموعةٍ من الأفراد تمرّدوا على واقعهم الاجتماعي المحكوم بسلطة القبيلة وأعرافها القاسية، والاقتصادي المُكرِّس لحال الفقر والعَوَز الشديد، ليُشكّلوا فئة اجتماعية أخذت مصيرها بيدها وحاولت تحقيق العدالة على طريقتها، وفق فلسفة احتجاجية، قائمة على اغتنام الأموال من جيوب الأغنياء، البُخلاء منهم خاصَّة، بقوَّة السيف، لسدّ الحاجة، ولتوزيعها على المُحتاجين، خلَّدتها قصائدهم في بيئةٍ عربيةٍ يُمثِّل الشعر وسيلتها الوحيدة للتعبير، فهو ديوان العرب وعنوان الأدب كما نقرأ في القول المنسوب لأبي فراس الحمداني.


تباينت الدوافع الحقيقية المُحرّكة لنزعتهم الاحتجاجية؛ من رفضٍ لحال التهميش التي طالت بعضهم بسبب ولادتهم لأمّهاتٍ غير عربيات من الإماء الحبشيات، وقد ورثوا سواد بشرتهن، كالسُّلَيك بن عمير التميمي المُلقّب بإبن السُّلَكَة، وثابت بن أواس الأزدي المُلقَّب بالشنفرى،  نُعتوا بــــ"أغربة العرب"، أو ردّة فعلٍ عن النَبْذ والخَلْع الذين طال البعض الآخر منهم، من قبائلهم بسبب إيغالهم في الجرائم كحاجز بن عوف الأزدي، وقيس بن الحدادية الخزاعي، وغيرهم وهم فئة "الخلعاء الشذّاذ"، فيما اتخذ البعض منهم من الصَعْلَكة سبيلاً للعيش ورؤية في الحياة كعروة إبن الورد الذي بدأ فرداً، ثم جمع حوله مَن اقتنع بنهجه من صعاليك آخرين،(أنظر التفاصيل عن بعض الشعراء الصعاليك في كتاب "تاريخ الأدب العربي"، الجزء الأول للمُستشرِق الألماني كارل بروكلمان ص من 104 إلى 109، وحول فئات الصعاليك أنظر "تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي" للمصري شوقي ضيف ص 375).


إذن السياق الاجتماعي للجزيرة العربية المحكوم من جهة، بأعرافٍ قبليةٍ تكرِّس تراتبية اجتماعية مُعيّنة  تعطي "امتيازات" لبعض الفئات مقابل تهميش فئات أخرى، ومن جهة أخرى الغياب التام لأية سلطة سياسية مركزية تُوحِّد القبائل في جزيرة العرب تحت مظلّة منظومة قانونية وقِيَمية واحدة.

ذلك أن العرب كانوا قوماً لقاحاً، وحيّاً لقاحاً "لم يدينوا للملوك ولم يُمْلَكُوا ولم يصبْهم في الجاهلية سِباءً" (حول مضمون "اللّقاحية" عند العرب أنظر كتاب المُفكّر العراقي هادي العلوي:"فصول من تاريخ الإسلام السياسي ص 367 إلى 376)، والاقتصادي الذي ميَّزه نمط عَيْش الرَعوي لأغلبية القبائل العربية، مع بعض الجيوب الزراعية المُستقرّة، و"احتكار" بعض القبائل للتجارة، بحُكم الموقع الجغرافي المُلائِم لجزيرة العرب، المُدِرَّة لموارد.

هذا الأمر نجم عنه تفاوت كبير في الغنى بين جهات وقبائل الجزيرة، أدَّى إلى انتهاج قبائل كاملة  للنّهب، أو الصَعْلَكة بمعنى من المعاني، كنمط مُعاش، على أطراف مكّة والطائف كهذيل وفهم، خلقا بيئة خصبة لبروز الصعاليك كظاهرة اجتماعية/اقتصادية تحمل ضمنها رؤية مستقلّة عن الحياة والحرية والعدالة.

الصعاليك.. رؤية اجتماعية وفلسفة حياة

دفع العَوَز الشديد بالصعاليك إلى صَوغ مفهومهم البسيط حول الثروة والغنى، وهو استغلال لما اكتسبوه مِمَّا يمكن تسميته بــ"فائضِ قوة" تَمثَّل في مهاراتهم العالية في القتال والعَدْو والكرِّ والفر، ومعرفتهم بمسالك الصحراء، بل وقوّة بيانهم، في الاستيلاء على ما وصلت إليه أيديهم من أموالٍ في قوافل الأغنياء، المُحتكرين للثروة، خصوصاً البخلاء منهم، الرافضين لمساعدة الفقراء، لسدّ الرَمَق ثم توزيعها على أصحاب الحاجة، بعد التحصُّن في مواقع وَعِرَة وآمِنة كالكهوف والمغارات وشِعاب الجبال (أنظر المفصل في تاريخ الإسلام للمؤرّخ العراقي جواد علي، الجزء9، ص614،615، 616).

ويصف ثابت بن جابر المعروف بتأبَّط شرّاً، وهو واحد من أبرز الصعاليك الشعراء حال الجوع التي عانى منها بقوله: 

قَلِيلُ ادِّخَارِ الزَّادِ إلاَّ تَعِلّةً  

فَقَدْ نَشَزَ الشُّرْسُوفُ وَالْتَصَقَ الْمِعَا

الفكرة ببساطة، تتمحور حول التمرّد على قواعد التفاوت الاجتماعي، بين الأفراد أو بين القبائل، المفروضة والمتوارثة، من خلال احتراف النَهْب كوسيلةٍ لكسر احتكار الثروة من أجل إعادة توزيعها على الفقراء والمُحتاجين، وهذا تطلَّب منهم أيضاً نَبْذ كل ما يتصل بهذا "النظام العُرفي" المتوارث في القبيلة، فأضحت لديهم رؤية خاصة للفرد الذي جعلوا منه "ذاتاً مستقلّةً"، ترفض الذَوَبان في السلطة الأبوية للقبيلة، نجدها مُجسَّدةً في الاعتزاز المُغالي بالنفس في شعرهم، وفي تمردّهم على قيود تلك السلطة، التي نبذت بعضهم للون بشرتهم كما قد نلمس في الصرخات العنيفة والمُتمرّدة لصعاليك "أغربة العرب"، فيتحوَّل الفقر المُدْقع أو الانتماء لأمَّهات من الإماء الحبشيّات، من سببٍ للتهميش الاجتماعي في القبيلة إلى قوَّةٍ مُحَفزِّة على التمرّد والمواجهة من أجل الانتقام للذات، تجد مُتنفسّاً لها في قصائد الشعر كما في الإغارة والنَهْب.

لكن الصَعْلَكة انتقلت من الطابع الفردي، إلى العمل الاحتجاجي المُنظَّم الذي يجمع مجموعة من الصعاليك ممَّن يتقاسمون البيئة الاجتماعية والرؤى والمصالح ذاتها، مع شاعرٍ صعلوكٍ من عبس خلَّد إسمه في تاريخ العرب في الجاهلية، هو عروة بن الورد العبسي المُلقَّب بعروة الصعاليك.    

 
عروة بن الورد أو "عروة الصعاليك".. النَهْب كسبيلٍ لتحقيق العدالة

لم يلفت عروة بن الورد العبسي انتباه المؤرّخين لأنه جمع حوله الفقراء في حظيرة ليرزقهم بما يغنمه فحسب. بل لأنه كان صاحب مذهب إنساني، على حد قول المؤرّخ العراقي جواد علي. فبدل أن يبحث عن خلاصه الفردي باكتناز ما يغنمه من أموال ليتحوّل إلى ثريّ، فضَّل توزيع تلك الأموال التي ينهبها، من الأغنياء البخلاء، على المُحتاجين والفقراء، وإشراكهم في مشروعه لتحقيق العدالة في توزيع الثروة في بيئةٍ أساسها التفاوت الاجتماعي.

لقد اعتبر عروة الأموال التي يغتنمها الجياع استرجاعاً لمالٍ مُحْتَكرٍ من الأغنياء، يمنعونه عن أصحاب الحاجة الذين لا يجدون ما يسدّون به رَمَقَهم، فيخرجون على الناس حاملين سيوفهم ليبلغوا بسواعدهم القيمة الاجتماعية التي تليق بهم وهو هدف يستحق بلا شك، المُخاطَرة كما عبَّر في هذه الأبيات:


خاطِر بنفسك كي تصيب غنيمة  

إنّ القُعودَ معَ العِيالِ قبيح
المال فيه مهابةٌ وتجِلَّةٌ        

والفَقْرُ فِيهِ مذلّةٌ وفُضُوح

وهو تصوّر للعدالة الاجتماعية سنجده يتكرَّر في التاريخ العربي بعد الإسلام، ليس في صعاليك العصرين الأموي والعباسي فقط، بل في الحركات الاجتماعية المختلفة التي جعلت من الفقر والعَوَز سبباً كافياً للثورة والتمرّد. لقد أظهر عروة بن الورد من خلال تعامله مع أصحابه من الصعاليك والمُحتاجين، نزعة تشارُكية واضحة في اقتسام ما يُغْنَم من أموال.

بين الصَعْلَكة والفتوّة والقَرْصَنة

لكل من هذه الظواهر التي عرفناها في تراثنا سياقاتها التاريخية المختلفة، بين ظهور الفتوّة كمُصطلحٍ وكظاهرةٍ وارتباطها بالتراث الصوفي في القرن الثاني الهجري في العراق، ثم انتقالها إلى الشام ومصر في فتراتٍ تاريخيةٍ مختلفة، وبين ظهور القَرْصَنة بشكلها المُوسَّع في العصر الحديث في بلاد المغرب وخصوصاً في الجزائر، كظاهرةٍ بدأت كمُغامراتٍ فرديةٍ وانتهت إلى شكلٍ مُنظَّمٍ وواعٍ، لكنها تقف على أرضيّةٍ واحدةٍ محورها الأول هو المبادرة لتحقيق العدالة، في غياب تام لمركزية الدولة أو ضعفها، من خلال كَسْر جميع القيود التي تُكرّس التفاوت الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، فتنقل المال الذي تراه مُحتكراً، بقوَّة السلاح، من الغني إلى الفقير.

أما محورها الثاني فيتمثّل في خلق فضاء مستقل يستقطب المُهمَّشين والمنبوذين اجتماعياً (كما رأينا في حال الصعاليك في العصر الجاهلي، أو في ظاهرة القراصِنة في العصر الحديث) الذين ينظمّون أنفسهم من أجل تحقيق ما يعتقدون أنه أهداف نبيلة، ولكن يستقطب أيضاً الطامحين والمُغامرين الذين قد يتحوّلون في ظروفٍ معينة، إلى عصاباتٍ إجراميةٍ لا هدف لها سوى الاغتناء بالنَهْب والسرقة وإرعاب البُسطاء من الناس، كما انتهت إليه الفتوّة في مصر في فترةٍ من الفترات أو "القبضايات" في بلاد الشام.