برنار ستيغلر.. أو "سارق" البنوك الذي أصبح فيلسوفاً

من مزارع ونادل ثم مربي ماشية إلى "لصّ" حارب سطو البنوك والشرطة على أمواله. كيف تحوّل برنار ستيغلر من إنسان "عادي" إلى واحد من أبرز الفلاسفة؟

  • برنار ستيغلر.. أو
    برنار ستيغلر.. أو "سارق" البنوك الذي أصبح فيلسوفاً

قال عنه أحد أصدقائه: "كان يحفر عميقاً في قاع الفكر. بالفعل، فالفيلسوف برنار ستيغلر، الذي فارقنا في السادس من آب/أغسطس 2020، عن عمر لم يتجاوز 68 سنة، لم يكن ممّن يقبل بالقليل والبسيط أو يلامس القشور. كان محققاً لا يكفّ عن النبش في مساكن وأدوات الأحياء. كما لم يكن يعزل الفعل (الممارسة) عن الفكر (التنظير)، ولذلك دائماً ما طالب بعودة الفلاسفة إلى الساحات العامة ومعانقة الحياة اليومية للناس، وبإصلاحات تعليمية شاملة لإعداد إنسان المستقبل، وبإعادة إحياء العقل النقدي وتشغيله بطاقاته القصوى، لأن الأخطار المحدقة بالحياة وبالبيئة لا تقبل أي تأخير أو تماطل.

سيرة حياة متفردة

  • برنار ستيغلر.. أو
    برنار ستيغلر.. أو "سارق" البنوك الذي أصبح فيلسوفاً

ولد الفيلسوف برنار ستيغلر (1952 - 2020) في عائلة متوسطة الحال، وقضى طفولته وتلقى تعليمه في سارسيل بالضاحية الباريسية، إلا أن ميوله اليسارية كانت سبباً في طرده من المدرسة. لم يتمم الراحل دراسته الثانوية ليحصل على الباكالوريا. وبعد أحداث أيار/مايو 1968، تلقى تكويناً ليصبح مساعد مخرج، إلا أنه لم يلتزم حتى نهاية الدروس.

كما استفاد خلال سنة 1973 من فترة تدريب في "معهد البحث في الإعلاميات والأتمتة"، أهّله ليصبح محللاً مبرمجاً. وتجدر الإشارة إلى أنه مارس آنذاك عدة مهن، فكان تارة عاملاً زراعياً وطوراً نادلاً، ومرة مساعد بناء، وأخرى مربي ماشية، وهكذا.

غير أن رفضه العمل كمخبر للشرطة، سيحرمه من حسابه البنكي، وسيقوده إلى مهاجمة وكالات بنكية كنوع من الانتقام من سطو الدولة على حسابه. لكن عمليته المسلحة الرابعة ستبوء بالفشل، وستعتقله الشرطة ليحاكم ويزج به في السجن الذي سيقضي فيه 5 سنوات. ولقد شكلت هذه الأخيرة، بالنسبة لستيغلر، فترة مراجعة للذات، ستجعله يعود إلى الدراسة من جديد. وبالفعل، سيدرس الفلسفة بالمراسلة، وسينجح فيها. 

بعد مغادرته السجن الذي يقول عنه إنه (كان أستاذي الكبير)، ونظراً لنبوغه، سيتقلد مسؤوليات عدة في قطاعات مختلفة: في الكوليج العالمي للفلسفة، وفي مركز جورج بومبيدو، وفي المعهد الوطني للسمعي- البصري، كما سيعمل كأستاذ في الجامعة. يشار إلى أنه أسس سنة 2005 ورأس مجموعة التفكير الفلسفي "Ars Industrialis"؛ وشغل منصب مدير معهد البحث والتجديد الذي أسسه في مركز جورج بومبيدو. 

مسار حافل بالعطاء

  • برنار ستيغلر.. أو
    برنار ستيغلر.. أو "سارق" البنوك الذي أصبح فيلسوفاً

أول ما يخطر ببال قارئ سطحي لسيرة ستيغلر، هو الحكم المتسرع عليه بالسير قدماً في الإجرام خصوصاً وأن الشخص انقطع عن الدراسة، وامتهن الجريمة، وقضى مدة سجنية. لكن سيرة الرجل كذّبت كل التنبؤات، وأثبتت أن الإنسان قادر على صنع ذاته واختيار مصيره. وهذا ما تم بالفعل، وخير دليل هو أجيال الطلبة الذين تعلموا على يديه، والمبادرات التي أطلقها، ومجموعة المؤلفات العميقة والمؤثرة التي أغنى بها ستيغلر المكتبة الفلسفية. ومن بين  هذه الكتب: "التقنية والزمن" في ثلاثة أجزاء؛ "إكوغرافيا، عن التلفزة" بالاشتراك مع جاك دريدا؛ "البؤس الرمزي"؛ "تكوين أوروبا" في جزئين؛ "ما يجعل الحياة جديرة أن تعاش"؛ "المجنمع الآلي"؛ "ماذا يعني التضميد. الروابط التي تحرر"؛ "ينبغي التأقلم" "حالات الصدمة: الغباء والمعرفة في القرن الواحد والعشرين"؛ "مات التشغيل، عاش العمل"؛ "العناية بالشباب وبالأجيال"؛ "عن الديمقراطية التشاركية، الأسس والحدود" بالاشتراك مع مارك كريبون؛ "المرور إلى الفعل"؛ "أن نحب، أن نحب ذواتنا، أن نحب بعضنا البعض"؛ "التفلسف صدفة"؛ "من أجل نقد جديد للاقتصاد السياسي"؛إلخ.

وبالرغم من انشغالاته الكثيرة، فقد ألف قبل وفاته كتابين: الكتاب ما قبل الأخير كان الجزء الثاني من "ماذا يعني التضميد؟ درس غريتا تونبرغ"، وجاء للرد على كل من انتقد بل وهدد الشابة غريتا تونبرغ. ومعلوم أن ستيغلر ترأس "جمعية أصدقاء جيل غريتا تونبرغ"، ليظهر الطابع التراجيدي لاستغاثة غريتا التي يقارنها بآنتيغون. أما آخر كتاب صدر له فهو: "التشعب" وعنوانه الفرعي "ليس هناك بديل". قدم لهذا الكتاب الحائز على جائزة نوبل للآداب جان ماري لوكليزيو وختمه البروفيسور في الكوليج دو فرانس  آلان سوبيو. ويعرض فيه المؤَلِّف تحليل الرهان المتعدد لما تعيشه البشرية، ويستحضر ضرورة المبادرات العالمية لإنجاز بحوث تشاركية في كل القارات، غايتها انبثاق نماذج اقتصادية واجتماعية وسياسية قائمة على مكافحة الأنتروبيا والرد على الأزمة الوجودية التي تجتازها البشرية، وتسمح بالتفرع أو التشعب نحو اقتصاد يحترم التنوع البيولوجي والحياة. 

فيلسوف إنقاذ المستقبل

على خلاف بعض الفلاسفة، لم يدخل ستيغلر السجن بسبب الفلسفة، بل جاء إليها من عالم السجون؛ كما أنه خلّف وراءه ابنة فيلسوفة (بربارا ستيغلر)، بينما لم نسمع عن إنجاب فلاسفة لمفكرين أثروا الحقل الفلسفي بكتاباتهم النظرية. ولقد قاده التقاؤه بالفلسفة في الزنزانة ودراسته لها، إلى إعداد أطروحة دكتوراه تحت إشراف الفيلسوف جاك دريدا، كللت بالنجاح سنة 1993.

ويعترف ستيغلر بتأثير بالغ في فكره مارسه فلاسفة كبار من أمثال أرسطو وأفلاطون، وهوسرل ونيتشه وهايدغر، لوروا غوران وسيموندون ودريدا ودولوز، وفرويد وفاليري. ما يعني أن المفكر ليس بناكر للجميل، بل على العكس تماماً فهو مشبع بالروح الفلسفية التي مكنته من طرق أبواب مواضيع غاية في التركيب والتعقيد.

ولاحظ ستيغلر قلة اهتمام الفكر الفلسفي بالتكنولوجيا، ولذلك كرّس معظم أبحاثه لأثر التكنولوجيا وخاصة الرقمية منها، في جوانب الحياة الإنسانية والممارسات الثقافية. انسجاماً مع ذلك حرّض الباحثين على تجديد طريقة تفكيرهم في علاقة البشر بالتقنية وبالخوارزميات على وجه الخصوص. ولولا الموت، لاستقبلته مدينة آرل، حيث كان من المنتظر أن يشارك أواخر آب/أغسطس الجاري، في مهرجان "الفعل من أجل الكائن الحي" ويتدارس مع مفكرين آخرين تيمة "العلاقة بين الإنسان والطبيعة".

إيمان ستيغلر بالتقاسم وتبادل المعارف والخبرات، جعله يفضل باستمرار العمل الجماعي وتكسير الأسوار بين التخصصات العلمية، وتطوير نماذج سياسية واقتصادية واجتماعية يساهم فيها الجميع، وتكون متوافقة مع احترام الكائنات الحية وحماية الحياة.

اقتباسات

"حتى لو أرادت الدول والشركات العابرة للقارات الرد (على تساؤلات غريتا تونبرغ)، فإنها لن تعرف كيف تجيب؛ لأنها لا تمتلك مفاهيم التغيير. ولتستطيع القيام بذلك، ينبغي بناء نقد جديد للعلم في العالم الصناعي. إن العلم خاضع كلياً لتطور الرأسمالية الصناعية. وبالتالي، فهو لم يعد يتمتع باستقلاليته، على عكس ما كان سارياً خلال القرن 18".

"من الضروري اختراع ذكاء حضري جديد. واستعمال المنصات الرقمية لتنظيم المداولات المحلية، ومنح القدرة للسكان لتملك مصير مدينتهم التكنولوجي".

"لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بشكل جدي، إذا لم نكن قادرين على تخيّل إمكان وجود نماذج سياسية مغايرة لنماذج الديمقراطية".

"يولّد السمعي - البصري سلوكيات جمعية، وليس كما يعتقد، سلوكيات فردية. القول إننا نعيش في مجتمع فرداني هو كذبة مكشوفة، وإغراء خاطئ بكيفية خارقة...إننا نعيش في مجتمع - قطيع، كما فهم ذلك نيتشه  وتوقعه".

"حتى المهندسون المعماريون أو المحامون أو الأطباء تم تحويلهم إلى بروليتاريين. لدرجة أنه في الولايات المتحدة، في جميع الولايات تقريباً، عندما يصدر قاض ما قراراً، فلا بد أن يكون قد طلب مشورة النظام الأتوماتيكي لاحتساب مدة السجن، وأدلى بمبرر قوي إذا لم يتبع حرفياً توصيات البرنامج. إنه لأمر خطير للغاية، نحن بصدد استبدال البشر بأجهزة الكمبيوتر".

"لقد حولت وسائل الإعلام الجماهيري هذه الذاكرة [البشرية] بشكل عميق منذ عام 1945، ولا سيما التلفزيون والإذاعة اللذان قاما بتوحيدها. وصار الأمر أكثر سوءاً مع شبكات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث مثل محرك غوغل، التي توجه خياراتنا، وتستبق رغباتنا وتفرغنا من أنفسنا. هذا الموقف المحاكي له نتائج كارثية، خاصة وأنه يؤثر على الأطفال في سن مبكرة. إن ما يجب الرهان عليه اليوم، هو إنتاج نماذج جديدة لتجنب تدمير الحضارة البشرية. إن ذلك مرتبط بنا جميعاً: مفكرون، ووسائل إعلام، ورجال ونساء السياسة. ينبغي التفكير بشكل جماعي في نموذج جديد".